
يضع الأستاذ الجامعي برتراند بادي الأصبع على التناقضات القائمة في النظام الدولي الذي نتج عن انهيار حلف وارسو والاتحاد السوفياتي كما أنه يعرض نظرته لما يمكن أن تكون عليه السياسة الروسية المستقبلية واحتمالات تكرار سيناريو القرم في أماكن أخرى في الجوار الروسي. وأخيرا أصدر بادي كتابا جديدا يحمل عنوان: «زمن المقهورين، تشخيص المرض في العلاقات الدولية». وفيما يلي نص الحوار:
* في رأيك، ما النتائج المترتبة على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم على العلاقات بين روسيا والغرب؟
- أعتقد أن النتيجة الأولى المترتبة على تطورات مسألة شبه جزيرة القرم تكمن في أننا بصدد اكتشاف أن النظام الدولي الذي ولد عقب نهاية الثنائية القطبية وسقوط حائط برلين كان ينهض على أسس بالغة الهشاشة، بمعنى أن الحدود التي رسمت في عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفياتي تبين أنها غير مؤكدة، هشة، ضعيفة الشرعية ومصدر مشاكل عديدة. وبالتالي، فإن أول نزاع خطير بصدد هذه الحدود التي رسمت بتسرع يظهر اليوم من خلال أزمة شبه جزيرة القرم.
الأمر الثاني: إننا اليوم بصدد دفع فاتورة مرتفعة الثمن بخصوص غياب وضعية واضحة ومحددة لمكانة روسيا في اللعبة الدولية الراهنة. فعندما انتهت الثنائية القطبية بين عامي 1989 و1991، بقي الحلف الأطلسي قائما، بينما حلف وارسو اختفى من الوجود. ولذا، حصل اختلال فاضح في الموازين بين كتلة غربية متماسكة وكتلة شرقية لم تعد موجودة، وإذا بروسيا وجدت نفسها على هامش النظام الدولي الجديد. في تلك الفترة، كانت هناك قناعة راسخة بأننا دخلنا في نظام دولي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية، بالتالي لم نعر أي اهتمام لإنشاء وتحديد شراكة جديدة مع روسيا ولا اعتراف لروسيا بوضعية محددة وجديدة. فضلا عن ذلك، سعى الغرب لتطويقها عبر مد الحلف الأطلسي إلى حدودها المباشرة وإنشاء شريط عازل حولها على غرار ما حاول الغرب القيام به بعد الثورة البلشفية. وهذا التهميش لروسيا قادها إلى موقف «انتقامي» من الغرب وللسعي لاستعادة الاعتبار لمكانتها. وعندما بلغت الأمور حدا لم تعد موسكو قادرة على تحمله كما جرى في أوكرانيا، كان علينا توقع ظهور ردة فعل روسية حادة وعنيفة. واللافت أن ذلك مكن الرئيس فلاديمير بوتين من التمتع بشعبية مرتفعة لم يحصل عليها في السابق بتاتا.
الأمر الثالث: نحن نرى عبر أزمة القرم أن المبدأين الأساسيين اللذين ينهض عليهما القانون الدولي الحالي، وهما - من جهة - مبدأ سلامة الأراضي وتحريم انتهاك الحدود القائمة. ومن جهة، مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها، هما متناقضان. في كوسوفو، قدم الغربيون مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها على مبدأ عدم المس بالحدود القائمة الذي كانت روسيا تعلن تمسكها المطلق به. واليوم وفي حالة أوكرانيا، انقلبت الأمور رأسا على عقب؛ حيث إن روسيا تدافع عن حق الشعوب في تقرير مصيرها «شعب القرم» على حساب مبدأ تحريم المس بالحدود، بينما الغربيون يعلنون تمسكهم المطلق بمبدأ سلامة الحدود، الأمر الذي استبعدوه في حالة كوسوفو كما في حالة جنوب السودان حيث دفعوا باتجاه انفصال جنوب السودان وبالتالي تغيير الخارطة الجغرافية الموروثة من حقبة الاستعمار.
إذن، نحن اليوم في وضع نكتشف فيه فجأة أن النظام الدولي الراهن لا يتمتع بأي نوع من الاستقرار، لأن المبادئ التي يقوم عليها متناقضة ولأن موقع روسيا في اللعبة الدولية الجديدة لم يحدد أبدا. وأخيرا لأن الحدود في أوروبا بدت مع الأزمة الأوكرانية أكثر هشاشة مما كنا نعتقده.
* هل يعني ذلك أن روسيا يمكن أن تكرر في مكان آخر ما قامت به في القرم؟
- يمكن أن نتفهم أن من هم معنيون عن قرب بما جرى ويجري في القرم ينتابهم الرعب من أن تكرر روسيا ما قامت به في مكان آخر.
الملاحظة الأولى هي أن عملية قضم وضم لأراض في القانون الدولي والعلاقات الدولية شيء خطير للغاية كما أنه شيء نادر. حتى سوريا، لم تضم لبنان أبدا رغم بقاء جيوشها فيه لعشرات السنوات. فضلا عن ذلك، فإن أمرا كهذا يعيد إلى الواجهة ذكريات مرة في أوروبا مثل ضم هتلر لمنطقة السوديت أو ضم النمسا قبل الحرب العالمية الثانية. ما حصل أمر بالغ الخطورة وبالطبع فإن ثمة مخاوف من أن تتكرر هذه العملية في أماكن أخرى مثلا في المناطق الشرقية من أوكرانيا وتحديدا في منطقة كارديف ودونيتسك أي في حوض الدومباس والمنطقة الصناعية الغنية في أوكرانيا. كما أن المخاوف تمتد إلى مولدافيا وتحديدا منطقة ترانسنيستري التي تطالب بها روسيا باسم جمع شمل الناطقين باللغة الروسية منذ زمن طويل وحيث ترابط فيها قوات روسية.
لكن بالمقابل يمكن أن نعتبر أن بوتين ليس من نوع الرجال الذين يركبون مخاطر غير محسوبة النتائج. لذا، لا أتوقع أن يكرر فعلته على المدى القصير، خصوصا إذا عرف الغربيون كيف ينسقون مواقفهم وإدارة الأزمة الراهنة. وبالتالي فإن لديهم الوقت الكافي لردع بوتين عن تكرار التجربة القرمية. بيد أننا لا نستطيع أن نستبعد تماما تطورات درامية في أوكرانيا، وتحديدا في شرقها، تجبر بوتين على التحرك أو التحجج بها للتحرك، ووضع اليد على هذه المناطق. عندها يمكن لروسيا أن تقول إنها تتحرك تطبيقا لمبدأ حماية المدنيين.
* لكن روسيا يمكنها أن تثير المشاكل لتبرر التدخل؟
- هذا أكيد والتاريخ مليء بالأمثلة التي تظهر ذلك.
* ما هي - برأيك - انعكاسات الأزمة الأوكرانية على إدارة الأزمات في منطقتنا وتحديدا في ملفات سوريا وإيران والسلام في الشرق الأوسط؟
- هناك بنظري أمران مهمان: الأول، أن معالجة ملفات الشرق الأوسط وتحديدا منذ العام الماضي، تجري بتوافق ضمني بين روسيا والولايات المتحدة الأميركية. والدليل على ذلك أننا تفادينا تطور الوضع في سوريا إلى حرب من نوع جديد بفضل الاتفاق بين الوزيرين كيري ولافروف بشأن الملف الكيماوي السوري في سبتمبر (أيلول) الماضي. فضلا عن ذلك، فإن المفاوضات بشأن ملف إيران النووي أفضت إلى اتفاق مرحلي في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي بفضل التفاهم بين موسكو وواشنطن. ولذا، فإن توترا طويل الأمد كما يبدو لنا بين العاصمتين المعنيتين لا بد أن يجعل الأمور أكثر صعوبة في الملفين اللذين ذكرناهما. وأريد أن أذهب أبعد من ذلك لأقول إنه منذ عام 1989، تخلينا بشكل شبه كامل عن المفاوضات كطريق لحل المسائل والنزاعات ولم نعد إليها حقيقة إلا العام الماضي. ولذا، فإننا إذا افتقدنا مجددا الحوار وإذا قطعنا الجسور مع روسيا، يمكن أن نتصور أن هناك تداعيات سلبية على هذين الملفين وعلى المفاوضات التي كانت دائرة بشأنهما.
اسمح لي أن أقول أيضا إن القوى العالمية لم تعد تلجأ للحوار والتفاوض واستبدلت ذلك، بعد سقوط حائط برلين، بالاستبعاد ورفض الحوار. و في الملف الأوكراني، كانت ردة الفعل الغربية ليست فرض عقوبات اقتصادية لأن ذلك يشكل عبئا كبيرا على الغرب بل جرى اللجوء إلى وضع الحظر على الطرف المقابل ولذا فإن الغرب عقد اجتماعا لمجموعة الدول السبع الأكثر تصنيع بعيدا عن روسيا، والاتحاد الأوروبي ألغى قمة مشتركة مع موسكو، فيما وزيرا خارجية ودفاع فرنسا ألغيا زيارة مشتركة لموسكو..
وما يشكل عامل خوف بالنسبة لي هو أن رفض الحوار والتفاوض أصبح السلاح الرئيس في مرحلة الأزمات بينما المنتظر أن يكون الوضع مختلفا تماما. في رأيي أنه في حال اندلاع الأزمات، فإن الحوار عندها هو الأمر المطلوب إذ ما الفائدة من التحاور مع أطراف تتبنى نفس المواقف ولها السياسات عينها؟
هذه الممارسة لم تكن موجودة حتى إبان الحرب الباردة وفي عز الأزمات التي عرفتها. كلنا نتذكر القمم الأميركية - السوفياتية و«الهاتف الأحمر» بين الكرملين والبيت الأبيض.. كل ذلك انتهى. قبلها كان هناك حوار دائم بين القوتين النوويتين الأكبر في العالم.
* كيف ستؤثر الأزمة الأوكرانية على السياسة الأميركية الدولية؟ وما رأيك فيما يقال من أن واشنطن كانت بصدد توجيه اهتمامها نحو القوى الآسيوية على حساب القارة القديمة (أوروبا)؟
- أعتقد أننا تسرعنا في الحكم على سياسة أوباما وفي تأكيد رغبته في الانسحاب من شجون وشؤون القارة القديمة. هذه النظرية ليست خاطئة تماما وإنما فيها الكثير من المبالغة. الثابت اليوم أن المسألة الأوكرانية تقع في أسوأ لحظة بالنسبة للرئيس الأميركي وأنها بمثابة هدية مسممة لأوباما لأنه كانت لدية الرغبة في تعديل السياسة الأميركية ودفعها في منحى أكثر واقعية. الرئيس الأميركي فهم أن بلاده لم تعد زعيمة العالم غير المنازع وجاءت هذه الأزمة لتجبره على إعادة النظر في نظرته. والأمر الثاني أن أوباما عثر على «الطريقة» التي تمكنه من البحث عن حلول لقضايا معقدة اعتبر الكثيرون أنها عصية على الحل وأولها الملف الإيراني.
* بوتين كان يحلم بإقامة حلف أوروبي - آسيوي. هل الأزمة الأوكرانية حطمت هذا الحلم؟
- أبدا. حلم بوتين هو إقامة محور يذهب من موسكو إلى بكين ويضم عددا من الدول الأوروبية التي كانت في الماضي جزءا من الإمبراطورية الروسية مثل بيلاروسيا وأوكرانيا، وجزءا من آسيا الوسطى وصولا إلى بكين. صحيح هناك صعوبات مع أوكرانيا لكن ما يهمه هو الصين. الأزمة الأوكرانية ستجعله يركز الآن أكثر من أي وقت مضى على الشرق، وبكين التي لم تعد تخاف اليوم من روسيا تعرف أن محورا يضم موسكو وبكين عملية مفيدة ومربحة للعاصمتين.