الكويت ومأزق الديموغرافيا!

الكويت ومأزق الديموغرافيا!

تُعتبر الكويت من الدول الصغيرة الحجم جغرافيا حيث لا تتعدى مساحتها 17 ألف كيلومتر مربع ولا يزيد عدد سكانها، بموجب بيانات الهيئة العامة للمعلومات المدنية في نهاية ديسمبر/ كانون الأول 2022، على 4,4 ملايين نسمة. لكن هذا العدد من السكان نما خلال فترة زمنية قصيرة نسبيا، وذلك منذ بداية خمسينات القرن الماضي بمعدلات متسارعة. بيّن تعداد السكان الذي أجري في عام 1957 أن العدد كان في حدود 206 آلاف نسمة، منهم 114 ألفا من الكويتيين يمثلون 55 في المئة من سكان البلاد آنذاك.

استوطن الكويتيون البلاد على مدى فترة زمنية قصيرة، في تاريخ الأمم، منذ تأسيس الإمارة في عام 1757، بعدما هاجروا من بلدان قريبة مثل نجد والعراق وإيران. كان الإقتصاد بدائيا يعتمد على الصيد والرعي ثم تطور ليصبح نشاط الغوص على اللؤلؤ أهم الأعمال، ثم صارت التجارة مع الهند وشرق أفريقيا من أهم الأنشطة التي استوجبت حرفا ومهنا منها صناعة الأبوام (السفن الخشبية)، التي استخدمت في أعمال الغوص والتجارة وتنوعت أشكالها وأحجامها. كما أن الكويتيين، الأثرياء منهم، اقتنوا مزارع النخيل الواسعة في جنوب البصرة في العراق التي أصبحت مصدرا للدخل حتى بداية عصر النفط أواخر أربعينات القرن الماضي.

التحول الاقتصادي المثير، الناتج من مساهمة النفط في تحقيق إيرادات سيادية مهمة، عزّز الحاجة إلى العاملين وأصحاب الخبرة والمهنية في العديد من النشاطات الاقتصادية المستجدة في بداية خمسينات القرن الماضي، فوفد إلى الكويت عرب وهنود وآسيويون آخرون وإيرانيون ومن جنسيات أجنبية مختلفة، أوروبية أو أميركية. كانت هناك احتياجات لمعلمي مدارس وأطباء وممرضين وممرضات ومهندسين، ناهيك بعمال الإنشاءات.

لم يكن الكويتيون مؤهلين للقيام بمهن عديدة وخصوصا أن الإنفاق العام الذي موِّل بإيرادات النفط وظف جزءا مهما في مشاريع البنية التحتية والمدارس والمستشفيات. لذلك لم يكن ثمة بديل من الاعتماد على العمالة الوافدة.

كانت البلاد في مرحلة تحول من الفاقة إلى الرفاه ولم تكن الأوضاع المعيشية مريحة، لكن الكويت تمكنت من تحسين الالتحاق بالمدارس وتوفير مراكز ومستشفيات تؤمّن العلاج والدواء بعدما عانى المواطنون من أمراض قاتلة مثل الجدري والحصبة والسل، أودت بحياة الكثير من الصغار والكبار في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. ساهم الوافدون في ارتقاء الحياة نظرا إلى القدرات المهنية والمستويات التعليمية التي تمتعوا بها حيث أتوا من بلدان تميزت آنذاك بمستوياتها المتحضرة.

ولا شك في أن عصر النفط مثّل انقلابا في حياة أهل البلاد. فبعدما كان الكويتيون، في عصر ما قبل النفط، يتولون أعمالا ومهنا متنوعة مثل النجارة والحدادة والبناء وتقديم الخدمات، عزفوا عن القيام بها بعد قدوم الوافدين من الخارج، وأصبحوا يفضلون المهن الإدارية وتولي قيادة المؤسسات الحكومية أو الاضطلاع بأعمال القطاع الخاص في مجال الإدارة والإشراف.

بعد تحسن الأوضاع المعيشية والارتقاء بالعلاج الصحي وانخفاض الوفيات بين الأطفال، بدأت معدلات النمو السكانية بالارتفاع بما زاد من عدد الكويتيين في المجتمع السكاني الكلي. يضاف إلى ذلك أن الحكومة جنّست أعدادا كبيرة من النازحين من المناطق المجاورة بعد الاستقلال واعتماد نظام الحكم الدستوري في عام 1962.

بطبيعة الحال لم تكن تلك السياسات مقبولة من المجتمع الحضري الأساسي، وهي لا تزال مثار امتعاض حتى اليوم. هذه العوامل المتعددة، من تزايد أعداد الوافدين وعمليات التجنيس غير المنضبطة وتحسن الأوضاع المعيشية والصحية، رفعت معدلات النمو السكاني خلال العقود السبعة الماضية. بلغ معدل النمو السكاني بناء على الاحصاءات الحكومية الرسمية 10,7 في المئة في عام 1962 ثم تدرج الانخفاض ليبلغ 3,7 في المئة في عام 1989، أي قبل الاحتلال العراقي، وتراجع إلى 2,8 في المئة في عام 2019، أي قبل جائحة كوفيدـــ19 التي أدت إلى رحيل العديد من الوافدين.

يمثل الكويتيون كما هو معلوم، بموجب بيانات الهيئة العامة للمعلومات المدنية، 34 في المئة من العدد الإجمالي للسكان البالغ 4,5 ملايين تقريبا في 30 يونيو/حزيران 2022. هناك فئات سكانية وافدة متعددة، في مقدمها الهنود الذين يمثلون 19 في المئة من السكان، ثم المصريون ويمثلون 14 في المئة، وتأتي بعد ذلك جاليات، أو فئات سكانية أخرى مثل البنغاليين والفيليبينيين والسوريين وآخرين. لا شك في أن الوافدين يمثلون ثقلا سكانيا مهما وقوة عمل أساسية في البلاد، تصل إلى 83 في المئة من مجموع العاملين في البلاد بموجب بيانات الهيئة العامة للمعلومات المدنية في 30 يونيو/حزيران 2022. ولا يمثل الكويتيون سوى 17 في المئة من قوة العمل الإجمالية. يقدَّر عدد العاملين في الكويت بـ2,5 مليون، يعمل 483,205 منهم في القطاع الحكومي، و1,428,078 في القطاع الخاص، ويشكل الكويتيون 77 في المئة من العاملين في الحكومة و5 في المئة فقط من العاملين في القطاع الخاص.

لا بد من ملاحظة أن أعداد العاملين الفائضين على الحاجة يتكدسون في القطاع الحكومي، سواء الدوائر الحكومية أو الشركات والهيئات العامة، بما يشكل بطالة مقنّعة. ترصد الحكومة أموالا طائلة للتوظيف نظرا إلى التدفق المستمر من المواطنين إلى سوق العمل سنويا، لكن معظم الوافدين من التعليم الثانوي إلى سوق العمل من المواطنين لا يملكون التأهيل للعمل في القطاع الخاص، حيث تفتقر البلاد للتعليم المهني كما أن غالبية الطلبة الحاصلين على شهادات الثانوية العامة والذين تتزايد أعدادهم سنويا، ما يقارب الـ 40 ألف طالب في السنة المنصرمة، يفضلون الانخراط في التعليم الجامعي داخل البلاد أو خارجها بصرف النظر عن التخصص ومدى احتياجات السوق له أو مستوى المعاهد أو الجامعات التي يتخرجون منها.

يقدَّر عدد العاملين في الكويت بـ2,5 مليون، يعمل 483,205 منهم في القطاع الحكومي، و1,428,078 في القطاع الخاص، ويشكل الكويتيون 77 في المئة من العاملين في الحكومة و5 في المئة فقط من العاملين في القطاع الخاص

وسبق أن صدر القانون 74 لسنة 2020 في شأن تنظيم التركيبة السكانية من اجل إعادة هيكلة الوضع السكاني في البلاد ومحاولة رفع نسبة المواطنين في المجتمع السكاني، والاستغناء عن فئات من الوافدين ودفع شركات القطاع الخاص لتوظيف المواطنين. هناك الآن شروط الزامية لتوظيف الكويتيين في مختلف الشركات وبنسب تحدد بحسب القطاع.

لكن القانون المشار إليه لم يطبق حتى الآن ولم تصدر إلى اليوم لائحته التنفيذية. كذلك حاولت الحكومة الاستغناء عن الوافدين الذين تزيد أعمارهم على الستين سنة ولا يملكون شهادات جامعية، من طريق وضع شروط قاسية لتجديد إقاماتهم في البلاد ورفع تكلفتها. لكن، هل يمكن أن تتعدل التركيبة السكانية بموجب القوانين والأنظمة والإجراءات الإدارية، في حين لا يتوفر البديل من المواطنين لشغل المواقع التي يتولاها الوافدون؟ غني عن البيان أن الوافدين الذين تتجاوز أعمارهم الستين ولم يحصلوا على شهادات جامعية، يعملون في أعمال أساسية ويتمتعون بقدرات مهنية وخبرات اكتسبت في الكويت حيث يشتغل الكثير منهم منذ ستينات أو سبعينات القرن الماضي، وترافق العديد منهم أسرهم ويمثلون قوة استهلاكية مهمة. هكذا يبدو أن إصلاح الخلل السكاني في سوق العمل يتطلب حلولا عقلانية متدرجة تعتمد على التعليم المهني والارتقاء بقدرات المواطنين وتعزيز التوظيف في القطاع الخاص وتوفير ثقافة مختلفة تؤثر العمل والإنتاج بدلا من الإتكالية والإعتماد على آليات الاقتصاد الريعي.


هناك قضايا ذات صلة بالتركيبة السكانية في الكويت، منها نظام الكفيل الذي يتيح التكسب والتجارة بالبشر وجلب أعداد من العمالة الهامشية غير الماهرة من دون وجود احتياجات حقيقية لها. كذلك هناك الاعتماد على العمالة المنزلية التي تمثل مكوّنا مهما في العمالة الوافدة ويبلغ عددها ما يقارب 700 ألف شخص معظمهم من الهند والفيليبين وسري لانكا وبنغلاديش ويمثلون 27 في المئة من إجمالي العاملين و32 في المئة من العمالة الإجمالية الوافدة. ويكشف هذا العدد الكبير من العمالة المنزلية مدى اعتماد الأسر الكويتية على المربيات والخدم لإنجاز مهام تربية الأطفال والقيام بالواجبات المنزلية كافة. أما النمو الطبيعي بين المواطنين فيظل مرتفعا، قياسا بالمعدلات الدولية المعاصرة حيث يدور هذا المعدل حول 2,5 في المئة سنويا. وترتفع أيضا معدلات الخصوبة التي تتراوح بين 2 و2,5 مولود لكل امرأة في سن الإنجاب الطبيعي. ويتفاوت هذا المعدل بحسب درجة التحضر ومدى انخراط المرأة في سوق العمل.


لا تشير الأوضاع الديموغرافية في الكويت إلى إمكان معالجة اختلالات التركيبة السكانية خلال زمن قصير، فهي تتطلب معالجات منهجية غير متسرعة بحيث لا تؤثر على الأداء الاقتصادي، وفي الوقت نفسه هناك حاجة لمعالجة أنظمة الإقامة وإلغاء نظام الكفيل غير السوي واعتماد نظام تعليمي عصري يؤدي للارتقاء بقدرات المواطنين.
 

font change