«سينما الأنيميشن» ليست كلها «ديزني»

The Bad Guys

«سينما الأنيميشن» ليست كلها «ديزني»

لندن: في زمن جميل مضى، كانت أفلام الأنيميشن (أو كما كانت تعرف باسم الرسوم المتحركة) تُعرف بأسماء الدول التي تصنعها. كانت هناك، على سبيل المثال، مدرسة روسية وأخرى أسبانية بولندية وثالثة فرنسية وتلك الأكثر انتشاراً بين الروّاد من العائلات كانت أميركية.
الآن ما زالت هناك دول تصنع هذه الأفلام لكنها تبدو كما لو كانت تنتمي إلى مدرسة واحدة هي مدرسة «وولت ديزني».
أكثر من 25 فيلم أنيميشن تم صنعها، وعرض معظمها، في العام 2022 كثير منها يوفر فن الرسم على النحو ذاته الذي تقوم به استوديوهات ديزني المتخصصة. إنها ما يعرف بذات البعدين (Two Dimention) التي توفر شخصيات وحركات مسطّحة ومصنوعة على الكومبيوتر أكثر مما هي مرسومة بالفعل.
بعض آخر من نوع الدمى المتحركة والكثير منها بطريقة SloMo أي بتركيب اللقطة المنجزة تلو اللقطة المنجزة لصنع التتابع المطلوب.

سوق الفيلم الأميركي
الاهتمام بسينما الأنيميشن ارتفع في العقدين الأخيرين بعدما ازداد الطلب عليها. لم تعد مخصصة للصغار فقط (وفي الغالبية كون بعض قديمها كان للكبار أساساً) بل انتمت إلى خيال الميتافيزيقا. هي- في العديد منها- أفلام سوبر هيروز مرسومة عوض أن تكون من بطولة ممثلين من البشر الفعليين.
وهي اليوم ترقص فرحاً في سوق الفيلم الأميركي (American Film Market) المنعقد في ضاحية سانتا مونيكا على الحدود البحرية من لوس أنجليس. من بين الأفلام التي تعرض للموزّعين الآتين من حول العالم للاشتراك في هذا المحفل السنوي.
من بين هذه الأفلام Unicorn Wars الآتي من أسبانيا والمنفّذ على الكومبيوتر من قِبل مخرجه ألبرتو فاركوِيز.. الفيلم هو صراع (دموي وعنيف في الواقع) بين الجياد ذوات القرون والدبب تبعاً لمفاهيم ومصالح متعارضة. حسب المنتج جورج شامية، الذي يحضر هذا اللقاء كل سنة «لا يمكن التفكير بعرض هذا الفيلم للجمهور الواسع»، وهو لا يفكر بشراء حقوق توزيعه لهذه الغاية.

Unicorn Wars


ليس الجنوح صوب العنف سمة أفلام الرسوم هذه الأيام. على العكس، هي ما زالت محدودة والسبب هو حاجة أفلام هذا النوع للجمهور العريض.
هوليوود لا تتواني عن صنع أفلام لا تحيد عن هذا الهدف. وهو ليس هدفاً صعب الإنجاز فكل ما تحتاجه هو الفكرة التي تقود للحبكة التي تقود للسيناريو ذي الشخصيات المتعددة والمواقف المنتمية إلى ما يطرحه الفيلم من أحداث.
في الوقت ذاته، على كل ما سبق من نواحٍ واتجاهات أن يكون مسلياً وترفيهياً حمل أم لم يحمل رسائل وأبعادا.

رسائل تحتية
الحديث عن الأبعاد يقود لما تشهده العديد من أفلام الأنيميشن هذه الأيام، خصوصاً تلك القادمة من الصرح الكلاسيكي الكبير المعروف بوولت ديزني. فحسب ما تم إنتاجه في السنوات العشرين الأخيرة، ازداد عدد الأفلام التي تطرح مواضيع تحث على اعتبار المرأة والرجل هما شخص واحد في العواطف والبطولات.
تبلور هذا الاتجاه بأفلام سابقة مثل Finding Nemo (سنة 2003) وThe Lion King (في العام 2019). في الأول سمكة لا أنثى ولا ذكر وفي الثاني دعوة مفتوحة للاختلاف.
في هذا الفيلم ترفض السمكة الحمراء الصغيرة الانتماء إلى أحد الجنسين بل تشق حياتها كمستقلة عن المجتمع «السمكي» الذي تنتمي إليه.
من بين المعاني المندثرة المُشار إليها أعلاه توفير صورة لما هو ذكوري وأنثوي. تأييد الفيلم للرجولة الخفية في ذات البطلة التي عليها أن تخرج عن التقليد والمعتاد كشرط لاكتشاف حقيقة ذاتها. لا شيء ضد هذه الرسالة سوى أنها مقحمة وتخلو من العمق في هذا الفيلم. تبدو مثل ورقة شجر تطوف فوق سطح ماء النهر إلى الأبد.

Finding Nemo

وحش من البحر
لا يمنع ذلك من تواجد أفلام لا تحمل رسائل من نوع اليونيسكس بل تسرح في مضمار الرغبة في التسلية وحدها. وفي مطلع الشهر المقبل سنشاهد أحداها تحت عنوان «كيارا» البعيد عن ناصية ديزني بل وعن هوليوود كلها. فهو فيلم من البيرو تم تحقيقه كأول فيلم أنيميشن من بطولة شخصية اكتفت حتى الآن بالظهور في سلسلة من الأفلام القصيرة. هو حول فتاة بذلك الاسم تطمح بأن ترتقي لتصبح أول حامل رسائل لقبيلة إنكا. لكن وصول الغزاة الأسبان إلى موطنها يغيّر من أولوياتها.

Kayara


هذا الشهر سنشاهد فيلماً آخر من هذا النوع هو «عالم غريب» الذي تنتجه وتوزعه ديزني. تدور الحكاية حول عائلة من محبّي المغامرات تجد نفسها أمام رحلة في قلب الفضاء مع مخلوقات سبق لها أن انتقلت من الأرض للعيش في السماء.
سابقاً هذا العام شاهدنا أفلاماً مثيرة للاهتمام من بينها Lightyear الذي هو من إنتاج شركة بيكسار المتخصصة التي كانت ديزني اشترتها لكي تحتويها عوض أن تنافسها.
شاهدنا كذلك The Bad Guys المقتبس عن سلسلة كتب للصغار اشترتها شركة دريموركس لتحوّلها إلى سلسلة أفلام. النتيجة التجارية هنا لم تكن مشجعة ومستقبل هذا المشروع ما زال تحت البحث.
أفضل فيلم شوهد هذا العام لم يكن أي من هذه الواردة أعلاه بل فيلم مغامرات مشوّقة يحمل رسالة سلام ومحبّة وعدم تفرقة عنوانه The Sea Beast. هو فيلم مُدهش بمناظره وألوانه وتقنياته وحكايته وفوق كل ذلك بتكامل مساحته البصرية وعناصرها وما يظهر فيها من تفاصيل.
الكتابة في فيلم رائع التنفيذ حكاية رائعة. نتعرّف في البداية على المغامر جاكوب هولاند (صوت كارل أوربان) وهو يحاول البقاء حياً بعدما غرقت سفينته بفعل هجوم وحش بحري غامض ضرب السفينة فأودى بها. تُكتب لجاكوب الحياة عند مرور سفينة أخرى يقودها كابتن كرو (جارد هاريس). رجل ضخم الجثة، عريض المنكبين، انصرف منذ سنوات لاصطياد وحوش البحر وخصوصاً ذلك الوحش الذي يضرب السفن (الشراعية حينذاك) ويغرقها. معاً يواصلان البحث وعند مرحلة معيّنة يقتربان من النجاح وباقي الطاقم في اصطياده.
لا يتوانى الرسم عن أن يكون إعجازياً في تفاصيله وحجم ما يدور في أرجائه. في حركاته ولقطاته ذات الزوايا والأحجام المختلفة. إنه كما لو كان فيلماً حيّاً تم قلبه إلى فيلم رسوم. في الواقع كان على هذا الناقد أن يتمعّن في الدقائق القليلة الأولى ليتأكد من أن النظام المعمول به هنا ليس نظام روتوسكوب (تصوير ممثلين أحياء ثم تحويلهم إلى رسوم).
تحمل المغامرة في النهاية خطاباً حول ضرورة اعتراف الإنسان بالمخلوقات على تنوّعها، بل أيضاً اعترافه بالفوارق بين الشعوب ذاتها لخلق نواة حياة طبيعية. في خلال ذلك، هناك إدانة لعصر أوروبي انتهى (تقع الأحداث أيام اختراع البارود لأول مرّة) سعى لاستحواذ العالم وخيراته. نستطيع أن نقرأ بين السطور كلمة «استعمار» التي باتت- كحكاية الفيلم- قديمة العهد ولو أن المبدأ ربما ما زال قائماً بغلاف مختلف.

Strange World

رحلات فانتازية
يجب القول أن معظم ما نشاهده من أفلام على شاشاتنا الكبيرة منها والصغيرة (ومن بينها ما أشرنا إليه حتى الآن من تلك الرسائل الضمنية الخطرة. ليس بالضرورة هو كل ما يصل بسهولة إلينا. هناك أفلام رائعة لا يوجد موزّعون عرب لها ولا يمكن العثور عليها في المنصّات والمواقع الرسمية أو المقرصنة.
السبب في ذلك يعود، في قسم كبير منه، إلى حقيقة أن معظم هذه الأفلام أوروبية ومن نوع قد لا يجد، بين السواد المنتشر من المشاهدين، كل ذلك التقدير الذي تنعم به هذه الأفلام حين عرضها في مهرجانات متخصصة.
أهم هذه المهرجانات (التي تبلغ أكثر من 120 تظاهرة حول العالم هو مهرجان أنيسي وهي مدينة سويسرية تقع في الجنوب قرب الحدود الفرنسية. أفضل (وأقصر؟) طريق للوصول إليها هو السفر إلى فرنسا أولاً ثم ركوب قطار يدخل سويسرا جنوبي جبال الألب.
تم إطلاق المهرجان أول مرّة سنة 1960 ومنذ ثلاثين سنة تطوّر المهرجان ليصبح أهم مهرجان لسينما الرسوم في العالم.
في هذا العام شهد المتحلّقون «لا كلاب ولا إيطاليين مسموح لهم» (No Dogs or Italians Allowed). موضوع الهجرة من أوروبا لأوروبا في نهاية القرن التاسع عشر، إبّان الحرب العالمية الأولى. الفيلم قصّة شخصية إلى حد ما، فالمخرج الفرنسي لويجي أوغيتو من أصل إيطالي. عائلته نزحت من قريتها الشمالية (اسمها أوغيتيرا) إلى فرنسا سيراً على الأقدام فوق ثلوج جبال ڤيسو. لم تتألف العائلة من فردين أو ثلاثة ولا حتى أربعة أو خمسة، بل من الأب والأم وأحد عشر ولداً. يقص المخرج من خلال فيلمه مآسي النزوح ومآسي التموضع ثم التطبّع والاعتياد على القبول هنا والرفض هناك. وهو فيلم يأتي على ذكر الإحتلال الإيطالي لليبيا وبداية الحرب العالمية الأولى. بذلك هو فيلم قاس حين يصوّر الأجواء وحميمي عندما يسرد حكايات العائلة ومصائرها.
يُثير فيلم آخر، هو «الجزيرة» نوعاً آخر من الرحيل. إنه رحيل كامل من عالم واقعي إلى خيالي. مخرجته الرومانية أنكا داميان وجدت في طيّات رواية «روبنسون كروزو» أكثر مما وجد المؤلف دانيال دافو (الذي وضع الرواية سنة 1719). الحكاية المعروفة هي وصول ذلك الأوروبي إلى الجزيرة بعد حطام السفينة التي كان يستقلها. بعد فترة من الوحدة يلتقي بمواطن اسمه فرايداي وكلاهما يمنح الآخر شيئاً من فكره وثقافته وذاته. هذا الخط ما زال هنا مضافاً إليه شخصيات جديدة منها ما هو آدمي ومنها ما هو مترجم إلى أشكال غير ذلك. من الإضافات المهمّة هو أن كروزو الآن، وقد التقى بمن التقى من شخصيات الجزيرة ينطلق في بحث عن الجنّة أو عن العالم المثالي الذي يتجاوز عقدة لون البشرة أو الثقافة الوطنية أو تلك الآتية من بعيد.

مناهج
على نحو أقل إتقاناً، يأتي الفيلم الإيطالي «يايا ولَني- الحرية السائرة» (Yaya and Lennie-‬ The Walking Liberty). هنا ينقلنا المخرج أليساندرو راك إلى زمن مستقبلي لا يُغادر الأرض لكن أحداثه تقع بعد أن تغيّرت شروط الحياة عليها. في منطقة نابولي أدّت نهاية الحضارة كما نعرفها إلى انتشار كثيف لأدغال استوائية في إيطاليا وعلى الفتاة يايا والعملاق لَني (شخصيتان متناقضتان إلا في فهمهما ضرورة مواجهة الأشرار معاً) أن يواجها متاعب تلك الحياة التي تسعى السلطات إلى السيطرة على كل مقاديرها ومواطنيها سيطرة تصل إلى حد العبودية (على غرار يذكّر بتوقعات جورج أوروَل).
منهج المخرج راك عثرة في سبيل قبول الفيلم خارج نطاق فكرته. لقطاته مؤسسة كما لو كان المرء يُشاهد فيلماً حيّاً ركيك الأسلوب. القطع متوال وكثيف والتركيز على خلق حالة مفاجئة في كل مشهد حتى ولو لم يكن هناك ما هو مفاجئ.
من بين العشرين فيلما التي عرضت في المسابقة شاهدنا كذلك «نايولا» للبرتغالي جوزيه ميغيل ربييرو. هذا أول فيلم له وأسلوب عمله ليس مبهراً، بل يعكس متاعب حول كيف يمكن للفيلم وحكايته الانتقال من حالة إلى أخرى بتلقائية أفضل. تنطلق الأحداث في أنغولا سنة 1995 ثم تنتقل إلى الزمن الحالي. في الزمن الأول صراع سلطة خلال حرب أهلية، وفي الزمن الحاضر هناك بحث لامرأة عن زوجها الذي اختفى منذ ذلك الحين.
سينما الأنيميشن للعام المقبل ستبقى نشطة سواء التقطناها في المهرجانات أو في الأسواق التجارية. لم تعد أرخص كلفة من أفلام حيّة عديدة، لكنها تدفع دوماً باتجاه الفانتازيا والسيريالية وبعض الواقع.

font change