السودان: هل ثمة تسوية سياسية تلوح في الأفق؟

مبادرات إقليمية ودولية تصطدم بثوار الشارع

جانب من «مليونية الشهيد» في السودان يناير 2022 (غيتي)

السودان: هل ثمة تسوية سياسية تلوح في الأفق؟

الخرطوم: تزداد الأزمة في السودان تعقيدا في ظل مبادرات عديدة لرأب الصدع والتوصل إلى تسوية سياسية تنهي على الأقل حالة الهشاشة السياسية والسيولة الأمنية التي تشهدها البلاد منذ الإجراءات التي أطاحت بأعضاء مجلس الوزراء في 25 أكتوبر (تشرين الأول) العام الماضي، واستمر الوضع في تدهور لما بعد استقالة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك من منصبه بداية هذا العام.
وطرحت على المشهد السياسي العديد من الرؤى للحل وإيجاد مخرج من عنق الزجاجة التي فيها البلاد، من بينها الدعوة الحوارية التي طرحتها البعثة السياسية للأمم المتحدة في الخرطوم والتي حظيت بقبول لدى كافة الأطراف تقريبا لكن سرعان ما تم إبطاؤها بعد الزيارة التي قام بها مبعوث الاتحاد الأفريقي باعتباره الجهة المعنية برعاية الوثيقة الدستورية وأن الأولوية في قيادات المبادرات الدولية تؤول إلى الجهات الإقليمية.
وعندما زار الخرطوم وفد من مفوضية الاتحاد الأفريقي برئاسة موسى فكي رئيس المفوضية أبلغه الفريق أول عبد الفتاح البرهان، موقفه من حل الأزمة الراهنة وفق أربعة محاور، تشمل إطلاق عملية حوار شامل يضم جميع القوى السياسية والاجتماعية بالبلاد دون استثناء، عدا حزب المؤتمر الوطني الذي تمت الإطاحة به في ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018م، وتشكيل حكومة كفاءات وطنية مستقلة لقيادة ما تبقى من الفترة الانتقالية وإجراء تعديلات على الوثيقة الدستورية لتواكب متغيرات مشهد البلاد السياسي؛ والتأكيد على قيام انتخابات حرة ونزيهة بنهاية الفترة الانتقالية.
ولم تمض على تلك الزيارة سوى أيام معدودات حتى بعث الاتحاد الأفريقي برئيس مكتب المفوض محمد الحسن ولد لباد، الذي انخرط في مباحثات مع الأطراف السودانية من أجل تفعيل الحوار.

مشاورات قيّمة فهل يقبل بها الشارع؟
يعتقد محللون تحدثت إليهم «المجلة» أن الاتحاد الأفريقي نجح خلال الفترة، التي أعقبت سقوط نظام الرئيس عمر البشير في التوفيق بين الأطراف السودانية، وبالتالي قد يكون أكثر الأطراف تأهيلا لمعالجة الأزمة الناشبة.
وبرزت تحركات للاتحاد الأفريقي لا سيما بعد خروج مظاهرات رافضة للمبادرة الأممية، التي يسعى لبلورتها رئيس بعثة «يونيتامس» فولكر بيرتس، وهو ما قاد البعثة الأممية لتأجيل مؤتمر صحافي حددته لإعلان نتيجة مشاوراتها، إذ بررت البعثة الأممية خطوة التأجيل لإتاحة المجال للتنسيق مع الشركاء الإقليميين حول استراتيجية موحدة والتخطيط للمرحلة المقبلة من العملية السياسية.
وقال بيان صادر عن البعثة الأممية في الخرطوم، إن المشاورات التي أجراها رئيسها فولكر بيرتس وفريقه شملت أكثر من 35 هيئة وتنظيما محليا من خلال اجتماعات يومية استمرت شهرا كاملا.
وأوضح البيان أن عملية المشاورات كانت قيّمة وسمحت بالاستماع إلى مجموعة من وجهات النظر والمقترحات المقدمة من قطاعات الشعب السوداني للتغلب على الأزمة السياسية الحالية.

جانب من تظاهرات 17 كانون الثاني/يناير التي أسفرت عن مقتل سبعة سودانيين وجرح العشرات. (غيتي)


وأكدت المبادرة التي تسلمت «المجلة» خلاصة منها أن الأغلبية الساحقة أكّدت على الحاجة الملحة إلى وقف أعمال القتل والعنف في خضمّ الاحتجاجات المستمرة واعتبرتها أولويّة عاجلة. وأُتي على ذكر رفع حالة الطوارئ ووضع حدّ للاعتقالات التعسفية والاحتجاز والهجمات على المستشفيات واحترام حقوق حرية التعبير والتجمع السلمي كخطوات حاسمة لتهيئة بيئة سياسية مواتية.
وكان الإجماع لناحية إعادة النظر في عضوية أي مجلس سيادة مستقبلي وحجمه ودوره مع تفضيل إشرافه على مهام الفترة الانتقالية فقط من دون تدخّل مباشر في عمل السلطة التنفيذية. وبالمثل، حظيت فكرة مجلس وزراء مكوّن بالكامل من التكنوقراط المدنيين مع 40 في المائة كحدّ أدنى لتمثيل النساء، مع مناداة الكثيرين بزيادة النسبة، بدعم ساحق أيضاً.
وأورد التلخيص أن المشاركين أجمعوا على الضرورة الملحة لإنشاء المجلس التشريعي الانتقالي المؤلّف من مدنيين، مع نسبة 40 في المائة على الأقل للنساء. ونادوا بمراجعة التخصيص الحالي للمقاعد ليشمل القوى الثورية.
كما كان هناك إجماع على ضرورة ضمّ الجماعات المسلحة غير الموقعة، حركة تحرير السودان- عبد الواحد النور، والحركة الشعبية لتحرير السودان- شمال عبد العزيز الحلو، إلى اتفاق جوبا للسلام. وبالمثل، كان هناك إجماع على أنّ جميع القوات العسكرية وشبه العسكرية في السودان يجب أن تتّحد ضمن جيش وطني واحد غير حزبي بقيادة واحدة وعقيدة واحدة.
علاوة على ذلك، كان هناك إجماع على الحاجة الملحة إلى المساءلة عن جرائم الماضي في السودان. وأكّد معظم المشاركين على ضرورة تجديد الالتزام بتنفيذ الآليات الموعودة للعدالة الانتقالية.
وكانت وجهة نظر المتشاورين في الحوار الذي رعته البعثة السياسية الأممية، ضرورة اعتماد دستور سوداني دائم بعد عملية صياغة دستور شاملة وشفافة، في حين تطلّع عدد كبير من المشاركين إلى قوانين انتخابية وهيئات إدارية جديدة. وشدّد الكثير من المتشاورين على ضرورة استعادة الشرعية الدستورية وتحسين الوضع الأمني قبل الانتخابات.
وحسب ما جاء في تلخيص البعثة الأممية فقد كان اتفاق بأنّ الفترة المقبلة في السودان يجب أن تكون ذات طبيعة انتقالية وتتضمّن ترتيبات مؤقتة ويجب استغلال هذه الفترة للتحضير لانتخابات ديمقراطية تُعلِن نهاية الفترة الانتقالية. وكان هناك إجماع أيضا على ضرورة الاستمرار باستبعاد حزب المؤتمر الوطني من المشاركة في هذا الانتقال.
 
نجاح التسوية يفرض تقديم تنازلات من الجميع
لكن المحامي والناشط السياسي الكاشف حسين عباس يقول لـ«المجلة» إن الأفق مسدود أمام تسوية عاجلة في ظل وجود مطالب مرتبطة بتقديم المتورطين في قتل الثوار والعنف المفرط تجاه المحتجين، ورأى أن الوضع يحتاج إلى درجة عالية جدا من الحكمة، وأن التسوية تتطلب تنازلات كبيرة من كافة الأطراف، إذ على الشق المدني السياسي الحزبي التخلي عن فكرة المحاصصة الحزبية والموافقة على مبدأ تشكيل حكومة من غير المنتمين حزبيا (تكنوقراط) في مقابل الإيفاء بالحقوق العدلية من جهة المكون العسكري إزاء القتل والعنف بما فيه تقديم المتورطين في حادثة فض الاعتصام أمام القيادة العسكرية في الخرطوم للعدالة.
وأوضح أن أي حديث عن تسوية يجب أن يفهم في سياق لجنة للحقيقة والمصالحة ذات رؤية محاسبية في المقام الأول تعمل على تحديد الجرح واندماله بحكمة حكماء أهل السودان الفاعلين وقوى الحكمة الحية بمهنية قانونية ذات أفق تحكيمي.

فولكر بريتس رئيس البعثة الأممية في السودان، متحدثا في الخرطوم عن تفاصيل مبادرته بشأن الأزمة السودانية. (غيتي)


ورأى أن سيناريو الاتفاق السياسي بعد الميثاق الذي طرحته لجان المقاومة يستلزم دمج المحاور السابقة على أن تكون للبعثة الأممية والاتحاد الأفريقي دور رقابي لتنفيذ أي اتفاق محتمل بخاصة فيما يتعلق بدمج الحركات حاملة السلاح والموقعة على اتفاق جوبا للسلام.
بالنسبة إلى معلا منهل القيادي في حزب الأمة بقيادة مبارك الفاضل المهدي، فإن ما تم تسريبه من حوارات بين البعثة الأممية وطيف واسع ممن تم استطلاع آرائهم، يشير إلى نتيجة عدم وجود اتفاق إلا على الأمور التي لم تكن أصلا موضوع خلاف مثل الحكومة المستقلة بينما المواضيع الخلافية التي فجرت الأزمة مثل المجلس التشريعي والانصياع فيه ومشاركة العسكر ومواعيد الانتخابات وغيرها ما زالت المواقف حولها متباعدة ولا يرجح الوصول فيها لتوافق.
وحسب منهل في حديث لـ«المجلة»، فإن الوصول إلى تسوية سياسية غير وارد في هذه الظروف حيث المواقف متباعدة، مبينا أن أهم مطلوباتها التوافق السياسي بين اللاعبين السياسيين والمتمثلين في العسكر ومن يدعمهم، وأحزاب قوى الحرية والتغيير، ولجان المقاومة ومن خلفها من القوى السياسية إضافة للقوى المجتمعية من إدارة أهلية وطرق صوفية ومنظمات مجتمع مدني، معتبرا أنه من الصعوبة بمكان أن يتفق هؤلاء.
ورأى أن السيناريو الأقرب هو أن تمضي الأمور كما هي، وتتم تسمية رئيس وزراء والذهاب إلى انتخابات مبكرة بدعم إقليمي ودولي. مع ضمان أن يقوم العسكر بتسليم السلطة لسلطة منتخبة، في نهاية العام القادم كحد أقصى.
وبالنسبة لمواثيق لجان المقاومة– يضيف معلا منهل- أن الإيجابي فيها هو أن لجان المقاومة عبرت عن نفسها، ولكن في المجمل هي ليست برنامج انتقال، ويمكن بكل سهولة الحديث عن رؤية سياسية حزبية محددة وراء هذه المواثيق. ولكن في كل الأحوال وجود وجهة نظر تمثلهم في حد ذاته تقدم.
وفي سياق متصل علمت «المجلة» عن حوار مواز بين مبعوثين من مجلس السيادة والحزب الاتحادي الأصل من جهة وحزب الأمة القومي من جهة أخرى للاتفاق على تشكيل حكومة انتقالية تسهم في استقرار البلاد خلال ما تبقى من عمر الفترة الانتقالية المقرر أن تنتهي بانتخابات مطلع عام 2024م حسب ما جاء في الوثيقة الدستورية التي قام الفريق أول البرهان بتجميد كثير من البنود الأساسية التي حوتها.
ولم ينف عادل عبده وهو عضو بارز في الحزب الاتحادي الديمقراطي هذه المعلومات، لكنه وصف هذه المشاورات بـ«الحوار الخجول»، وقال لـ«المجلة» إن الأطراف المنخرطة في هذا الحوار تواجه غضب الشارع وقواعدها، وأن الحوار في مثل هذه الأجواء لن يقود إلى تسوية سياسية تنهي الأوضاع المأزومة إلا في حالة وجود إرادة سياسية قوية لهذه الأحزاب وأدلة قوية لإقناع قواعدها والشارع بأهمية المشاركة في حكومة انتقالية.
وأضاف عبده: «من بين القضايا المطروحة في مثل هذه الحوارات أن موافقة الحزبين الكبيرين على المشاركة في الحكومة الانتقالية رهينة ضمانات دولية وإقليمية مؤكدة بمساندة سياسية ودعم اقتصادي لتحقيق القدر المطلوب من الاستقرار وهو ما يبدو بعيد المنال في ظل الأزمة العالمية التي تسببت فيها الحرب الروسية الأوكرانية، ما يجعل السودان ليس من أولويات العالم في الوقت الحالي».

تجاهل الثوار سيسقط أي مبادرة
في غضون ذلك، فإن جميع المبادرات المطروحة تصطدم برؤية اللاعب المؤثر في الميدان وهم الثوار المحتجون في الشارع إلى جانب بعض أحزاب تحالف الحرية والتغيير التي تطالب بإسقاط «انقلاب البرهان» وانسحاب المؤسسة العسكرية بالكامل من العملية السياسية الانتقالية، وإعادة النظر في اتفاقية جوبا للسلام التي أبقى عليها رئيس مجلس السيادة وما تزال الأطراف الموقعة عليها من حلمة السلاح تدعم الإجراءات التي اتخذها البرهان في أكتوبر الماضي وتعتبرها إجراءات لتصحيح مسار الفترة الانتقالية التي تتهم بعض قوى الحرية والتغيير بالعمل على السيطرة عليها بالكامل.
ويبدو الشباب الثائر في الشارع والذي تعبر عنه تجمعات باسم تنسيقيات لجان المقاومة الأكثر حراكا ميدانيا لمواجهة الوضع القائم، وعلى الرغم من أن هذه اللجان تضم أيضا منسوبين لأحزاب الحرية والتغيير ولكنها تنشط باستقلالية كبيرة عن تلك القوى السياسية بل إن مراقبين يعتقدون أن غالبية الثوار ناقمون على القوى السياسية وعجزها عن إدارة الفترة الانتقالية في العامين السابقين بما يلبي طموحات لجان المقاومة التي تتكون في الأحياء من شباب في مقتبل العمر.
وفي هذا الصدد طرحت لجان المقاومة في العاصمة الخرطوم ميثاقا سياسيا يقوم على إسقاط النظام السياسي الحالي وتشكيل حكومة مدنية بالكامل وإنشاء مجلس نيابي.
وبالنسبة للمحلل والناشط السياسي محمد المبروك فإن الميثاق مال قليلا عن الفلسفة الأولى لثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018م كونها «ثورة قائمة على التدرج»، إلا أنه من المهم التعاطي معه بإيجابية.
لكن المبروك يرى أن الميثاق أهمل الأهمية الكبيرة للكتلة المحافظة (مقابلها الكتلة الثورية) التي أولوياتها الاستقرار والمحافظة على الدولة، وتقف بحسم ضد ما تراه تهديدا لمصالحها.
وقال إن الميثاق لم يحاول إرسال رسالة تطمين وكأنه يقول لها «المواجهة فقط في الشارع». ومع ذلك يبدو ثمة ضوء باهر في التوجهات التأسيسية التي تجتهد تنسيقيات لجان المقاومة في فرضها على طاولة الحوار العام.
لكن المبروك ينتقد اللغة الحديّة وتقسيم الشعب إلى خيرين سيقفون مع الوجهة العامة للميثاق وأشرار سيقفون ضده بالكلية أو يتجاهلونه، وقال إن هذه اللغة لم تكن موفقة وليست من أساسيات الدولة المدنية في شيء.
لكن الموقف الرافض جملة وتفصيلا للتفاوض والتسوية السياسية، لا يمثل كافة القوى السياسية على ما يبدو، فقد أبلغت مصادر مجلة «المجلة» أن قيادات بارزة في أحزاب قوى الحرية والتغيير تشمل «الأمة القومي، والتجمع الاتحادي، والبعث العربي الاشتراكي الأصل»، خاضت بالفعل حوارات مع أطراف سياسية إقليمية ودولية لكيفية معالجة الأزمة للحيلولة دون تحاشي المصير المجهول في ظل تمسك كل طرف من الفرقاء بموقفه.

 

font change