في عيون الآخرين

في عيون الآخرين

في رواية "خفة الكائن التي لا تحتمل" يميز ميلان كونديرا بين أربعة أنواع من الأنظار التي يمكننا أن نرغب في أن نقع تحتها: "فمنّا مَن يرغب أن يقع تحت أنظار العموم، أي تحت أنظار لا حصر لها مجهولة الاسم، هؤلاء هم عشاق المجد والشهرة، ثم هناك من يعشق أنظار من يعرفهم بعددهم المحدود وأسمائهم المعروفة، وهناك من لا يستطيع العيش من غير أن يقع تحت ناظري العشيق، وأخيرا، هناك من يعشقون العيش تحت أنظار غائبة، هؤلاء هم الحالمون الذين لا يفتأون يقعون تحت أنظار من فقدوهم وابتعدوا عنهم".

إن كان تصنيف الكاتب التشيكي يبدو مستوفيا للوهلة الأولى، إلا أنه يغيّب، في رأينا، مفعول النظرة، وأهميتها في تحديد العلاقة بين الذات والآخر، وكونه يتحدث عن الوقوع تحت الأنظار كما لو كان لا يهز الإنسان في أعماقه ولا يشرط وجوده ولا حريته. في هذا المعنى يمكن أن نتحدث عن بعد أنطولوجي للوقوع تحت الأنظار. ولعل الفيلسوف الذي وضع إصبعه على هذه النقطة، وأبرز هذا البعد، هو الفرنسي جان بول سارتر في كتابه الأساس، "الوجود والعدم"، وكذا في مسرحية "أبواب مغلقة".

ينكبّ سارتر على هذه المسألة في صفحات من ذلك الكتاب يخصصها لأهمية النظرة في تحديد علاقة الذات بالآخر، والدور الذي تلعبه في تحديد حريتها. فإذا كان الآخر-الموضوع يتحدد في ارتباطه بالعالم على أنه الموضوع الذي يرى ما أراه في نظر الفيلسوف الفينومينولوجي-الوجودي، فإن علاقتي الأساس مع الآخر-الذات ينبغي أن تُردّ إلى إمكاني الدائم أن أقع تحت أنظاره. ففي انكشاف وجودي كموضوع من أجل الآخر سيكون عليّ أن أتمكن من إدراك حضور وجوده كذات. لأن الآخر الذي حوّلته عن طريق نظرتي إلى موضوع، لا يمكن إلا أن يحوّلني بدوره إلى موضوع. فأنا لا يمكنني أن أكون موضوعا بالنسبة إلى موضوع. ولكن، ها هو الآخر قد ظهر وها هو ينظر إليّ، أو لنقل بالأحرى "ها هو يسلّط عليّ نظرته" فيتغير كل شيء. فليست عينه، وأعني "الحاسة العضوية للرؤية"هي التي تخفيها النظرة، بل النظرة نفسها هي التي تظهر لي بغتة تهديدا لعالمي، "لأن هذه النظرة الموجهة نحوي، تظهر على خلفية تدمير العيون التي تنظر إليّ. الآن وقد وقعت عليّ هذه النظرة، من غير أن تترك مسافة، مبعدة إياي في الوقت ذاته، الآن أعي أنني محط أنظار. إنها علاقة عدوانية في جوهرها تسري بين الآخر وبيني". فجأة أشعر بالضعف. في هذا المعنى تقول المسرحية بأن "الجحيم هي الآخر". عندما ينظر إليّ الآخر، يجعلني أعي أنني محط نظر "تنكشف لي حرية الآخر من خلال اللاتحديد المقلق للكائن الذي أنا بالنسبة إليه". بما أن حريتي تتوقف عندما تقع عليّ نظرة الآخر، فهناك بعد الوجود هذا الذي يفصلني عن إمكاناتي عن طريق عدم جذري. الآن وأنا محط نظرة، فأنا في يد حرية الآخر.

هناك من يعشقون العيش تحت أنظار غائبة، هؤلاء هم الحالمون الذين لا يفتأون يقعون تحت أنظار من فقدوهم وابتعدوا عنهم

العلاقة التي يبرزها سارتر هنا، بما يميزها من طابع عدواني، لا يمكن أن تدخل في أصناف البحث عن الاعتراف، أو الإعجاب، أو الافتتان، أو الحنين التي تولدها الأصناف التي يذكرها. لكن، فضلا عن إهمال كونديرا لهذه العلاقة التي تتولد عن وقوع الذات تحت نظرة الآخر، فإن تصنيفه المذكور أعلاه يبدو لنا بعيدا عن التدقيق. فما يجمله داخل الصنف الأول يبدو لنا أنه خضع لتحوّل عبر التاريخ، وأنه يضم أصنافا متعددة، حتى لا نقول متباينة. ومنها صنف الباحثين عن أنظار، ليس من أجل الشهرة وإنما ضمانا للوجود، إن صح التعبير. وقد سبق لجان بيار فرنان أن بيّن  أنه في المجتمع اليوناني لم تكن لأفعال الفرد قيمة إلا في عيون من "يرونها". كان الفرد يعيش تحت أنظار الآخرين، وهو يوجد بدلالة ما يراه الآخرون فيه، وما يقولونه عنه، ومن التقدير الذي يحسّون به نحوه. "فما يكونه الإنسان، قيمته وهويته، كل ذلك يستلزم أن يكون معترَفا به من طرف جماعة أمثاله. فإذا ما طُرد الفرد من مدينته، إذا ما أبعده المنفى ودنّسه، لا يعود شيئا. إنّه يكفّ عن الوجود".

كان مجتمع المدينة الإغريقية مجتمع "وجها لوجه". لا يعني ذلك أنه كان مجتمع مواجهة وصراع، بل ربّما العكس هو الصحيح. إنّه، ظاهريا على الأقلّ، مجتمع تناغم وانسجام يعيش فيه كل فرد على مرأى من الجميع و"تحت أنظارهم". فهو يتصرّف وفق ما يرتضونه ويعمل حسب ما "يرونه". قيمة المرء وهويته تُستمدّان من اعتراف أمثاله داخل المدينة. وعندما يسيء هو التصرّف، لم يكن ليشعر بـ"أزمة ضمير"، وإنّما كان يحسّ بالحاجة إلى أن "يغرب بوجهه" عن الناس ويختفي عن أنظارهم، أن "يغترب". ربما لهذا السبب كانت الغربة والمنفى خارج المدينة يتخذان عند الإغريق دلالة كبرى، أخلاقية وسياسية، بل أنطولوجية ووجودية. كان الإبعاد عن المدينة نفيا لإنسانية الإنسان، وعدم اعتراف بقيمته، ومحوا لهويته. كان إبعاده عن الأنظار إعداما حقيقيا.

ولكن، هل هذا الأمر وقف على الإغريق وحدهم؟ فمن منّا اليوم من لا "ينهل من معين الآخرين"؟ كلّنا نحيا، أو نودّ أن نحيا، على مرأى من الجميع. صحيح أنّ مجال الرؤية قد اتسع، وأن "المدينة" غدت عالما هو أشبه بالقرية الصغيرة، إلا أنّ مجتمع الإعلام، يجعل كلا منّا، شاء أم أبى، يُلقي بنفسه، عبر وسائل الاتصال، تحت أنظار جمهور لا ينفكّ يتّسع. لذا يتساءل فرنان: "هل من الممكن أن نقرّب بين ما نقوله عن الإغريق وبين ما نلحظه اليوم: أي الرغبة في النجاح مهما كان الثمن، والسعي وراء الشهرة التي تجعل المرء، عبر الوسائط الإعلامية، تحت أنظار الجمهور الواسع؟"، فيجيب: "ربما العكس بالأحرى. فنحن لا نعيش في مجتمع "وجها لوجه"، وإنّما في "مجتمع الفرجة". فما يبديه كل منا للأنظار على صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون، ليس هو ذاته كما يعرِف نفسه في مكنون ضميره الشخصي، وإنّما صورة مصطنعة، مفبركة، وقد أخرجت إخراجا مسرحيا وفق الحاجة التي يفرضها الوقت، إنّها صورة مخادعة مثل صور الإعلانات والإشهار. هذه الصورة هي بالتحديد صورة عابرة. وذيوعها لا ينتصر وينجح إلا لكي يُخليَ المكان لتلك التي سرعان ما ستحلّ محلها كي تشبع حاجة التغيير والتجديد التي يبديها المشاهدون والمتفرّجون". مجتمع المدينة يختلف أشد الاختلاف عن مجتمع الإعلام الذي نحيا بين ظهرانيه، حيث يعطي الفرد نفسه في مشهد، كما تقول العبارة الفرنسية spectacleIl se donne en عن طريق وسائل الاتصال، تحت أنظار جمهور لا ينفك يتسع.

إنّها ثقافة الخجل والشرف في مقابل ثقافات الخطأ والواجب. "عندما يقوم إغريقي بفعل قبيح، لا يتولّد عنده شعور بأنّه اقترف خطيئة، كأنّها مرض داخلي، وإنّما يلازمه إحساس بأنّه لم يكن أهلا لما كان هو نفسه أو غيره ينتظرونه منه. إنّه "يفقد وجهه". وعندما يحسن السلوك والتصرّف، فليس وفقا لإلزامٍ فُرض عليه، أو بحسب قاعدة من قواعد الواجب سنّها الأمر الأخلاقي لعقل كوني، وإنّما انجذابا نحو القيم الجمالية والأخلاقية على السواء: قيمتَي الحسن والقبح. ليست الأخلاق خضوعا لإكراه، وإنّما هي انسجام باطنيّ للفرد مع نظام العالم وجماله". الفعل الأخلاقي تناغم مع "البوليس" و"الكوزموس"، مع المدينة والكون.

النجاح الذي كان يرمي إليه مواطن المدينة الإغريقية، لم يكن هو الشهرة وذيوع الصيت. إذ إن الصورة التي ترتسم في أعين الآخرين، في مجتمع وجها لوجه، جزء من هوية صاحبها وبعدٌ من حياته الباطنية-الخارجية، وتحقيق لبطولة، ورسم لمعلمة هدفها البطولات والترسّخ في الذاكرة. أما الصور التي تتناقلها وسائل الاتصال في مجتمعات الفرجة فهي تنتج بعد "إخراج"، في انتظار صور أخرى تحل محلها. إنها صور لا يفتأ بعضها ينسخ الآخر.

علاقتي الأساس مع الآخر-الذات ينبغي أن تُردّ إلى إمكاني الدائم أن أقع تحت أنظاره. ففي انكشاف وجودي كموضوع من أجل الآخر سيكون عليّ أن أتمكن من إدراك حضور وجوده كذات


ذلك أنّنا أصبحنا نعمل صباح مساء على السعي للوقوع تحت أنظار متعدّدة الوجوه، والتشبّه بصور لا تفتأ مرايا الوجود تعكسها عنا، ولا تنفكّ وسائل الإعلام تصنعها لنا. هل يمكن أن نستنج من ذلك أنّ الفرق بيننا وبين القدماء فرق كميّ، وأنّ عدد من نقع "تحت أنظارهم"اليوم ازداد بشكل مذهل، وأنّنا أمام "الذباب" عينه، مع فارق وحيد هو أن عالم اليوم "عالم كثُر ذبابه"؟ الظاهر أنّ الفرق هنا يتجاوز الأعداد والكمّ، وأنّه يرتبط بآلية العمل ذاتها. يتضح لنا ذلك في ما أصبح يدعى "ثقافة البوز" Pose، حيث يغدو رهان الأفراد تحقيق أعلى درجات "البوز" الممكنة بهدف الخروج من العالم المجهول ولوجا للعالم المعلوم، من العالم-النكرة نحو العالم-المعرفة، أي من اللاوجود إلى الوجود. لا يكتفي "البوز" بأن يجعل المتلقّي يكتفي باستهلاك المعلومة، وإنّما يجعله مروّجا لها وأداة لنشرها. في "البوز "تغدو الوسائط لا وسيلة بل هدفا وموضوعا. فمن يتلقّى المعلومة هو الذي سيعمل على نشرها وذيوعها. هكذا يفسح "البوز" للمعلومة انتشارا مضعّفا ومضاعفا. إنّه لا يكتفي بأن ينتج المعلومات، وإنّما يسعى لأن ينتج الأفراد ذاتهم، ينتج من ينتجونها. لذا يستنتج جان بودريار: "إنّ الفرد نفسه يصبح شكلا من أشكال المنتوجات بالنسبة إلى مجتمع لا ينفكّ  يزداد جشعا". لكن الأهم من ذلك هو هذه الرغبة المتدفقة في لفت الأنظار وجرّها نحو الذات التي لا تعود توجد بما هي تفكر أو لا تفكر، بل بما هي محط أنظار.

font change
مقالات ذات صلة