الخليج يبحث عن بوصلة مالية جديدة

حاجة ماسة لتطويع السياسات المالية

لينا جرادات
لينا جرادات

الخليج يبحث عن بوصلة مالية جديدة

تعتمد اقتصادات دول الخليج العربي على الإنفاق العام لتحفيز الأعمال في مختلف القطاعات وتعزيز قدرات المستهلكين وتمكين الشركات من تحقيق نتائج مناسبة تعزز قدرتها على الاستمرار. لذلك، تحتل السياسات المالية في هذه الدول أهمية كبرى. لكن هذه السياسات تتطلب مراجعة في ضوء استمرار تراجع الإيرادات النفطية التي تمثل نسبة كبيرة من الإيرادات الحكومية، كما أن مخصصات الإنفاق الجاري والرأسمالي تزيد عن حصيلة إيرادات الخزينة العامة.

أمام هذا الواقع، كيف يمكن تعديل السياسات المالية باعتبار أن إيرادات النفط هي المكون الأهم في الإيرادات العامة؟ خلال عام 2023 بلغت إيرادات الخزائن العامة في دول الخليج 641 مليار دولار، مثلت الإيرادات النفطية 62 في المئة منها. هذه الايرادات هي أقل من إيرادات عام 2022 التي بلغت 723 مليار دولار مثلت الإيرادات النفطية 67 في المئة منها. لا شك أن هذه البيانات تظهر مدى اعتماد الإيرادات العامة على النفط، كما أن هناك قلقا حكوميا من التراجع السنوي لهذه الإيرادات واهتماما بالتعرف على الطرق والوسائل لترشيد الإنفاق وتعزيز الايرادات غير النفطية.

الإنفاق الجاري والرأسمالي

يتركز الإنفاق العام في الانفاق الجاري الذي يتوزع بدوره على بنود ثابتة منها الرواتب والأجور ودعم السلع والخدمات التي تشمل الرعاية الصحية والتعليم واستهلاك الكهرباء والمياه والأمن والإنفاق العسكري والمساعدات الاجتماعية. ومع ارتفاع أعداد السكان في دول المنطقة تزايدت مخصصات الإنفاق الجاري بشكل مضطرد. وهناك مخصصات للإنفاق الرأسمالي، حيث تستثمر الحكومات في مشاريع البنية التحتية والمشاريع النفطية أو تلك المتعلقة بالخدمات الرئيسة مثل الكهرباء ومحطات تقطير المياه ومشاريع تطوير التعليم وأنظمة الرعاية الصحية. قدر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الإنفاق الرأسمالي في دول المنطقة خلال عام 2025 بما يتراوح بين 52 إلى 58 مليار دولار، وهو ما يقل عن عشرة في المئة من إجمالي الإنفاق العام. وأظهرت دول الخليج خلال السنوات القليلة المنصرمة مؤشرات متفاوتة بين تحقيق فائض أو توازن أو عجز في الموازنة.

لا تزال دول الخليج تواجه تحديات ديموغرافية، حيث ترتفع أعداد السكان، من المواطنين والوافدين، كما أن فئة الشباب وصغار السن لا تزال تمثل نسبة مهمة مـــــن المواطنين

على سبيل المثل، تتوقع قطر تحقيق فائض في الموازنة في حين تحاول الإمارات العربية المتحدة الوصول إلى التوازن. أما السعودية، وفي ظل الخطط التوسعية والطموحة، فقد تحقق عجزاً يمثل 2.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وقد يصل العجز في الكويت إلى 18.3 مليار دولار أو 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. وتحاول عمان تحقيق التوازن المالي على الرغم من تراجع أسعار النفط، وقد تعزز سياسات ترشيد الإنفاق محاولات الإدارة لخفض العجز في الموازنة العامة. كذلك الأمر في البحرين التي تحاول تحصيل إيرادات ضريبية من أنشطة القطاع الخاص.

الديون وأهمية الإصلاح

أصبح إصلاح السياسات المالية أمرا مستحقا بعد أن ارتفعت المديونيات العامة المحلية أو السيادية، والتي وصلت إلى نحو 27 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لدول المنطقة. أما الديون الخارجية، فقد بلغت نسبتها 47.9 من الناتج المحلي في عام 2023، وهي تراوحت بين نحو 30 في المئة في السعودية ولامست الـ90 في المئة في الإمارات في عام 2024. هذا النمو في الدين العام، وخصوصا الدين الخارجي، يتطلب معالجات سريعة وناجعة.قد تكون هناك احتياجات ملحة لتطوير المشاريع الكبرى وخصوصا مشاريع البنية التحتية ومشاريع إنتاج الطاقة والتوسع في مجالات الاقتصاد الرقمي، لكن الأمر يتطلب تنويعا للاقتصادات الوطنية وتعزيز مساهمات الإيرادات غير النفطية لدعم متطلبات الإنفاق العام. هذه تحديات ملحة ولا يمكن الركون إزاءها إلى لأساليب التقليدية التي قد لا تؤدي إلا إلى نتائج محدودة.

لينا جرادات

لا تزال دول الخليج تواجه تحديات ديموغرافية، حيث ترتفع أعداد السكان، من المواطنين والوافدين، كما أن فئة الشباب وصغار السن لا تزال تمثل نسبة مهمة مـــــن المواطنيـن، ما يعني المزيد من الإنفاق الاجتماعي. ويتخطى عدد سكان دول الخليج في الوقت الحاضر 57 مليون نسمة.

تحديات الاستدامة المالية

المتغيرات الجارية في سوق النفط وتحديات اقتصادات الطاقة، التي برزت منذ عام 2014 بعد ارتفاع إنتاج الولايات المتحدة من حقول النفط الصخري، تمثل امتحانا كبيرا لقدرة دول الخليج على صياغة سياسات مالية ملائمة تعزز الاستدامة المالية. لا بد من انتهاج آليات متنوعة تؤدي إلى الحفاظ على ملاءة هذه الدول وتمكنها من مواجهة الاستحقاقات.

هناك ضرورة لدرس أنظمة الضرائب المعتمدة وكيفية تفعيلها وجعلها أكثر كفاءة. لا تزال القوانين الضريبية تركز على الجباية من الشركات الأجنبية العاملة في دول الخليج

وقد يكون الاقتراض لتمويل العجز، من النظام المصرفي المحلي أو الدولي، وإصدار أدوات دين مثل السندات والأذونات، وسيلة لمواجهة الالتزامات القصيرة المدى، ولكن كيف يمكن تعزيز توفر الإمكانات المالية على المدى الطويل؟ ليس هناك من آفاق سوى تنويع القاعدة الاقتصادية وتمكين القطاع الخاص من تولي مسؤوليات حيوية تضطلع بها الدولة في الوقت الراهن، بما يعزز قدرات مؤسسات القطاع الخاص العاملة في مختلف الأنشطة الاقتصادية على توريد الأموال من خلال أنظمة ضريبية ناجعة ومتوازنة.

.أ.ف.ب
وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، في ختام القمة في الكويت 2 يونيو 2025

بدأت دول خليجية تطوير أنشطة السياحة والتكنولوجيا الحديثة وبعض الصناعات التحويلية ذات الميزات النسبية. كما أن دولا ومنها السعودية والإمارات وعمان، عمدت إلى تلزيم إنتاج الطاقة الكهربائية وتقطير المياه إلى شركات خاصة، محلية وأجنبية.

تحديث الأنظمة الضريبية وتفعيل الجباية

هناك ضرورة لدرس أنظمة الضرائب المعتمدة وكيفية تفعيلها وجعلها أكثر كفاءة. لا تزال القوانين الضريبية تركز على الجباية من الشركات الأجنبية العاملة في دول الخليج، وكانت البداية مع شركات النفط التي حصلت على امتيازات للتنقيب وإنتاج النفط، وكان ذلك قبل التأميم وتحويل الملكية لحكومات دول المنطقة.

ويجب أن تشمل الضرائب كل مؤسسات الأعمال، الوطنية والأجنبية، بحيث تؤدى من الأرباح الصافية. كذلك، يمكن صياغة قانون ضرائب دخل الأفراد بحيث يعفى أصحاب الدخول المحدودة، ومن ثم، تطبق ضرائب تصاعدية على المداخيل الفردية والعائلية كما هو معمول به في دول متقدمة أو نامية.

تمتلك دول الخليج صناديق سيادية وازنة تمثل ستة من أهم عشرة صناديق سيادية في العالم، وتقدر قيمة أصول هذه الصناديق بنحو 4.1 تريليون دولار

أقرت دول الخليج منذ سنوات ضريبة القيمة المضافة على مبيعات السلع غير الأساسية، وقد فرضت السعودية منذ يناير/كانون الثاني من عام 2018 ضريبة بنسبة 5 في المئة ورفعتها بعد ذلك إلى 15 في المئة. أما البحرين فهي تطبق حاليا ضريبة على القيمة المضافة بنسبة 10 في المئة، في حين تحدد الإمارات الضريبة المذكورة بنسبة 5 في المئة، وهو التزام بما تم الاتفاق عليه من قبل دول مجلس التعاون الخليجية، وكذلك الحال في عمان. لكن حتى الآن، لم تطبق كل من قطر والكويت ضريبة القيمة المضافة حتى بحدودها الدنيا.

.أ.ف.ب
قاعة مرايا في محافظة العلا، 31 يناير 2025

لا شك أن الضرائب سلاح ذو حدين، ويجب الاعتناء بصياغة قوانينها لكي لا تكون محبطة لجهود المستثمرين ورجال الأعمال بل يجب أن تكون محفزة للتنويع الاقتصادي. هذا إلى جانب أهمية الترشيد في الإنفاق الحكومي وتحمل القطاع الخاص نسبة كبيرة من الإنفاق الرأسمالي. ويتطلب الترشيد الارتقاء بكفاءة الأجهزة الإدارية الحكومية وإعادة النظر في سياسات الدعم والتوظيف الحكومية.

مداخيل الصناديق السيادية

تمتلك دول الخليج صناديق سيادية وازنة تمثل ستة من أهم عشرة صناديق سيادية في العالم، وتقدر قيمة أصول هذه الصناديق بنحو 4.1 تريليون دولار. لا تزال حكومات دول الخليج مترددة في استخدام هذه العوائد كإيرادات في موازناتها، لكن عددا من هذه الدول بدأ في استخدامها ومنها السعودية.

تعتبر الكويت الصندوق السيادي احتياطيا للأجيال القادمة، لكن هذا الصندوق الذي تأسس في عام 1953 وتعزز قانونيا في عام 1976 بعد الصدمة النفطية الأولى، يمكن تعديل قانونه بعد مرور هذه العقود من الزمن. كذلك، يمكن لدول الخليج توظيف العوائد في استثمارات محلية تعزز الشراكة بين القطاعين العام والخاص وتمكن من تطوير أنشطة اقتصادية مختلفة تحقق التنويع الاقتصادي المنشود وتؤكد إمكانات الاستدامة المالية.

font change