أبوية مُحدثة.. في تمايز الأبناء من ساسة كردستان- العراق عن الآباء

Getty Images
Getty Images
مشهد عام لعاصمة اقليم كردستان، اربيل، وقلعتها التاريخية

أبوية مُحدثة.. في تمايز الأبناء من ساسة كردستان- العراق عن الآباء

لكل زائر سياسي لإقليم كردستان أن يلاحظ التغيرات الجوهرية التي طرأت على عالم السياسة هناك خلال السنوات القليلة الماضية، مقارنة بما كانت عليه، حتى قبل فترة قريبة. تغيرات محسوسة بوضوح في كامل الفضاء والمتن العام، في السياسة والثقافة والاقتصاد وآلية العمل والرموز والمظهر العام، متأتية بمجملها من "غياب وخروج" الجيل الأقدم من ساسة الإقليم من مركز الفاعلية السياسية والمشهد العام في الإقليم، وحلول الأبناء مكانهم.

المشهد المختلف والمكرس راهناً، يأتي بعد خمس سنوات من الانتقال الجيلي في المسرح السياسي في الإقليم. حيث، وطوال هذه السنوات الخمس، كانت السياسة والمجال العام وعالم الرموز في الإقليم مشغولة تماماً بجيل الأبناء الذين صبغوها بهوياتهم ونوعية خياراتهم السياسية والثقافية والإيديولوجية والاجتماعية والاقتصادية.

ما حدث في الربع الأخير من 2017

في أواخر العام 2017، رحل مؤسس الاتحاد الوطني الكردستاني والرئيس العراقي الأسبق جلال الطالباني، بعدما بقي زعيماً سياسياً، وواحداً من حلقة ضيقة من الساسة الكُرد في العراق، من الذين كانوا من مُقرري خيارات ومصائر الأكراد في العراق والمنطقة، لعقود كثيرة، على الأقل منذ العام 1975، حين أسس "الاتحاد الوطني الكردستاني"، بعدما كان قيادياً بارزاً في الحزب الديمقراطي الكردستاني منذ عقود أخرى قبل ذلك.

بعد عامين من وفاة طالباني ومن عدم الاستقرار داخل منظومة الحزب، عقد الاتحاد الوطني مؤتمراً حزبياً صاخباً في أواخر العام 2019. أزيح فيه "الحرس الحزبي القديم"، وأصبح بافل طالباني، النجل الأكبر للرئيس الراحل، وبالشراكة مع أبن عمه لاهور شيخ جنكي، يشغلان المكانة التي كانت للوالد المؤسس.

في ذلك المؤتمر، انطبق الأمر نفسه على عدد آخر من أبناء القادة وأعضاء المكتب السياسي في الحزب، الذين صاروا يشغلون فيه المكانة التي كانت للآباء: فقد غدا درباز كوسرت علي عضواً في الهيئة القيادية العامة للحزب، شاغلاً مكان والده القيادي كوسرت رسول علي، وشغلت شآناز إبراهيم أحمد المكان الذي كان لشقيقتها الأكبر، وزوجة الرئيس طالباني، هيرو إبراهيم أحمد، فيما صار شآلاو علي عسكري قيادياً في المكتب السياسي، وهو نجل الزعيم الميداني السابق لتنظيمات الحزب القتالية علي عسكري.

لم تمضِ إلا شهور قليلة، حتى أزاح نجل الطالباني أبن عمه من قيادة الحزب، وصار زعيماً وحيداً للاتحاد الوطني الكردستاني، فيما يشغل أخاه الآخر قوباد طالباني منصب نائب رئيس وزراء إقليم كردستان.

 

بعد عامين من وفاة طالباني ومن عدم الاستقرار داخل منظومة الحزب، عقد الاتحاد الوطني مؤتمراً حزبياً صاخباً في أواخر العام 2019 أزيح فيه "الحرس الحزبي القديم"

بعد رحيل الطالباني بثلاثة أسابيع فحسب، أعلن رئيس إقليم كردستان وقتئذ، وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، تنحيه عن منصب رئاسة الإقليم، بعد دورتين متتاليتين في المنصب. الأمر الذي أتاح المجال أمام رئيس مجلس وزراء الإقليم، ونجل أخ الرئيس مسعود بارزاني، نيجيرفان بارزاني لأن يشغل مكان عمه. حدث ذلك بعدما كان الحزب الديمقراطي الكردستاني قد فاز في الانتخابات البرلمانية "الإقليمية" التي جرت في أواخر العام 2018، وصار في نتيجتها مسرور بارزاني، نجل الرئيس مسعود بارزاني، رئيساً لمجلس الوزراء، خلفاً لأبن عمه. 
في أواخر العام 2022، عقد الحزب الديمقراطي الكردستاني مؤتمره الرابع عشر، غدا فيه الرئيس مسعود البرزاني زعيماً "رمزياً" للحزب، فيما أصبح رئيس الإقليم نيجيرفان بارزاني ورئيس وزراء الإقليم مسرور بارزاني نائبان لزعيم الحزب. 


نهاية مشروع


 كانت الشهور الأخيرة من ذلك العام جذرية التأثير، ليس فقط لخروج الزعيمين طالباني وبارزاني من مركز الفعل السياسي، بل أيضاً لتبدلين جوهريين حدثا خلال ذلك الوقت بالضبط. 
فقبل رحيل الطالباني بعشرة أيام فحسب، كان إقليم كردستان قد أجرى استفتاء تاريخياً استثنائياً، أختار فيه 97 بالمائة من المُستفتيين من السكان استقلال إقليم كردستان عن العراق. وهو ما أثار توتراً سياسياً وشعبياً عراقياً، وتصعيداً إقليمياً استثنائياً، طال لعدة أشهر. 


في تلك الأثناء، وقُبيل تنحي الرئيس بارزاني عن رئاسة الإقليم، كانت فصائل الحشد الشعبي مع فرقٍ من الجيش العراقي، تهاجم مختلف المناطق المتنازع عليها بين إقليم كردستان والسلطة المركزية، بالذات محافظة كركوك والمناطق ذات الأغلبية الكردية في محافظة نينوى "الموصل"، والتي كانت تحت سيطرة قوات البيشمركة الكردية قبل ذلك التاريخ. 
كانت تلك الهجمة العسكرية، التي جرت بغطاء سياسي وأمني إقليمي كامل، بالذات من تركيا وإيران، بمثابة إعلانٍ رسمي عن "انتهاء" مرحلة ومشروع استفتاء الاستقلال الذي أجراه إقليم كردستان. وتالياً كسر السياق السياسي الكردي المتصاعد منذ أوائل التسعينات الذي كان قائماً على سعي أكراد العراق على خلق مساحة جغرافية وسياسية خاصة بهم، مع إعطاء كامل الضمانات واشكال الطمأنينة للشركاء السياسيين في الداخل، والدول الإقليمية المحيطية بالعراق، بالذات تركيا وإيران وسوريا، التي تملك قضايا سياسية كردية ملتهبة في دواخلها. 


فعلياً، كانت نهاية مشروع الاستقلال يعني نهاية لنوعية من السياسة الكردية، التي قادها جيل الآباء لعقود،  أي جلال الطالباني ومسعود بارزاني اللذين تزعما الحركة القومية الكردية منذ اواسط السبعينات، حينما كانت هذه الأخيرة في اقصى انهيارها.  


منذ تلك اللحظة السياسية بالضبط، قاد الأبناء مرحلة ونوعية جديدة من الممارسة السياسية، كان لرئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني دوراً رئيسياً فيها، بالشراكة والتواصل مع القادة الجدد للاتحاد الوطني الكردستاني. حيث تمت فيها، ولشهور طويلة، إعادة التوازن السياسي للأكراد مع باقي المكونات داخل العراق، من خلال استرداد وتركيب الحضور الكردي في المؤسسات الحكومية والدولتية والتشريعية في الدولة العراقية، خصوصاً بعد انتخابات العام 2018. وإلى جانبها ترتيب أواصر الثقة والتعهدات السياسية والأمنية مع دول الجوار، وحسب مجموعة جديدة من الاعتبارات، أولها الاقتصاد والمصالح الاستراتيجية، والعمل ضمن قواعد لعبة متوازنة.


خمس سنوات مضت على بدء "جيل الأبناء" هؤلاء قيادة المركب السياسي والحكومي العمومي في الإقليم، وهي سنوات شهدت تحولات على مختلف المستويات، كانعكاس لذلك التبدل الجيلي، وما رافقه من نوعية خاصة من الخيارات والثقافة والاستراتيجية السياسية.  


عائلات سياسية أم وراثة سلطوية


في نقاشها لشرعية هذا الانتقال السياسي، من الآباء إلي الأبناء، فأن النخبة السياسية المُقربة من هذه القيادات، تنفي أن يكون النموذج الذي يجري في إقليم كردستان مطابقاً لتلك الأمثلة السلطوية التي في العديد من الأنظمة السياسية الجمهورية الشمولية، في المنطقة والعالم، حيث يتوارث الأبناء السلطة العامة في هذه الأنظمة عن آبائهم، كما في كوريا الشمالية وسوريا. 


فما يجري في كردستان هو استمرار لنوعية من السياقات السياسية الممتد منذ أوائل القرن المنصرم. فمنذئذ، كانت عائلات كردية معينة تقود الجماعة الكردية سياسياً للدفاع عن حقوقها القومية، التي كانت تراها منقوصة ومهضومة في ظلال الدولة العراقية. تلك العائلات التي كانت بدورها متأتية من زعمات عشائرية ومناطقية ومشيخية "تقليدية"، طورت زعامتها الاجتماعية والسلطوية التقليدية بالتقادم، لتكون زعامة سياسية/حزبية، بقبول وتوافق مع القواعد الاجتماعية والموالين لها في تلك المناطق، وفي مختلف مناطق الإقليم. 


كانت عائلات كردية زعاماتية تقليدية، مثل البارزاني والحفيد والزيباري والطالباني، وغيرها، دخلت جميعاً تلك التحولات طوال عقود كثيرة، أسست وتزعمت الأحزاب وفصائل الكفاح المسلح، حملت المطالب القومية والمسألة المركزية للكرد طوال مختلف هذه المراحل، وصارت بموجبها عائلات تملك حضوراً رمزياً وروحياً في الذات الجمعية للكُرد، وبذا غدت تملك الكثير من أواصر شرعية الزعامة والتمثيل السياسي. 
عائلتا البارزاني والطالباني كانتا وبقيتا الأكثر بروزاً في تلك المسيرة. وليس مستغرباً أنهما العائلتان اللتان تقاسمتا زعامة الحزب الديمقراطي الكردستاني في مراحل تحوله، وهو الحزب الذي كان حمال المسألة القومية الكردية في العراق منذ العام 1946. 

Getty Images
الملا مصطفى البرزاني الزعيم التاريخي للنضال الكردي


فعائلة البارزاني التي تدير وتترأس الطريقة الصوفية النقشبندية، تحولت زعامتها الدينية/العشائرية/المناطقية إلى زعامة سياسية منذ العام 1903، حين أعدمت السلطات العثمانية الشيخ عبد السلام بارزاني في مدينة الموصل، عم رئيس الإقليم وزعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني، وذلك لقيادته المطالب الكردية بوجه السلطات العثمانية وسياسة التتريك التي كانت تنتهجها. ومن تلك الحادثة التأسيسية، انتقلت الزعامة إلى الأخوين مصطفى وأحمد بارزاني، اللذان قادا سلسلة من الانتفاضات ضد السلطة المركزية منذ تأسيس الدولة العراقية، رفضاً لطمس الحقوق القومية الكردية داخلها. ثم غدا الوالد مصطفى بارزاني شخصية اسطورية في الذات الكردية، لأنه كان وزيراً لدفاع جمهورية كردستان التي تم أعلنت في مدينة مهاباد في العام 1946، وغادر بمئات القادة والمقاتلين إلى الاتحاد السوفياتي في نفس ذلك العام، ومن ثم عاد وقاد الحزب الديمقراطي الكردستاني منذ العام 1957، ومن بعده الكفاح الكردي المسلح منذ العام 1961 وحتى العام 1975. وقد تلاه نجلاه إدريس ومسعود بارزاني، وفي نفس الأدوار. والدا رئيسي الإقليم ومجلس الوزراء فيه. 
 

ما يجري في كردستان هو استمرار لنوعية من السياقات السياسية الممتد منذ أوائل القرن المنصرم. فمنذئذ، كانت عائلات كردية معينة تقود الجماعة الكردية سياسياً للدفاع عن حقوقها القومية، التي كانت تراها منقوصة ومهضومة في ظلال الدولة العراقية

عائلة طالباني، التي كانت تتزعم تاريخياً الطريقة الصوفية القادرية في محافظة كركوك والمناطق الشرقية من محافظة أربيل. صعدت سياسياً مع بروز نجم الرئيس جلال الطالباني منذ أواسط الخمسينات من القرن المنصرم، وعلاقة المصاهرة التي جمعته بالزعيم السياسي الآخر للحزب الديمقراطي الكردستاني إبراهيم أحمد، الحقوقي والسياسي الحديث، الذي كان قد أسس وقاد عددا من أوائل الأحزاب القومية الكردية في العراق، إلى أن صار منافساً للزعيم مصطفى بارزاني في قيادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وحدث الانشقاق الشهير بينهما وفي الحزب منذ العام 1964. وغدت الحياة السياسية في كردستان مقسمة منذ ذلك الوقت على أثنين.


بهذا المعنى، فأن الانتقال السياسي بين جيلي الآباء والأبناء في المتن السياسي في الإقليم ليس نقلاً للـ"السلطة العامة" ضمن العائلة الواحدة، كما في أمثلة الدول الأخرى. بل هو بقاء لعائلة ما في زعامة حزب وتيار سياسي بعينه، وبناء على التاريخ "النضالي" الخاص بهذه العائلة، وحسب قبول القواعد الاجتماعية والتنظيمية والحزبية لها. 


أي أن الانتقال يتم ضمن الفضاء والملاكات الحزبية فحسب، لا للسلطة ومؤسساتها وشرعيتها وعوائدها. حيث إن هذه الأحزاب في المحصلة هي كيانات "خاصة"، تنحصر فاعلية وسلطة قادتها على أعضائها فحسب، وبناء على رضاهم وقبولهم. ومشاركتها في السلطة نابعة من مساهمتها وحصتها في الانتخابات العمومية التي تجري بشكل دوري، حيث يتم تشكيل المؤسسات والسلطات الشرعية حسب ما تحصل عليه من نتائج في تلك الانتخابات. 
لكن المعارضين والمناوئين لهذين الحزبين الرئيسيين، يضيفون إن ذلك كان سيصح، فيما لو كانت السلطة العامة في الإقليم، السلطة والمؤسسات الحكومية والاقتصادية والعسكرية والأمنية بالذات، معزولة ومستقلة وأقوى من السلطة الحزبية وأدواتها في مختلف مناطق الإقليم. لكن الأحزاب في الإقليم هي السلطة الحقيقية فعلياً، وفي مختلف مناح الحياة، حسب هؤلاء. فإذ صح أن ثمة عائلات سياسية في عدد من دول العالم، بما في ذلك دولاً راسخة في الديمقراطية، مثل فرنسا وكندا واليابان، فأنها عائلات سياسية/حزبية منضبطة وخاضعة لسلطة القانون العام لأجهزة الدولة ومواثيقها، صاحبة السلطة الرمزية والمادية العليا في تلك البلدان. 

Getty Images
زعيما الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود برزاني والاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني في اربيل بعد الانتخابات التشريعية في كردستان -العراق سنة 1992


لكن العوائل السياسية في كردستان لا تقتصر على الحزبين الرئيسيين هذين فحسب، بل تنحسب على مختلف الطيف السياسي، بما في ذلك الحزب الاشتراكي والحزبين الإسلاميين، وحتى حركة التغيير الكردية "كوران" والمعارضة الجذرية المتمثلة بتيار "الجيل الجديد". ففي دواخل كل منها، ثمة شبكة روابط عائلية متينة، تشغل فيها عائلة ما مركز الصدارة، ويملك أعضاؤها سلطات فوق البنية التنظيمية والبيروقراطية والسياسية للحزب ويُمسكون بكل مفاتيح الحل والربط الرئيسية في التنظيم، بالذات فيما خاص أموال الحزب وملفاته الأكثر سرية وحساسية.


أربعة فروق جوهرية بين جيلين


يُجمع المراقبون أن ثمة العديد من الفروق الجوهرية والتفصيلية بين أداء ونوعية تفكير الجيلين، يمكن تصنيفها في أربعة أبواب محددة، يختلف فيها الأبناء عن الآباء بوضوح تام.
فالمصدر الرئيسي الذي يريد الأبناء أن يستنبطوا منه شرعية حضورهم وسلطتهم متمركز حول قضايا تتعلق بالتنمية والمؤسسات وزيادة الشفافية وتوفير فرص العمل ورفع سوية العدالة الاجتماعية ومناهضة الفساد، إلى جانب نوازع رمزية، مثل الدفاع عن حقوق النساء والدفع بالشباب إلى المقدمة وتحسين جودة التعليم والحفاظ على البيئة. 
يحدث ذلك، في وقتٍ كان الآباء يستندون إلى ترسانة كبرى من الأفعال والذاكرة الجمعية المرتبطة بسنوات الكفاح المسلح وخطابات المطالبة بالحقوق القومية للأكراد. إذ كانوا يعتبرون أن شرعية حكمهم وسلطتهم السياسية هي الجنين الطبيعي لشرعية كفاحهم المسلح، الذي نقل الأكراد من مكانة الإلغاء والنكران السياسي التي كانوا يعيشونها، إلى سدة الاعتراف وبناء الكيان، وعبر الكفاح المسلح الذي كانوا يقودونه وقدموا الكثير من التضحية في سبيله. 


هذه الفروق بين الجيلين، من حيث آلية ورمزية الشرعية، نابعة أساساً من تبدل جوهري في المجتمع الكردي نفسه الذي ما عاد متعطشاً لتحقيق الذات القومية والاعتراف بها، مثلما كان من قبل، بل صارت أجياله الأحدث تملك لائحة كاملة محدثة من المطالب المعيشية التنموية. 


إلى جانب ذلك، فأن جيل الأبناء منخرط في السياسة من البوابة الإقليمية والعالمية، بالذات من شبكة العلاقات التي تربط إقليم كردستان مع العديد من دول الإقليم والعالم. بينما كان الآباء فيه جزءا عضوياً ومنشغلاً تماماً بالداخل العراقي، وحتى بعض علاقاتهم الإقليمية، كانت من باب المزيد من المساهمة والتأثير في ذلك العراق. 
 

المصدر الرئيسي الذي يريد الأبناء أن يستنبطوا منه شرعية حضورهم وسلطتهم متمركز حول قضايا تتعلق بالتنمية والمؤسسات وزيادة الشفافية وتوفير فرص العمل ورفع سوية العدالة الاجتماعية ومناهضة الفساد

إذا يُمكن للمتابع أن يرصد مشاركة لرئيس وزراء الإقليم في قمة الحكومات التي عُقدت في دولة الإمارات، قادماً من منتدى دافوس الدولي للتنمية، وذاهباً لزيارة رسمية الى فرنسا، فأن رئيس الإقليم يشارك في مؤتمر ميونخ للأمن، بعد أن كان قد استقبل رئيسة المجر ورئيسة وزراء إيطاليا في كردستان خلال الشهرين الماضيين. وهكذا هي باقي دورة حياتهم السياسية اليومية.
يفعل جيل الأبناء ذلك، مع تقليص لمستوى تفاعلهم التفصيلي في "زواريب" السياسة اليومية العراقية وصراعات الأجنحة والتيارات والأحزاب هناك. فالعلاقة التداخلية مع باقي العراق تكاد أن تكون قائمة على نوع من التوافق على المشاركة، مع الإبقاء على ملفات عالقة، مثل حصة الإقليم من الموزانة المركزية والمناطق المتنازع عليها وإقرار تشريعات تفصل حقوق وسلطات الإقليم مقارنة بما للمركز. ومع الأمرين بعض العلاقات البروتوكولية الرمزية فحسب.


على النقيض من ذلك، فأن جيل الآباء كان "عراقياً" بالكامل، سياسياً بالذات. فالزعيمان جلال الطالباني ومسعود بارزاني كانا على تواصل وعلاقة متينة مع القادة والقوى السياسية العراقية. تجمعهما ساحات الكفاح المسلح ضد النظام السابق، وتخطيط لعدد كبير من الانقلابات السياسية التي شهدها العراق. وتبعه عمل سياسي تشاركي متراكم لعقود، بغية خلق جبهة مناهضة لذلك النظام، إلى جانب وحدة الحال السياسية والإيديولوجية، بالذات مع أبناء التيارات اليسارية والقومية الوطنية العراقية. 


انسحاب ثقافي


يمتد ذلك "الانسحاب" من المشهد السياسي العراقي ليكون ثقافياً ورمزياً بدوره. 
فبينما كان الآباء أعضاء وذو معرفة متينة بالثقافة والمجتمع والرموز والذاكرة الجمعية العراقية ويعرفون اللغة العربية جيداً، وعاشوا سنوات كثيرة من أعمارهم في مدن عراقية مختلفة، حيث كان يحتفظ المام جلال مثلاً بديوان الجواهري بشكل دائم معه، إلى جانب المصحف الكريم، وثمة علاقة وجدانية وعرفية شديدة المتانة بين الرئيس مسعود بارزاني ومختلف زعماء العشائر العربية في البلاد والمنطقة، فأن الأمر مختلف تماماً بالنسبة للأبناء. 

الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ورئيس اقليم كردستان نيجيرفان برزاني في باريس سنة 2019


فالأبناء الأربعة الأكثر فاعلية، نجلا الرئيس جلال الطالباني ونجل الرئيس مسعود بارزاني وأبن أخيه، لا يعرف أي منهم اللغة العربية، والثقافة المعرفية لثلاثة منهم هي غربية تماماً، بينما الرابع يتقن الفارسية بطلاقة. عاشوا جمعياً في دولٍ مثل إيران وسوريا وبريطانيا، ولم يسبق لأحد منهم أن تداخل مع المشهد الاجتماعي والثقافي العراقي الآخر إلا من باب الواجب السياسي والفروض الدستورية والبروتوكولية. وفي وقت كان أحد الآباء رئيساً لجمهورية العراق، والآخر كُتب الدستور العراقي الجديد في منزله في بغداد، فأن أي من الأبناء الأربعة لم يعلن في أي وقت عن رغبته في تولي أي منصب ذو صبغة عراقية. 
ما ينطبق على العراق من فروق في علاقة جيلين من الساسة الكرد هؤلاء، ينطبق نسبياً على علاقتهم وتداخلهم في المسألة والساحات الكردية في باقي دول المنطقة. 
 فالآباء كانوا منخرطين في المسائل الكردية في مختلف دول المنطقة، في إيران وتركيا وسوريا، يملكون علاقات وطيدة مع الحركات الكردية في تلك البلدان، ومشغولين على الدوام بالمسألة الكردية في كامل المنطقة، مُعتبرين المسألة الكردية في العراق جزء من الكل الكردي الإقليمي. إلى جانب ما كانوا يكنونه من أواصر وجدانية ومعرفة سياسية بتداخلات تلك المسألة، من خلال ما عاشوه وجربوه من تنقلات على أطراف الحدود خلال سنوات الكفاح المسلح. 


الأبناء مركونون إلى نوع من الواقعية السياسية الواضحة، التي يعبرون عنها على الدوام، والمتمثلة بأولوية إقليم كردستان والمسؤولية عنه، وإن كانوا يملكون الكثير من المشاعر والأحاسيس الوجدانية تجاه الأكراد في البلدان الأخرى، لكنهم صاروا متيقنين بأن المسألة الكردية لم يعد يُستطاع حلها إلا كمجموعة من القضايا المنفصلة، التي تملك كل واحدة منها خصائصها ونوعية ديناميكياتها الذاتية، المرتبطة بهذه الدولة أو تلك، وأن دور إقليم كردستان متمثل في خلق مساندة لهؤلاء الأكراد، وممرات حوار بين هذه الدول وأكرادها، لمزيد من التفاهم والتوافق فيما بينهم.  
 
 

font change