تناقضات "مشروع امبراطوري" في المنطقة

يتسع الاعتراض الشعبي داخل ايران بالتزامن مع تساؤلات حول نفوذها في المنطقة ومستقبل دورها

(غيتي)
(غيتي)
ايرانيون قرب صورايخ "شهاب2" و "شهاب3" في ساحة جنوب طهران في 28 سبتمبر 2008

تناقضات "مشروع امبراطوري" في المنطقة

الاحتجاجات التي تشهدها إيران منذ سبتمبر/ أيلول الماضي، تطرح سؤالا ملُحا عن العلاقة بين السياسات الداخلية والخارجية لكل دولة تطمح الى أداء أدوار تفوق قدراتها وتحاول فيها إخضاع الواقع الى تصوراتها الايديولوجية عن ذاتها. سؤال يتناول المدى الذي يجوز للدول هذه ان تذهب اليه في السعي الى تحقيق مشاريعها وكلفة المشاريع هذه التي غالبا ما تتاخم الأحلام أو تتخطاها.

ليست التظاهرات المناهضة للنظام الحاكم جديدة في إيران. فقد عبّرت فئات مختلفة من المجتمع عن اعتراضها على نهج الحكومة الايرانية في لحظات مختلفة منذ 1979، تاريخ وصول رجال الدين الى السلطة. واتخذ الاعتراض أشكالا عدة امتدت من الانتفاضة المسلحة التي نفذتها الاحزاب الكردية في الشهور الاولى لتولي الخميني الحكم مرورا بالصدامات العنيفة بين “مجاهدي خلق” وأجهزة النظام الوليد في اوائل الثمانينات وصولا الى تظاهرات الطلاب في أواخر تسعينات القرن الماضي والتظاهرات التي راحت تتكرر مع تدهور الوضع الاقتصادي والمعيشي وتحولت الى تعبير عن الغضب العارم بعد مقتل الشابة مهسا اميني على ايدي “شرطة الاخلاق” في سبتمبر الماضي.

المفارقة الايرانية تتجلى في أن اتساع الاعتراض الشعبي يسير يدا بيد مع اختراقات تحققها طهران في محيطها القريب وتسفر عن تعزيز النفوذ والهيمنة الايرانيين على دول قد هزمها الحكم الايراني عسكريا (ولو جزئيا) كالعراق أو دول كان من غير المتصور ان تتحول الى قاعدة للتمدد الايراني بعد عقود من ممارسة سياسة خارجية مستقلة مثل سوريا. المفترض كان ان ينعكس التمدد الخارجي ازدهارا، بيد أن الانتصار في ارض خراب على غرار البلاد التي تمدد “محور المقاومة” اليها، جلب المزيد من تصلب النظام والجبروت الأمني- العسكري وهو ما لا يلمسه المواطن الإيراني العادي الذي مسّته العقوبات الدولية.

المشروع الامبراطوري الايراني الذي اتخذ أسماء مختلفة منذ ثلاثة وأربعين عاما، سواء “تصدير الثورة” أو “حماية المراقد والمقامات المقدسة”، يتركز أساسا على الدروس المستخلصة من الحرب الايرانية –العراقية (1980 - 1988) والتي شكلت “صدمة الولادة” للنظام الايراني وصاغت رؤيته الى العالم الذي لم يقبل الثورة ومُثلها وقيمها، بغض النظر عن اعجاب فئات رأت فيها نوعا جديدا من الصراع ضد الامبريالية والغرب، فيما لم تمتلك الثورة الايرانية لا الوسائل ولا القوى ولا حتى الايديولوجية الجذابة، لتغيير العالم، على غرار ما فعلت الثورة الفرنسية على سبيل المثال.

فالحرب مع عراق صدام حسين أدت الى حسم الصراع داخل النظام لمصلحة التيار الذي سيسمى لاحقا بـ “التيار المحافظ” ومثّله رئيس الجمهورية في تلك المرحلة علي خامنئي وهو “المرشد” والولي الفقيه الحالي.

الخارج، إذا، هو مصدر التهديد الوجودي الذي يترصد الثورة ونظامها. هكذا كان اثناء الحرب ضد العراق. ثم قدم الخارج في انهيار الاتحاد السوفياتي نموذجا لما يشكله انهيار نظام شديد المركزية محكوم بإيديولوجيا جامدة. أما الداخل فجرى اخضاعه.

وإذا كان الغزو الأميركي للعراق قد شكل الفرصة الأكبر ليقفز المشروع الايراني قفزته الكبرى بالدخول فاعلا رئيسا في السياسة والامن والاقتصاد في العراق، فإن لبنان هو البلد العربي الأول الذي شهد التطبيق العملي للسياسات الايرانية الخارجية منذ 1982.

مناصرون لـ "حزب الله" يرفعون علم ايران في بيروت في 6 فبراير 2019 (أ ف ب)

لبنان

مع ظهور نُذر هزيمة منظمة التحرير الفلسطينية اثناء الاجتياح الاسرائيلي في 1982، بدأت تحضيرات إطلاق “الثورة الاسلامية في لبنان”. وعاش البلد الصغير كل الاختبارات التي فرضتها الحاجات الايرانية من خطف للرهائن الغربيين الى تدمير مقري المارينز والمظليين الفرنسيين الى خوض الحرب ضد حركة “أمل” الطرف القوي الثاني داخل الطائفة الشيعية. وقد شكل الشيعة اللبنانيون منذ أواسط ستينات القرن الماضي موئل فكرة التغيير السياسي اللبناني من خلال انخراط اقسام كبيرة منها في الاحزاب اليسارية والقومية ثم في حركة “أمل” و“حزب الله”.

كانت رقصة معقدة بين النظام السوري الذي يريد الامساك بكل مفاصل لبنان وبين الايرانيين الذين يرون في موطئ قدم لهم على الحدود اللبنانية- الفلسطينية ميزة استراتيجية ودعائية لا تقدر بثمن وتضفي مصداقية على شعاراتهم عن الزحف الى القدس وتحريرها “على ايدي المؤمنين”. تخلل الرقصة تلك دماء غزيرة ودمار عميم دفع ثمنها اللبنانيون. وانتهت الى توافق بين دمشق وطهران على “تقسيم عمل” للحلفاء المحليين يتولى فيه “حزب الله” قتال اسرائيل وخدمة المشروع الايراني محتفظا بسلاحه بعد نهاية الحرب الاهلية، بناء على قراءة ملتوية لاتفاق الطائف. في حين تشرف حركة “أمل” على توزيع الغنائم التي تدرها الدولة اللبنانية على الموالين لسوريا ضمن الطائفة الشيعية.

كان رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري من ضحايا التحول في السياسة السورية باتجاه ترسيخ التحالف مع ايران على حساب العلاقات السورية مع الدول العربية، بعد وصول بشار الأسد الى الحكم خلفا لوالده. توريط لبنان في حرب يوليو/ تموز 2006 جاء في هذا السياق.

اما ذروة الاستخدام الاداتي للبنان في السياسة الايرانية فكانت في دفع “حزب الله” الالاف من مسلحيه للقتال الى جانب نظام الاسد بعد الثورة ضده.

اما فوائد ايران من وجودهــــــــا في لبنان، فتـــشمل الـــقدرة على الضـــغط على اسرائيل في الملف النووي، واســـــــــتخدام لبنان للالتفاف على العقــــوبات الاقتصادية عليها. إضافة الى ان “حزب الله” يشكل بذاته انتصارا معنويا للاســــــــــتراتيجية الايرانية لارغامه اســـــــرائيل على الانســـــحاب من الجنوب المحتل في 2000 وهو ما وظفتــــــــه طهـــــران في العديد من البلدان.

ويــــــــــجوز القول ان “حزب الله” اللبناني من ابرز “النجاحات” الاستراتيجية الايرانية بفضل قوته العــــسكرية وكفاءاته الامنية والســـــياسية التي جعلت منه الحـــــــاكم الفعلي للبـــنان منذ اتفــــــاق الدوحة في 2008 على اقل تقدير.

سوريا

لم يتأخر حافظ الاسد عن ابداء تأييده للثورة الايرانية منذ ايامها الاولى. اسباب التأييد هذا ترجع الى العلاقات السيئة التي سادت بين ايران وبين اكثرية الدول العربية وتحالف طهران المتين مع اسرائيل وتشكيلها تهديدا دائما لدول الخليج العربية بقوتها العسكرية الضخمة التي كانت تغذيها الولايات المتحدة. ورأى الأسد من جهة ثانية، ضغطا جديدا على خصمه اللدود، حزب البعث الحاكم في العراق الذي كان قد توصل قبل سنوات قليلة الى اتفاق مع ايران في الجزائر لتسوية النزاع على شط العرب بعد التوافق بين بغداد وطهران على القضاء على الحركة الكردية المسلحة. يضاف الى ذلك البعد الطائفي المضمر في سياسات الاسد الأب والذي كان اكثر حذرا من إعلانها صراحة، حيث ستشكل ايران الشيعية المعادية لاسرائيل رافعة قوية لدعم دور الأقلية العلوية في حكم سوريا.

هي فرصة متعددة الوجوه بالنسبة الى حاكم دمشق اذا. وكان الأسد والزعيم الليبي معمر القذافي القائدين العربيين الوحيدين اللذين ساندا الجانب الايراني في الحرب ضد العراق وقدما له السلاح والخدمات اللوجستية والاستخبارية. ولم ينكسر التحالف بين دمشق وطهران منذ ذلك الحين.

اليد الايرانية الثقيلة في العراق واجهتها انواع شتى من المقاومة. اخذ بعضها سمة طائفية كردٍ على الاقصاء الذي مارسته الاحزاب الشيعية الموالية لطهران بحق الطائفة السنية المتهمة بجني فوائد جمة من اعوام حكم صدام حسين.

الثورة السورية في 2011 اظهرت هشاشة نظام الأسد وكشفت تركيبته الطائفية والاجتماعية التي خرجت من أطر التورية والستر الى العلن مع وصول بشار الاسد الى الرئاسة والدور المحوري الذي ادته مجموعة ابناء المسؤولين السابقين في السيطرة على كل القطعات المربحة من الاقتصاد.
وعندما عصفت رياح التغيير، هبّت ايران لنجدة بشار دافعة الالاف من المقاتلين الشيعة اللبنانيين والعراقيين والافغان وغيرهم، الى سوريا لانقاذ حليفها من سقوط محتم. ويسود اعتقاد ان صمود بشار الاسد في منصبه بين اوائل 2012 عندما انهار القسم الاكبر من الجيش السوري وبين خريف 2015 عندما بدأ التدخل العسكري الروسي في سوريا، يرجع الفضل فيه الى ايران وحلفائها باشراف قائد "فيلق القدس" في الحرس الثوري، قاسم سليماني. 
الفضل هذا لم يكن مجانيا. إذ حصلت ايران على العديد من المزايا منها تحويل سوريا الى سوق للسلع الايرانية واستحواذ ايران على مناطق كاملة من العاصمة دمشق وضواحيها لاستثمارها عقاريا. وليست من دون أساس التقارير عن تغيير الطبيعة الديموغرافية لأجزاء من سوريا من خلال عدم السماح بعودة اللاجئين الى بيوتهم واسكان آخرين من خلفيات موالية لإيران فيها. 
كما تعتبر سوريا اضافة مهمة في سلسلة القواعد والممرات البرية التي تشكل الارضية اللوجستية لأي صدام محتمل مع اسرائيل، لاحتوائها على مطارات ومخازن وطرق قابلة للاستخدام لدعم "حزب الله" أو حتى في أية مواجهة مباشرة بين ايران واسرائيل.


العراق


تختلف قصة العراق مع ايران عن كل قصص العلاقات العربية – الايرانية. التاريخ كثيف هنا وشائك ويجري استحضاره يوميا بل في كل ساعة. تاريخ من التشكيك الايراني في الوجود العربي في العراق استنادا الى مرحلة ما قبل الاسلام، يقابله تشكيك في صدق ايمان الايرانيين بالاسلام واتهامهم بالعنصرية ضد العرب. 

(غيتي)
جنود عراقيون في خورمشهر أثناء الحرب العراقية - الايرانية في اكتوبر 1980

الغزو الاميركي للعراق كان هدية ثمينة للمخططين والقادة الايرانيين. جدول اعمالهم شمل كل وجوه الحياة العامة في العراق: اغتيال الأعداء السابقين. حض كل القوى العراقية الموالية لإيران على الامساك بأوسع شريحة ممكنة من الاقتصاد والمال والاعلام. منع الاميركيين من بناء نظام مؤيد لهم وشن حرب عصابات عليهم للحيلولة دون بقائهم ردحا طويلا من الزمن في العراق الخ... 


اليد الايرانية الثقيلة في العراق واجهتها انواع شتى من المقاومة. اخذ بعضها سمة طائفية كردٍ على الاقصاء الذي مارسته الاحزاب الشيعية الموالية لطهران بحق الطائفة السنية المتهمة بجني فوائد جمة من اعوام حكم صدام حسين. في وقت لم يتورع "داعش" عن اللجوء الى الارهاب العاري مثل الفظاعات التي ارتكبها. كل هذا ربما قضى على ما تبقى من فرص لاعادة بناء العراق كدولة موحدة وانتهت بكارثة على السنة العراقيين قبل غيرهم. 


الردود المدنية على النفوذ الايراني وما جلبه من فساد جاء على شكل انتفاضات وحراكات مدنية لعل أهمها "ثورة تشرين" في 2019 والتي لجأت فيها قوات الامن المؤتمرة بالاوامر الايرانية الى سفك دماء المتظاهرين. 
لكن أزمة الكيان العراقي التي تؤدي ايران دورا محوريا فيها، لم تنته. الانتخابات التشريعية في أكتوبر/ تشرين الاول 2021، اعادت تظهير الانقسام العميق ليس بين المكونات العراقية الطائفية والعرقية فحسب، بل ايضا داخل "البيت الشيعي".
 
اليمن


أخيرا دخل اليمن في حلقة النفوذ الإيراني. ويتشارك اليمن ولبنان في اعتماد طهران على جماعة أهلية ذات علاقة إشكالية مع السلطة والدولة. تختلف الطائفية الزيدية اختلافا شاسعا عن الشيعة اللبنانيين من نواحي التاريخ والفقه والتشكيل الاجتماعي ودور البنى التقليدية كالعشيرة والعائلة، لكنهما تتشابهان في موقفهما من الدولة التي ينصرونها حينا ويحاربونها في أحيان اخرى كما يشكل الحرمان والفقر واهمال الدولة لمناطق الشيعة في لبنان والزيديين في اليمن، خلفية مشتركة لأسباب خروج الجماعتين للمطالبة بحقوق ومساواة مع باقي الجماعات.


ووجد "انصار الله" الذين درجت تسميتهم بـ "الحوثيين"، سنداً مهماً في إيران مع ادراكهم أن للتحالف معها محاذير خطيرة تتمثل في تهديد الامن الوطني للمملكة العربية السعودية والقطيعة النهائية مع الرياض والوقوف في صف العداء الناجز لها. إضافة، طبعا، الى التبعات الداخلية من تحويل الخلاف بين المناطق ذات الاكثرية الزيدية وبين المركز الى حرب لا نهاية لها. عليه، جرت جولات من القتال سميت بحروب صعدة الست التي عمقت الشرخ اليمني الذي غذته سياسة الرئيس الراحل علي عبد الله صالح بدفعه حلفائه المتشددين للصدام مع الزيديين ما ترك اثارا سلبية للغاية على المناخ السياسي العام. 


التداخل بين اضطرابات صعدة والفصل اليمني من الربيع العربي في 2011، جعل من العسير على صالح الاستمرار في الحكــم رغم تمسـكه بدوره كطـرف مركزي في أية تــسـوية في البلاد.

جرت جولات من القتال سميت بحروب صعدة الست التي عمقت الشرخ اليمني الذي غذته سياسة الرئيس الراحل علي عبد الله صالح بدفعه حلفائه المتشددين للصدام مع الزيديين ما ترك اثارا سلبية للغاية على المناخ السياسي العام. 

بيد أن الأمور كانت تتجه الى تصعيد شامل بعدما قرر الحوثيون السيطرة على العاصمة صنعاء والاطاحة بالحكومة التي كان يترأسها عبد ربه منصور هادي في إطار مخرجات الحوار الوطني الذي جرى في 2013 و2014. وكان الاستيلاء على صنعاء سبتمبر/ أيلول 2014 والذي يعتقد انه جرى بايحاء ايراني، نقطة تحول في الصراع الذي ما زال مستمرا وان خفت شدته في ظل الهدنة التي تُبذل جهود كبيرة للعودة اليها بعد انتهاء العمل بها في أكتوبر/تشرين الاول 2022. 

خاتمة
يحفل التوسع الايراني بالمفارقات. أهمها انه يجري في دول عربية وقعت، في مراحل مختلفة، بفراغ داخلي ناجم عن انهيار الدولة (لبنان واليمن) او الثورة عليها (سوريا) او بسبب غزو خارجي (العراق). العوامل الداخلية مهدت الارضية اللازمة للدور الايراني في الدول الاربع المذكورة من خلال تحطيم الاجماعات الوطنية الضرورية لتعريف المصلحة العامة والدفاع عنها. بعد تحقيق هذه العملية باتت الاستعانة بالخارج ضد خصوم الداخل من المبررات التي تستعمل بكثافة في الحالات الاربع المذكورة. 
مفارقة ثانية كبيرة هي ان ايران لا تملك اي مشروع يمكن ان ينسج حوله اجماعا وطنيا بديلا في اي من الدول العربية الاربع. بل ان مشروعها يقوم اساسا على استغلال الانقسام الداخلي، الطائفي والسياسي والاثني (على غرار تحالفها مع قوى بعينها في كردستان العراق)، من اجل اسقاط الدولة واستبدال مؤسساتها بميليشيات موالية لها بذريعة الحاجة الى الدفاع عن الجماعة المهددة من اسرائيل "حزب الله" او التي تتعرض الى خطر ارهابي داهم (الحشد الشعبي في العراق). 


المفارقة الثالثة أن الفوائد التي جنتها ايران من مشروعها الامبراطوري تتطلب نظرا عميقا. هناك السيطرة على جزء من النفط العراقي والسوق السورية. لكن بالنسبة الى الايرانيين العاديين الذين يتظاهرون ضد حكم رجال الدين، فإن دور سلطاتهم في لبنان وغزة والعراق جلب لهم الفقر وساهم في عزلتهم وعداء العالم لهم.  

font change