ضابط "انفصالي" عن عبدالناصر: كان وطنياً...لكنه مستبد واعتمد على "متوحش"

ذكريات شفوية لموفق عصاصة تروي قصة "الوطن الحزين" وانقلاباته

ارشيف من فيصل طلس
ارشيف من فيصل طلس
اللواء عصاصة مصافحا الرئيس جمال عبد الناصر 

ضابط "انفصالي" عن عبدالناصر: كان وطنياً...لكنه مستبد واعتمد على "متوحش"

طوت سوريا قبل أيام صفحة لافتة من صفحات تاريخها الحديث بعد أن غيّب الموت ابنها اللواء موفق عصّاصة الذي تشبه سيرته الشخصية الحافلة بالأحداث والتقلّبات سيرة وطنه السوريّ الحزين، والذي شاءت له أقداره أن يغدو "بطلاً" لحكاية لم يكن الرجل يريد أن يكون فيها اصلاً.

عن عمر ناهز الخامسة والتسعين، فارق اللواء عصّاصة الحياة صباح الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني الماضي في مُغتربه الأميركي في كاليفورنيا التي أمضى فيها أعوامه الأربعين الأخيرة، بهدوء بين أفراد أسرته التي انتقلت للعيش في الخارج، ودُفن في مقبرتها الإسلامية بعد مراسم عائلية بسيطة.

يمكن اختصار حياة موفق عصّاصة، أحد رجال الرعيل الأول للجيش السوري الذي شارك في حرب فلسطين، ثم دخل سلاح الطيران ليصبح قائداً له في عهد الوحدة السورية- المصرية، ثم كان أحد أبرز "الضباط الشوام" الذين ارتبطت أسماؤهم بانهيار "الجمهورية العربية المتحدة" وأحد أبرز ضحايا انقلاب الثامن من آذار/ مارس البعثي بعد ذلك بعامين، حيث دخل السجن لأشهر عدة قبل أن يخرج منه مُسرّحاً بغير مورد رزق وباحثاً عن حياة جديدة قادته في نهاية المطاف إلى الولايات المتحدة، في أربع محطات رئيسة: 1948 وحرب فلسطين- الانفصال عام 1961- انقلاب حزب البعث ووصوله إلى السلطة عام 1963 - ثم القرار بالهجرة في 1982.

تعرّفتُ على "موفّق بك" في مرحلة متأخرة بعدما قرأت الكثير عنه وعن تاريخ وطنه، وكان من حسن حظي أن أحظى بثقته وصداقته، وأن نمضي ساعات طويلة على الهاتف، وأنا أستمع إلى حكايته التي رواها لي بتفصيلاتها في ربيع 2018، قبل أن تخونه ذاكرته، ثم صحته التي أسلمها طوعاً إلى قاتل صامت اسمه "ألزهايمر". ألححتُ في تلك المرحلة على الرجل ليكتب مذكّراته، أو لنكتبها معاً، لكنّه كان يعتذر دوماً بلطفه المعتاد، وبحجّة أن الذاكرة لم تعد تسعفه. أصر على الرفض أكثر من مرة، وبأكثر من حجّة، لكنه اعترف لي في النهاية بأنه لا يريد أن ينكأ جراح الأمس الذي مضى، خوفاً منه على أسرته من غضب غاضبٍ أو حقد حاقد!

1948: "الهرولة إلى فلسطين"

شارك الشاب الدمشقي بحماسة في التظاهرات التي شهدتها سوريا ضد الانتداب الفرنسي قبل أن تنال استقلالها عام 1946، وكان قومي الهوى وقريباً من أفكار حزب "البعث" الذي لم ينضم إلى صفوفه أبدا. في العام ذاته، دخل الكلية العسكرية في حمص في أول فوج يلتحق بالكلية بعد تأسيسها. ضم الفوج مجموعة من الشبان السوريين الذين ستكون لهم أدوار مختلفة ومتناقضة في تاريخ سوريا الحديث والذي جمع بينهم جميعاً أنهم تخرّجوا على عجل، قبل أن يستكملوا علومهم العسكرية للمشاركة في حرب فلسطين من دون عتاد أو تدريب كافيين، ودون سلاح طيران أو استراتيجية عسكرية فعلية.

خلّفت الهزيمة العسكرية مخزوناً عميقاً من الإحباط والغضب بين أفراد العسكريين الذين كان منهم عدنان المالكي وجاسم علوان ولؤي الأتاسي وعبد الغني قنوت وعبد الغني دهمان ومحمد الصوفي ومصطفى حمدون وسامي الحناوي وياسين فرجاني وأديب الشيشكلي وجمال الصوفي وموفّق عصّاصة الذي وجد أن غياب سلاح الطيران العربي كان أحد الأسباب الرئيسة للهزيمة، وصمّم على الالتحاق بسلاح الطيران في محاولة منه لإحداث تغيير ضروري في بنية الجيش.

في أعقاب حرب فلسطين، استهل الجيش السوري سلسلة الانقلابات العسكرية المتلاحقة. أنهى حسني الزعيم عهد شكري القوتلي في مارس 1949، ثم أنهى سامي الحناوي وعديله أسعد طلس عهد حسني الزعيم في أغسطس/ آب من العام نفسه، ثم أنهى أديب الشيشكلي وأكرم الحوراني عهد سامي الحناوي قبل انقضاء العام. ونتيجة للانقلابات هذه ولعجز النُّخب السياسية عن بناء صيغة وطنية جامعة، دخلت سوريا مرحلة من عدم الاستقرار انتهت بسقوطها المتسرّع في الحضن المصري الذي توضّحت أبعاده عقب وصول جمال عبد الناصر إلى السلطة هناك في مطلع الخمسينات.

انضم موفق عصّاصة إلى سلاح الطيران الحديث عام 1950 وأرسل في دورات تدريبية عديدة إلى إيطاليا وبريطانيا والاتحاد السوفياتي. وخلال ثمان سنوات وجد الشاب ابن الواحدة والثلاثين عاماً نفسه قائداً للقوات الجوية في الإقليم الشمالي لـ"الجمهورية العربية المتحدة".

نتيجة للانقلابات المتلاحقة في سوريا ولعجز النُّخب السياسية عن بناء صيغة وطنية جامعة، دخلت سوريا مرحلة من عدم الاستقرار انتهت بسقوطها المتسرّع في الحضن المصري الذي توضّحت أبعاده عقب وصول جمال عبد الناصر إلى السلطة هناك في مطلع الخمسينات

1961: زعيم انفصاليّ رغماً عنه

اندفعت سوريا إلى وحدتها مع مصر في محاولة مرتجلة لتجنُّب استعصاء سياسي كان ذاهباً إلى مواجهة داخلية تهدد سلامة الوطن السوري. ومن دون حصولهم على موافقة رئيس الدولة آنذاك، شكري القوتلي، قرر 14 من ضباط الجيش- يؤكد موفّق عصّاصة أنه لم يكن واحداً منهم- الذهاب مباشرة إلى عبد الناصر طالبين نجدته، لإقامة وحدة فورية بين البلدين. تردّد عبدالناصر في البداية، ثم وافق بعد أن أجبرهم على القبول بكافة شروطه. لم تكن موافقة بعض الضباط على شروط عبد الناصر موافقةً عن قناعة، وكان لذلك أثر كبير على التطورات التي شهدتها دولة الوحدة في السنوات اللاحقة.
 استغرب عصّاصة قبول زملائه بالشروط المصرية، خصوصا أن أحد الضباط الـ14 الذين شكّلوا الوفد كان المقدّم بشير صادق صهر عصاصة. وعلى الرغم من أنه فاتح صهره بتحفّظاته على الارتجال الذي واكب قيام دولة الوحدة، إلا أنه لم يخرج بآرائه إلى العلن، بعدما اتضح أن النفوذ المصري أخذ يتغلغل في سوريا، في ظل سطوة أمنية ومخابراتية متصاعدة قادها عبدالحميد السرّاج الذي كان أُذُن وعَيْن وعصا الرئيس عبد الناصر في "الإقليم الشمالي" لدولة الوحدة.

الصور بإذن من فيصل
طاقم سرب طائرات "ميغ 17" السوري اثناء عهد الوحدة مع المقدم موفق عصاصة واللواء وديع المقعبري والمقدم لؤي الاتاسي

يؤكد اللواء عصّاصة أن "الأمور في دولة الوحدة لم تَسِرْ كما كان مأمولاً منها، وأن التذمُّر الداخلي كان آخذاً في التصاعد في كل يوم، وكان في الإمكان تجاوز هذا الوضع لو أن الضباط المصريين الذين جاؤوا إلى سوريا كانوا أكثر دبلوماسية وانضباطا وأقل استخفافاً بنظرائهم السوريين، لكن ذلك لم يحصل مع الأسف". حادَثَ اللواء عصّاصة زميله المصري العقيد أحمد زكي في شأن تجاوزات يرتكبها الضباط المصريون في سوريا وطلب إليه نقلها إلى القيادة المصرية وبالتحديد إلى المشير عبدالحكيم عامر الساعد الأيمن لعبدالناصر ورجلُهُ القويّ في "الإقليم الشمالي"، لكن لم يتغيّر شيء.
تصاعدت الاحتجاجات المكتومة بين مجموعة من الضباط الدمشقيين الذين عُرفوا لاحقاً "بالضباط الشوام" وكان في مقدمتهم المقدّم عبد الكريم النحلاوي مدير مكتب عبد الحكيم عامر في دمشق (لا زال حياً يُرزق في الولايات المتحدة، لكنه يعاني من وضع صحي صعب). 
تحدّث عصّاصة مع زميله النحلاوي في الأوضاع المتردّية لجيش دولة الوحدة، لكن عصّاصة يؤكد أن "النحلاوي لم يفاتحه مطلقاً في رغبته في فصم عرى الوحدة، وإنه شبه متأكد أن النحلاوي نفسه لم يكن في وارد العمل على إسقاط دولة الوحدة". وقال لي عصّاصة أيضاً أنه التقى النحلاوي بعد حصول الانفصال بسنوات طويلة وعاتبه لعدم إبلاغه مسبقاً بنيّته، وأن النحلاوي أخبره أن ذلك كان أمراً مستحيلاً في ظل الرقابة المصرية الكاملة التي كانت تحصي على الناس أنفاسهم وأنه اقتنع بجواب النحلاوي. وكان لافتا لي أنني وجدتُ عصاصة يُثني بوضوح على عبد الناصر باعتباره "رجلاً وطنيا ونظيفا، لكنه كان في الوقت نفسه شخصاً مستبدّاً لا يؤمن بالديمقراطية، ويعتمد بشكل كامل على رجل مخابراته، المتوحّش عبدالحميد السرّاج الذي كان أحد أهم أسباب انهيار دولة الوحدة الواعدة".

وروى لي اللواء عصّاصة، بتفصيل دقيق، وقائع ما جرى في تلك الساعات الحاسمة التي أدت إلى الانفصال أواخر شهر سبتمبر/ أيلول 1961. وقال: "إنني أرفض تسمية ما حصل بالحركة الانفصالية، وأقسم لك من جديد أننا لم نكن نريد الانفصال عن مصر، وكان أقصى ما نريده هو إيصال صوتنا إلى عبد الناصر، ويزعجني حتى اليوم أنه يُشار إلينا باعتبارنا "ضباط الانفصال" لأننا وحدويون حتى العظم، ومخلصون لمبادئنا. لقد كان لدولة الوحدة خصومٌ كثيرون. وكانوا ناشطين ومتنفّذين: البورجوازية السورية التي ساءتها قرارات التأميم، والدول العربية والإقليمية، لكننا بالتأكيد لم نكن في صفّهم. لقد أكّد لي النحلاوي شخصياً، أكثر من مرة، أنه لم يكن يريد الانفصال، لكنني لا أستطيع أن أجزم بالتأكيد، فالله وحده يعلم بسرائر الأمور". وتابع: "شخصياً، لم أكن على علم بأي تحرّك في الليلة التي سبقت ذلك اليوم العاصف، ولم ألحظ أية ترتيبات أو تحرّكات غير اعتيادية، وأنهيتُ عملي وذهبتُ إلى منزلي كعادتي في كل يوم.
حوالى السادسة صباحاً في 28 سبتمبر 1961 جاء إلى منزلي صديقي العقيد عبد الغني دهمان ليبلغني أن هناك عصياناً مسلّحاً ضد دولة الوحدة، وأنه علينا أن نذهب لنستطلع الأمر. ارتديتُ ملابسي وذهبتُ معه. كان مبنى القيادة محاطاً بعدد كبير من المدرّعات والعربات العسكرية. وكان المشير عبد الحكيم عامر الذي كان في زيارة إلى سوريا موجوداً فيه. أضاف: "دخلنا المبنى الذي كان مضطرباً إلى أبعد حد. هناك وجدنا المقدّم عبد الكريم النحلاوي وبعض زملائنا الآخرين. كان قادة الانقلاب يريدون معرفة موقفي من تحرّكهم واتفقت آراؤنا على أن الممارسات المصرية في سوريا قد بلغت حداً لا يطاق وبات من الضروري إصلاح الأمور جذريا. كان لا بدّ من حوار ندّي مع قادة الضباط المصريين، وربما مع عبد الناصر نفسه، واستقرّ الأمر على تقديم مطالبنا الإصلاحية إلى المشير عامر شخصيا. حدّدنا المطالب واتفق الجميع على أن أحملها وأدخل للقاء المشير وهكذا كان. دخلتُ إلى مكتب المشير وأدّيتُ له التحية العسكرية. سألني فوراً: ما هذا الذي تقومون به؟ هذه خيانة للوحدة والمبادئ ولكل تعهداتكم السابقة. رددتُ باحترام كامل قائلاً: نحن ما زلنا على العهد يا سيدي، ونريد الحفاظ على الوحدة التي ما زلنا نؤمن بها، لكنّ هناك مطالب ما عاد بالإمكان التغاضي عنها بعدما غدت الأمور عصيّة على الحل. سأل المشير عن مطالبنا فأوردتها له بالتفصيل. لم يُبدِ المشير أية معارضة تُذكر وقال إن عليه أن ينقلها فوراً إلى الرئيس عبد الناصر عبر الهاتف. وافقتُ وانسحبتُ من الغرفة بعدما أدّيت التحية العسكرية من جديد، وانتظرت هناك في الممر ريثما ينتهي من اتصاله الهاتفي، ثم ذهبتُ للقاء بقية الضباط لإبلاغهم بما جرى، وظل عبد الحكيم عامر يتحدّث مع عبدالناصر فترة تكاد تصل إلى نصف ساعة. وفيما نحن جالسون جاء إلينا مسرعاً ضابط من سلاح الإشارة (لم يعد اللواء عصّاصة يذكر اسمه) أبلغنا أنه كان يستمع إلى المكالمة التي دارت بين عامر وعبد الناصر، وأن الأول أبلغ الرئيس ان هناك حركة عصيان عسكري لا بد من التعاطي معها بحزم، وأن رد عبد الناصر كان واضحاً، ويقضي بإشغالنا لفترة ريثما يتم إعداد القوات المصرية التي كانت موجودة في سوريا آنذاك للتصدّي للعصيان بعد دعمها بقواتٍ أخرى ستُرسل إلى سوريا فوراً. فوجئنا بخديعة المصريين وقررنا التدخُّل فوراً لإحباط خطتهم. جرى اختيار الضباط الواجب عليهم السيطرة على القطعات المهمة ومنع تحرّك أية قوات برية أو بحرية أو جوية مصرية في سوريا".

وتابع: "في جوّ من التوتر خرج عبد الحكيم عامر من مكتبه ودار بيننا حوار مقتضب قال فيه أن عليه أن يغادر إلى القاهرة فوراً لاستكمال نقاشه مع عبد الناصر. طبعا لم نخبره بمعرفتنا بحقيقة ما دار في المكالمة، ووافقنا على مغادرته والبدء بتجهيز طائرته فوراً. كما أنني أخبرته أنه سيكون من دواعي سروري أن أرافقه شخصياً إلى المطار احتراماً له. لكنني فوجئت بالفريق جمال فيصل، قائد الجيش الأول، يصرّ على مرافقتنا إلى المطار، ويصرّ هناك على أن يركب الطائرة مع المشير ليغادر معه إلى مصر! أقلعت الطائرة وعدتُ إلى دمشق، وفي طريق عودتي استمعت الى الإذاعة المصرية وقد باشرت توجيه اتهاماتها بالعمالة والخيانة، وبدا واضحاً أن الأمور تتطور في اتجاه وحيد، وأن الوحدة المصرية- السورية قد لفظت أنفاسها، وبات على سوريا أن تتلمّس من جديد مسيرتها نحو المستقبل".

تصاعدت الاحتجاجات المكتومة بين مجموعة من الضباط الدمشقيين الذين عُرفوا لاحقاً بـ "الضباط الشوام" وكان في مقدمتهم المقدّم عبد الكريم النحلاوي مدير مكتب عبد الحكيم عامر في دمشق 

1963: زمن "البعث"

سقطت حكومة الوحدة وفشلت محاولة مصرية لقمع العصيان وأصبح الانفصال أمراً واقعاً. وعادت سوريا إلى انقساماتها السياسية المعتادة، وتجدّد الصراع بين العسكريين بينما كان النفوذ المصري آخذاً في الاتساع. حصلت الجزائر على استقلالها بدعم مصري، ثم حصل انقلابان عسكريان بطعم مصري أيضاً في اليمن والعراق، وبات واضحاً أن سوريا نفسها ذاهبة إلى انقلاب جديد يرمّم بعض الجسور مع أعداء الأمس في مصر.

صباح الثامن من مارس 1963 تمكنت مجموعة غير متجانسة من الضباط السوريين من الاستيلاء على الحكم "لتخليص البلاد من الحكم الانفصالي"، ونظر الانقلابيون بريبة إلى اللواء موفق عصّاصة وكثير من زملائه العسكريين الذين تم استبعادهم أولا ثم تسريحهم وأخيراً فُرض "العزل المدني" عليهم. وكان اللواء عصّاصة ممن طالهم هذا العزل، فقرر الاختفاء عدة أيام تحسباً لمفاجآت الانقلابيين الجدد- كما أكدت لي زوجته السيدة وحيدة الأيوبي في لقاء معها أثناء إعداد هذا التحقيق- لكنه قرّر أن يسلّم نفسه بعدما علم أنه بات في عداد المطلوبين لمحاكم الثورة.
وفي سجن "المزّة" الشهير بدمشق، التقى بعدد كبير من أصدقاء الأمس كان في مقدمتهم مأمون الكزبري أول رئيس حكومة في عهد الانفصال والمقدّم حيدر الكزبري والسياسي معروف الدواليبي وآخرين.
وتقول السيدة وحيدة الأيوبي أن "محكمة الأمن القومي" التي حاكمت زوجها وشركاءه، وكانت برئاسة المقدّم صلاح الضلّي، طلبت الحكم بإعدامهم لكن الرئيس أمين الحافظ حال دون تنفيذ أحكام الإعدام ثم أطلق سراحهم بعدما قضوا في السجن حوالى ستة أشهر كانت تزورهم فيها بانتظام. وتذكر السيدة الأيوبي أن الانقلابيين أخرجوا زوجها من محبسه في ظروف تميّزت بالسرية الشديدة، وأرسلوه إلى منزله ليلاً برفقة حارس واحد حتى لا يراه الناس...

الحرية...والهجرة

بعد خروجه من السجن، مُنع عصّاصة من العمل في ميدان الطيران، ومُنع من السفر خارج البلاد وحصل على راتب تقاعدي زهيد كان بالكاد كافياً لإعالته وزوجته وأبنائه الأربعة. عاشت الأسرة ظروفاً ماديّة صعبة وكان الرجل مستعداً للعمل في أية وظيفة تتاح لهن وحصل على وظيفة مراقب عمال في ورشات البناء. ثم ساعده أخو زوجته وشركاء له في تعليمه مبادئ الهندسة حتى يتمكن من تحسين أوضاعه، وبرغم سنّه المتقدّم نسبياً انتسب إلى كلية الهندسة المدنية في جامعة دمشق لكنه لم يكمل دراسته، مفضّلاً التركيز على عمله في قطاع البناء الذي أبلى فيه لاحقاً بلاء حسناً.
تدهورت الأوضاع الاقتصادية في سوريا في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، وتدهورت معها أحواله المادية ما أدى إلى خسارته معظم رأس ماله الذي استثمره في قطاع البناء. وعلى الرغم من أن العماد مصطفى طلاس عرض عليه مساعدةً مادية لإنقاذه، إلا أن اللواء عصّاصة رفض الحصول على أية مساعدات، وانزوى في منزله يعاني من اكتئاب نفسي عميق.
تدريجياً، تبلورت فكرة الهجرة من سوريا في ذهن اللواء عصّاصة، وكان للمضايقات التي عانى منها من أعوان رفعت الأسد، شقيق الرئيس السوري الذي كان مهتماً بالسيطرة على بعض مفاصل الاقتصاد السوري بما فيها قطاع الإنشاءات الهندسية، دور كبير في دفعه لاتخاذ قراره بمغادرة سوريا إلى الولايات المتحدة في مطلع الثمانينات، خصوصا وأن بعض أبنائه الذين أنهوا دراستهم الجامعية، كانوا سبقوه إلى هناك.
عاش موفق عصّاصة العقود الأربعة الأخيرة من حياته في مغتربه الأميركي، وعاد هناك مرة أخرى إلى ميدان المقاولات الذي استهواه وبرع فيه بعد أن قرر أن يطوي صفحات الماضي بحلوها ومرّها، ليعيش مع زوجته السيدة وحيدة وأبنائه وأحفاده حياة هادئة بعيدة من أوحال السياسة المتحركة في وطنه الأم.

اللواء موفق عصاصة بعد هجرته الى الولايات المتحدة (الصور من فيصل طَلَس)


وقد رفض كتابة مذكراته عدة مرات، وكانت آخرها محاولة كاتب هذه السطور التي لم تكلّل بالنجاح، لكنه أخبرني أنه كتب مرافعةً قانونية مطوّلة في أربعين أو خمسين صفحة، وقدّمها إلى محكمة صلاح الضلّي العتيدة، شارحاً فيها الكثير. كذلك أكّد لي أحد أبنائه أخيرا أنه اطّلع بدوره على تلك المرافعة في منزل الأسرة بدمشق قبل سنوات وأنها مفقودة اليوم. ولا بد أن تكون نسخة منها ما تزال موجودة في أرشيف القضاء السوري.


سيُقال الكثير عن دور "موفق بك" المزعوم في إنهاء الوحدة المصرية- السورية وعن قصّة المواجهة الشهيرة في مكتب المشير عبد الحكيم عامر. لكن الحقيقة التي طلب الرجل منّي أكثر من مرة أن أرويها بعد غيابه هي أنه لم يكن لا هو ولا غالبية زملائه من الضباط يريدون الانفصال عن مصر وأن كل ما أرادوه من نظرائهم المصريين كان تصويب الأخطاء التي تراكمت وأثقلت مسيرة الوحدة للحفاظ عليها، لا هدمها.


كان عصّاصة الذي عرفته عن قرب وحاورته بغير تحفّظ، مستاءً ممّن حوّلوه- رغماً عنه- إلى رمز لأجندات انفصالية لم يكن يتبنّاها في يوم من الأيام، وكان يطلب منّي دوماً أن أذكّر الجميع بهذه الحقيقة التي كان لا يريد لها أن تغيب بغيابه.

font change