لبنان الميّت.. سوقُ كلماتٍ خاوية

لبنان الميّت.. سوقُ كلماتٍ خاوية

نعم صار لبنان بلدًا ميتًا، وأهلُه قبلوا موته، وجعل أهلُ السياسة فيه جنازتَه عرسًا لتراشقهم وتطاعنهم بكلمات خاوية.

فبعد شيوع كلمات من أمثال: الانهيار، الفراغ، التعطيل، انفجار المرفأ، المصارف، الأموال المنهوبة، الدعم، رفع الدعم، الكابيتال كونترول، التحقيق الجنائي، الاستحقاقات الدستورية، الكهرباء، التقنين، العتمة الشاملة، ترسيم الحدود البحرية، التطبيع، حقول النفط والغاز، انتخاب رئيس للجمهورية... بعد هذا كله وسواه، تتناسل في القاموس السياسي والإعلامي اليومي الشائع هذه الأيام في لبنان كلمات جديدة من نوع: الفدرالية، اللامركزية الإدارية والمالية، الأمن الذاتي، التقسيم... ويَفترِض من يتراشقونها ويتطاعنون بها أنها تُهَمٌ تثير الخوف والهلع. لكنها سرعان ما تنطوي وتُنسى، لتتناسل كلماتٌ سواها، تزول بدورها قبل أن تترك أثرًا أو صدىً، لا في أسماع مطلقيها ومذيعيها في الناس، ولا في أسماع الناس ووقائع حياتهم التاعسة المعتمة في سعيهم اليومي.

لا أحد يهتم أو يتساءل من يعلك هذه الكلمات ويتقيأها، لماذا يفعل وما هي غايته؟

فلبنان اليوم لم يعد مجتمعًا ولا دولة، وصحافته لم تعد صحافة، بل كلمات من هذا النوع الصنميّ الأجوف. والحياة السياسية اللبنانية صارت ضوضاء كلمات لا تقول شيئًا ولا تعني شيئًا ولا أحدًا، ومنفصلة تمامًا عن وقائع الحياة الخرساء المختنقة بمثل هذه الكلمات التي لكلِّ من يريد التراشق بها وإشاعتها في الناسِ موظفون صغارٌ يدبّجونها مقالات صحافية غبَّ طلبِ أولياء نعمتهم.

والمقالات هذه تشبه رسائل الحمام الزاجل. أو ما يردّده زجّالون من منصاتٍ بلا جمهور ولا مستمعين. أو ما يحفظه ضاربو المندل والمبصّرون وقرّاء الطالع.

مشاهد ومفارقات

لقد سقط كل شيء في لبنان. لم يعد أحد يصدّق ما يقال. وما يُقال في العلانية العامة تعاويذ وأراجير.

حتى أوراق العملة النقدية، رغم الفقر والقلّة والتقطير، صارت هباءً منثورًا في أيدي حامليها في دكاكين الصرّافين.

الهواء، حتى الهواء في الشوارع صار كاسدًا وخاملًا. ووجوه العابرين في الشوارع تبدو سادرة بلا ملامح.

من يقفون ساعاتٍ على أبواب المصارف تعوّدوا المذلّة اليومية. في ثيابهم الرثّة وبِصَمتِهم الكئيب ينتظرون توزيع حصص الإعاشة عليهم.

لكن إحصاءً موثوقًا أكد أن اللبنانيين اشتروا في العام 2022 المنصرم سياراتٍ جديدة بمليار وربع المليار من الدولارات. وأرتال من السيارات الجديدة المستوردة لا تزال تقبع على أرصفة المرفأ المدمّر، في انتظار تخليص المعاملات الجمركية لإخراجها.

إحدى المحطات التلفزيونية المحلية، بعد تداول اسم مديرها العام في بورصة الترشُّح لرئاسة الجمهورية، وضعت سياسة إعلامية جديدة لبرامجها: تسويق جمال لبنان ونبوغ أهله في المهاجر، وجذب السّيّاح إلى ربوعه، ونجاح نجوم غنائه في ديار الاغتراب القريبة والبعيدة. لكن نشرة الأخبار المسائية في المحطة عينها تبثّ ريبورتاجات عن عذابات الناس اليومية في ديارهم.

في شارعين فسيحين على واجهة بيروت البحرية، غير بعيد من أطلال المرفأ والفنادق الفخمة المهجورة، مقاهٍ ومطاعم تصطفُّ أمامها أرتال من أفخم سيارات الدّفع الرباعي واللامبورغيني والكاديلاك. إضافة إلى أخرى لهواة اقتناء السيارات القديمة النادرة. وعلى أرصفة هذه المقاهي والمطاعم تجلس نساء وفتيات البوتوكس، ويجلس رجال السيجار الكوبي.

في شارع الحمراء الذي صار كالحا، غالبا ما يلتقي في بقايا مقاهيه رجالٌ ممّن كانوا في عِدَاد الطبقة الوسطى (بينهم أساتذة جامعيون متقاعدون) فتكاد أحاديثهم تقتصر على سعر الدولار في السوق السوداء، أسعار الاشتراك الشهري في مولّدات الكهرباء، مقارنتها بكلفة تجهيزات الطاقة الشمسية.

الكلام المتناسل اليوم عن الفدرالية، واللامركزية الإدارية والمالية، والأمن الذاتي، والتقسيم... وغيرها سواها من صنف آخر في موسم مقبل قريب، فليست سوى كلمات لا تعني شيئا في بلاد ومختنقة ومقطّعة الأوصال.

في أحياء بيروت الداخلية للفئات ما دون الوسطى، مصاعد البنايات متوقفة كلها تقريبًا منذ سنتين. والبنايات في الليل تشبه تلك المهجورة المطفأة في مدينة أشباح صامتة بعد جولةٍ حربية. السلع الغذائية في متاجر هذه الأحياء لم تعد تُعرفُ مصادرها ولا ماركاتها. والسكان يسألون عن أسعارها فلا يشترون منها سوى الضروري والقليل. 


سائقو سيّارات الأجرة يبدّلون تعرفاتهم كل يوم، ويحدّثون الركاب عن بؤسهم المقيم. 
المدرّسون في القطاع الرسمي في إضرابٍ دائم عن العمل. التلامذة في عطلة دائمة، وتغصّ بهم البيوت والأزقة. 
وروى طالب تخرّج من كلية الفنون في الجامعة اللبنانية، أن زملاءه وزميلاته الـ25 هاجروا إلى الخارج، سوى اثنين أو ثلاثة يختنقون كمدًا لعسر ماديّ يمنعهم من الهجرة.

الفصام بين الواقع والكلمات


لا شيء يجمع شتات هذه المشاهد والمفارقات في بيروت وفي لبنان كله. وتحت هذا الشتات أو خلفه حكايات وقصص ووقائع لا يجمع شتاتها سوى عمل استقصائي تفصيلي ينقل حالات فردية وجماعية مبعثرة. 


أما الكلام المتناسل اليوم عن الفدرالية، واللامركزية الإدارية والمالية، والأمن الذاتي، والتقسيم... وغيرها سواها من صنف آخر في موسم مقبل قريب، فليست سوى كلمات لا تعني شيئا في بلاد ومختنقة ومقطّعة الأوصال.
ومن غرائب هذه الحال أن المتراشقين والمتطاعنين بهذه الكلمات يعلمون أنها ليست سوى كلمات للتراشق الإعلامي.


فالذي يرفض الفدرالية مثلًا لا يختلف عن المنادي بها. فكل منهما يفترضُ أنه يتحدث باسم جماعة أهلية وهوية أهلية مذهبية محدّدة، يخوض بها حربًا كلامية يريد منها افتعال زوبعة يتخيل أن ترفعه إلى منصب وزاري أو حكومي أو رئاسي.
وفي هذه السوق الكلامية التي تطوي فيها الكلمات سابقاتها لا شيء يتأسّس سوى اتساع هوّة الفصام بين حطام الواقع البائس والكلمات الخاوية الميتة.

font change