القطاع الثالث في السعودية.. متعدد الموارد وقابل للابتكار والإبداع

100 عام على القطاع الوطني غير الربحي

السعودية مستمرة في تحقيق مستهدفات النهوض بالقطاع غير الربحي (أ.ف.ب)

القطاع الثالث في السعودية.. متعدد الموارد وقابل للابتكار والإبداع

جدة: قبل نحو شهرين، انطلقت حملة وطنية إعلانية توعوية ضخمة حول «القطاع الرابح»، إذ يقول أحد الشخصيّات عند سؤاله عن القطاع الرابح: «أعرف بوجود قطاع حكومي وآخر خاص. فما هو ذلك القطاع؟».

لقد كانت محاولة ذكية للفت الأنظار إلى القطاع غير الربحي عبر تغيير المفاهيم بشأن ثقافة الكسب في عالم الأعمال، وأن الربح الحقيقي يتجاوز الرقم المالي المجرد؛ ليصل إلى الربح الاجتماعي والصحي والثقافي والتعليمي، وبخاصة في حماية الفئات الهشة من النواحي التالية (مع أمثلة مبسطة):

  • اجتماعياً (التفكك الأسري، وفاة العائل)
  • صحياً (قلة الوعي، ضعف الرعاية النفسية للمرضى وذوي الإعاقة، توفير العلاج للمقيمين غير القادرين والحالات الصحية التي لا تغطيها وزارة الصحة)
  • علمياً (ضعف فرص القبول لضعفاء التحصيل، عدم القدرة على الأعباء المالية للتعليم)
  • ثقافياً (تراجع النشاط الثقافي، الضعف المعرفي)
  • مالياً (رعاية أسر مساجين الجنايات والإرهاب، العجز عن الكسب، كف المتسولين)
  • إلى جانب نواحٍ أخرى رياضية وبيئية ومهنية.

إنه القطاع غير الربحي، الذي يمثل مظلة واسعة، يندرج تحتها العمل الخيري والثقافي والصحي والتطوعي، بل إن هناك أعمالاً تجارية وصناعية سعودية عملاقة، كرست أرباحها كاملة لخدمة المجتمع، لتنضم بجدارة إلى القطاع غير الربحي.

وتتعدد التسميات بين القطاع الاقتصادي الاجتماعي والقطاع الخيري والقطاع غير الحكومي (NGO) ومؤسسات المجتمع المدني، لكن الاسم الجديد هو «القطاع الثالث»في محاولة جادة لرفع تنافسية القطاع غير الربحي، على قدم وساق، مع القطاعين الحكومي والخاص. وتراهن إدارة السعودية الجديدة على تعظيم مساهمة القطاع في الناتج الإجمالي المحلي من 0.3في الماءة حالياً إلى 5 في المائة عام 2030.

لماذا تركز السعودية الأضواء على هذا القطاع؟ ما روافده؟ وما مدى الأثر الذي يحدثه في المجتمع؟

 

قرن على الاقتصاد السعودي غير الربحي

ليس القطاع غير الربحي جديداً على المملكة، فقد أصدر جلالة الملك السعودي الراحل عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود (1876-1953) نظاماً لتوزيع الصدقات والإعانات، يحدد أهداف الرعاية الاجتماعية عام 1928، وتواصل تأسيس اللجان الخيرية (لجنة الصدقات العليا عام 1929) ودور الأيتام والعجزة (دار أيتام الحرمين بالمدينة المنورة عام 1934 ودار العجزة والمنقطعين بمكة المكرمة عام 1963).

كما شهد عقد الخمسينات تأسيس جمعية البر، الأكثر شهرة وعدداً للفروع بمختلف المدن والقرى.

يقول أحد العاملين في القطاع الثالث منذ نحو عقدين في حديث جانبي مع «المجلة»: «لا يزال القطاع يستقطب زخماً متواصلاً من أشخاص وهيئات استشعرت أهميته وقدرته على إحداث فرق في المجتمع. تحظى القطاعات الدينية والخدمات الاجتماعية والصحية، بحصة الأسد من الاقتصاد غير الربحي. السعوديون يحبون الخير والتبرع ومساعدة الآخرين. وهذا يرتب مسؤولية إيصال تلك الأموال على شكل خدمات وسلع ودعم معنوي للمستحقين بشفافية وثقة».

ويضيف:«ليس بالضرورة أن تتوجه كل الأموال نحو الفئات الأشد ضعفاً، إذ يمكن إنفاق مزيد من أموال التبرعات على البحث العلمي والابتكار والثقافة، مثلاً، عوضاً عن الاقتصار على الحالات الإنسانية. لا بد من التغير التدريجي في النظرة تجاه القطاع الثالث. وإذا أخذنا الولايات المتحدة، مثلاً، سنجد أن التبرعات لصالح الجامعات أو الملاجئ أو مؤسسات البحث العلمي، تتيح إعفاءات ضريبية وحزماً أخرى من التشجيع الفيدرالي وفي كل ولاية على حدة».

وقام أحد الأثرياء السعوديين الكبار عام 2017 بإنشاء وقف عملاق بقيمة 60 مليار ريال (16 مليار دولار)، وضم إليه شركة دواجن أسسها قبل أعوام طويلة؛ لتصبح تلك الشركة ضمن القطاع غير الربحي، حيث توزع جميع الأرباح نحو مشاريع تنموية وخيرية، داخل المملكة وخارجها.

 

موارد القطاع الثالث وممكناته

يمتاز هذا القطاع، بأنه مرن ومتعدد الموارد وقابل للابتكار والإبداع، يتقاطع فيه الاقتصاد ونوايا الخير والمساهمة التنموية وتحسين جودة الحياة، إلى جانب توفير فرص عمل للعاطلين.

تمثل التبرعات والهبات والأوقاف والزكوات والكفارات والإيفاء بالنذور والأعمال التي توزع أرباحها على المجتمع، الموارد الرئيسية للقطاع غير الربحي.

مع التفات الإدارة السعودية إلى القطاع غير الربحي عبر المزيد من الحوكمة والتمكين، برزت مؤسسات وتشريعات هامة، تمكن القطاع غير الربحي من النمو والازدهار. فقد تأسس المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي عام 2019، ويقول الموقع الرسمي للموقع إن الهدف منه هو: «تنظيم دور منظمات القطاع غير الربحي وتفعيله، وتوسيعه في المجالات التنموية، والعمل على تكامل الجهود الحكومية في تقديم خدمات الترخيص لتلك المنظمات، والإشراف المالي والإداري على القطاع، وزيادة التنسيق والدعم».

وبالإضافة إلى المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، هناك الهيئة العامة للأوقاف، التي من صلاحياتها تحقيق الاستفادة من الأوقاف وتشغيل الأوقاف وإدارتها، في حال عدم وجود من يهتم بها أو لتحسين دخولها بأسلوب مؤسسي مع ضامن حكومي.

كما أن صندوق تنمية الموارد البشرية (هدف) يمنح امتيازات للعاملين في القطاعات غير الربحية مع تقديمات اجتماعية ملائمة من أجل تشجيع خلق فرص عمل جديدة ومساعدة المؤسسات غير الربحية في الاحتفاظ بكوادرها البشرية وتخفيف الأعباء التشغيلية عنها.

وبحسب تقرير مؤسسة الملك خالد الخيرية حول القطاع الثالث غير الربحي، يقترب عدد مؤسسات القطاع من 7 آلاف، فيما يقترب مجمل عدد العاملين من 72 ألف عامل، أكثر من ثلاثة أرباعهم بقليل من السعوديين. ويوضح أن الدعوة والإرشاد والتعليم الديني والخدمات الاجتماعية والصحية، «مقابل وجود ضعيف للمنظمات غير الربحية في مجالات البيئة والتعليم والأبحاث والثقافة». كما أظهر التقرير ارتفاع مساهمة القطاع في الناتج الإجمالي المحلي إلى 8 مليارات ريال (2.13 مليار دولار) مع وجود أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون متطوع سعودي في نشاطات مختلفة.  

 

أنسنة الاقتصاد

إن تقوية القطاع الثالث في السعودية، مفيد في أنسنة الاقتصاد، وبخاصة أن السوق السعودية عالية التنافسية، ما يعني النظر إلى الربح المادي يكون في المقام الأول. لذا، يكون أصحاب النفوذ والمال والأصول، أكثر تأثيراً بأعمالهم الخيرية بسبب إمكاناتهم الهائلة.

لا تتدخل الأجهزة الحكومية في نشاطات ومؤسسات القطاع الثالث سوى في حدود التنظيم والتأكد من نظافة التعاملات المالية، ولعل هذا هو سبب تسميتها بمؤسسات المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية. وقد تكون القطاعات الحكومية والمؤسسات شبه الحكومية، راعياً أو مقدماً للتسهيلات، وليس أكثر.

وتجد الفئات الأكثر هشاشة في مؤسسات القطاع الثالث ملاذاً آمناً في وجه تقلبات الحياة، وهي فئات مستهدفة بتحسين الدخل والتأهيل لسوق العمل على أجندة الإدارة السعودية.

إن الدخول بالقطاع الثالث إلى آفاق غير مطروقة، كما هو الحال مع مؤسسة مهرجان البحر الأحمر السينمائي، التي تصرف ما تجنيه على تنمية الأنشطة الثقافية، يساهم في فتح إثراء المشهد الفني والعلمي والصحي. فلن يقتصر التبرع وأموال الخير وأرباح الشركات المصنفة على توفير الغذاء والدواء فقط، بل ينبغي أن يتجاوزه إلى العلوم والفنون والثقافة والإبداع بجميع ألوانه، وذلك من أجل خدمة الإنسان وجعل الاقتصاد في خدمته وتنميته بالمهارات والحرف لمواجهة حقائق ومتطلبات الحياة.

إن مزيدآً من ازدهار القطاع الثالث، يعني بالضرورة أنسنةً أكثر للاقتصاد وتحقيق أثر إيجابي على حياة الأفراد، سواء كانوا مانحين أم مستفيدين!

font change

مقالات ذات صلة