"أبو نضال أو أبو شميدال، لا فرق... سندمّر منظّمة التحرير الفلسطينية"  

أربع ذرائع استُخدمت لتبرير الحرب والغزو

الصورة لبرين كولتون/ غيتي
الصورة لبرين كولتون/ غيتي
جندي اسرائيلي على تلة تشرف على مطار بيروت في يونيو/ حزيران 1982

"أبو نضال أو أبو شميدال، لا فرق... سندمّر منظّمة التحرير الفلسطينية"
 

خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ابتدع الفلاسفة الأوروبيّون وعلماء السياسة المصطلح اللاتيني القديم "casus belli" بمعنى "مبرّرات شنّ الحرب". ويحدّد القانون الدوليّ الحديث ثلاثة مسوّغات قانونية للحرب أولها الدفاع عن النفس؛ وثانيها الدفاع عن دولة حليفة بموجب معاهدة؛ وثالثها الالتزام بقرار الأمم المتحدة لشنّ الحرب.

وفي مطلع ثمانينيات القرن العشرين، صاغ وزير الخارجية الأمريكي ألكسندر هيغ تلك العبارة القديمة بكلمات أقل تعقيدًا، قائلًا إنه لن يُسمح لإسرائيل تحت أي ظرف من الظروف باجتياح لبنان "بدون ذريعة". كانت كلمة "ذريعة" أسهل بكثير في الفهم - والترويج – من عبارة "مبرّرات الحرب". ومع ذلك، لا تهتم جميع الدول بإيجاد "ذريعة" لإعلان الحرب على دولة أخرى. ويكون الدافع لشن الحروب في كثير من الحالات هو التوسع المباشر والجشع الإقليمي، على غرار غزو أدولف هتلر لبولندا عام 1939 أو ضم صدام حسين للكويت عام 1990.

وفي 20 نوفمبر 2022، انضم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى قائمة قادة العالم الذين سعوا لإيجاد ذرائع لإطلاق عملية "المخلب – السيف" العسكرية ضد الأكراد في شمال سوريا.

وحدّد مبرّراته الشكليّة حينئذ في الهجوم الإرهابي الذي نُفِّذ في شارع الاستقلال الشهير عالميًا بإسطنبول بتاريخ ١٣ نوفمبر/ تشرين الثاني، وأسفر عن مقتل ستة أشخاص وإصابة 21 شخصًا بجروح. وعلى الفور، ألقى المسؤولون الأمنيون الأتراك باللائمة على الانفصاليين الأكراد الذي يتخذون من سوريا مقرًا لعملياتهم، ثم أرسلوا طائراتهم الحربية لقصف مواقعهم أملًا بإجبارهم على الخضوع أو الاستسلام.

لطالما تاق الرئيس التركي إلى شنّ هذه العمليّة، لكن حلفاءه الإيرانيين والروس أجبروه على التخلي عنها. كان – هو أيضًا – بحاجة إلى ذريعة للغزو، وقد وجد ضالّته الآن مع القتلى الستة في شارع الاستقلال. وعلى أثر ذلك، تعرضت 89 قاعدة تخص قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة للقصف منذ 20 نوفمبر، إلى جانب مستودعات الذخيرة والأنفاق والطرق. كل ذلك تم تبريره بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة: حق تركيا في "الدفاع عن النفس".

ونستعرض فيما يلي بعض "الذرائع" المماثلة التي استخدمها قادة آخرون قبل أردوغان بفترة طويلة.

مقتل الأرشيدوق النمساوي فرانز فرديناند عام 1914

في 28 يونيو/حزيران 1914، أطلق جافريلو برينسيب، البالغ من العمر تسعة عشر عامًا، النار من مسدسه على السيارة المكشوفة التي كانت تقلّ أرشيدوق الإمبراطورية النمساوية المجرية فرانز فرديناند، أثناء زيارة له إلى سراييفو، فلقي مصرعه. لكن السلطات الصربية رفضت مزاعم النمسا بتسليح وتدريب الشاب برينسيب. استخدمت النمسا ذلك الرد من صريبا "كذريعة" لإعلان الحرب عليها، مما أشعل فتيل الحرب العالمية الأولى رسميًا. ربما كانت هذه أشهر "الذرائع" في تاريخ العالم الحديث. وتم بعدئذ إعفاء برينسيب من عقوبة الإعدام بسبب عمره، واستُبدل الحكم بالسجن لمدة عشرين عامًا في قلعة تيريزين (وهي الآن في جمهورية التشيك)، ولكنه توفي بعد ذلك عقب إصابته بمرض السل في أبريل/نيسان ١٩١٨، أي قبل سبعة أشهر فقط من انتهاء تلك الحرب.

البرقية السورية ١٩٢٠

في 14 يوليو/تموز 1920، أبرق فيصل الأول، ملك سوريا الجديد، مهنئًا الحكومة الفرنسية بيوم الباستيل. فجاء الردّ في رسالتين احتوت الأولى خطاب شكر على "رسالته الطيّبة"، وحملت الثانية إنذارًا مذيّلًا بتوقيع الجنرال هنري غورو، المفوّض السامي الفرنسي في بلاد الشام. ومن بين أمور أخرى، طُلب من الملك فيصل حلّ جيشه، واعتقال السوريين المناهضين لفرنسا، وقبول الانتداب الفرنسي وفق ما نصّت عليه اتفاقية سايكس- بيكو التي جرى التوصل اليها في 1916. وأعطى غورو الملك فيصل موعدا نهائيا لتلبية هذه المطالب في منتصف ليل 17 يوليو/ تموز 1920.

وعندما أدرك فيصل ضعف جيشه، قبل جميع إملاءات غورو. لكن الجنرال الفرنسي قال إنه كان يتوقع "الامتثال" بحلول 17 يوليو، وليس مجرد "القبول".

وبناء عليه، جرى تحديد موعد نهائي آخر هو منتصف ليل ٢٠ يوليو. وقد امتثلت الحكومة السورية، وحلّت جيشها رسميًا ووثقت ذلك كتابيًا في برقية أرسلتها إلى غورو الساعة 5:02 مساءً في 20 يوليو. ادعى غورو والغضب يفور منه أن البرقية وصلت إليه بعد الموعد النهائي المحدد، وأمر قواته بالزحف نحو دمشق. واشتبك الجيشان السوري والفرنسي في معركة ميسلون في 24 يوليو، وانتهى ذلك بمذبحة للقوات السورية، وعزل فيصل، وفرض الانتداب الفرنسي على سوريا. لقد كانت البرقية "المتأخرة" ذريعة فرنسا لشن الحرب بغرض غزو واحتلال دمشق.

جمال عبدالناصر ومضيق تيران

بعد حرب السويس عام 1956، وافقت مصر على تمركز قوة الطوارئ التابعة للأمم المتحدة لحفظ السلام في سيناء. وفي عام 1967 قرر الرئيس جمال عبدالناصر سحب قوة الطوارئ وإغلاق مضيق تيران أمام جميع سفن الشحن الإسرائيلية، مما أدى إلى إغلاق ميناء إيلات في الطرف الشمالي من خليج العقبة. كان عبدالناصر يأمل أن يدفع هذا الإسرائيليين إلى وقف هجماتهم على سوريا، البلد الذي يكنّ له عبد الناصر مشاعر خاصّة (حيث كان رئيس "الجمهورية العربية المتحدة" بين عامي 1958 و1961). والأهم من ذلك وجود اتفاقية للدفاع المشترك بين مصر وسوريا، وقد شعر عبد الناصر بضرورة احترامها ووضعها قيد التنفيذ. وردّت إسرائيل بأنها ستعتبر هذه الأعمال بمثابة إعلان للحرب، وهو الرد الذي قرر عبد الناصر تجاهله.

شعر عبد الناصر بضرورة احترام معاهدة الدفاع المشترك مع سوريا ووضعها قيد التنفيذ. وردّت إسرائيل بأنها ستعتبر هذه الأعمال بمثابة إعلان للحرب، وهو الرد الذي قرر عبد الناصر تجاهله

وفي سياق أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد الحرب مباشرة، جادلت عدة دول بأنه حتى لو أعطى القانون الدولي لإسرائيل حق المرور عبر مضيق تيران، فلا يحق لإسرائيل مهاجمة مصر لتأكيد ذلك الحق لأن الإغلاق لم يكن "هجومًا مسلحًا" على النحو المحدد في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة. ومع ذلك، فقد جادل أستاذ القانون الدولي جون كويغلي بأن إسرائيل سيكون لها الحق في استخدام تلك القوة فقط على قدر الضرورة التي قد تراها لتأمين حقها في المرور عبر مضيق تيران.

 

كان هذا هو "المبرر" الذي تذرّعت به إسرائيل لشن حربها عام 1967. وخلافًا لهذا "المبرر"، صرح وزير الدفاع مناحيم بيغن في وقت لاحق من تلك الأيام: "لم تُظهر مواقع تمركز الجيش المصري في أراضي سيناء أيّ نيّة من ناصر لمهاجمتنا. يجب أن نكون صادقين مع أنفسنا. لقد قررنا نحن مهاجمته".


محاولة اغتيال شلومو أرغوف عام ١٩٨٢

في 3 يونيو/ حزيران 1982، نفّذت الجماعة الفلسطينية المسلحة المعروفة باسم "المجلس الثوري لحركة فتح" محاولة اغتيال فاشلة للسفير الإسرائيلي في لندن شلومو أرغوف. وقد جرى تنفيذ العملية بأوامر من صبري البنا (المعروف بأبي نضال)، العدو اللدود لياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية. نجا أرغوف من محاولة الاغتيال، لكنه أصيب بالشلل والعمى حتى وفاته في عام 2003.

 

وقد استُخدمت قضيته كمبرر للحرب واجتياح لبنان، وكان القصد المعلن من هذه الحرب هو سحق عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية. وفي اجتماع لمجلس الوزراء الإسرائيلي حينذاك، جرى تذكير رئيس أركان الجيش الإسرائيلي رافائيل إيتان بأن منظمة التحرير الفلسطينية لا علاقة لها بمحاولة اغتيال أرغوف، وأن ذلك من صنيع أبو نضال. فما كان منه إلا أن قال عبارته الشهيرة: "أبو نضال، أو أبو شميدال، لا فرق عندي؛ يجب تدمير منظمة التحرير الفلسطينية". وفي 6 يونيو، انطلقت عملية "سلام الجليل" بغرض "تدمير منظمة التحرير الفلسطينية"، ما أدى إلى اجتياح لبنان واحتلال بيروت.

font change