بعد 50 سنة على بداية حروب لبنان الأهلية-الإقليمية في عام 1975، وبعد 35 سنة على توقفها، أظهرت الانتخابات البلدية والاختيارية التي جرت في البلاد في شهر مايو/أيار (2025) أن اللبنانيين، جماعات وأحزابا وعائلات، فقدوا أشكال التعبير في حياتهم العامة، سوى تلك التي رسّختها حروبهم وكرّسوها جيلا بعد جيل لغة وسلوكا ومشاعر في الاجتماع والسياسة والسكن والعمل والاستحقاقات الانتخابية.
وفيما كان رئيسا جمهوريتهم وحكومتهم المنتخبان حديثا يرددان يوميا تقريبا شعار ضرورة "الإصلاحات (الشاملة) وحصر السلاح في يد سلطات الدولة الرسمية" بعد أشهر من حرب إسرائيلية دموية ومدمّرة لـ"حزب الله" وجماعته وللبنان أيضا، حضّروا هم وأحزابهم ومنظماتهم العصبية الطائفية لانتخابات ممثليهم لإدارة شؤونهم البلدية المحلية وأقبلوا عليها، كأنهم يخوضون حروبا بلا سلاح في مناطقهم ومدنهم وبلداتهم وأحيائهم. وفي نهاية كل جولة أسبوعية من هذه الانتخابات كان الرصاص العشوائي وسقوط قتلى وجرحى في غير منطقة، لغتهم التعبيرية الأساسية عن بهجة المنتصرين فيها، وكيدهم للخاسرين. أما في بعض أحياء بيروت فاكتفت أحزاب وجماعات بإطلاق المفرقعات والأسهم النارية ابتهاجا بتقدير قوى متنافسة بأنها هي الفائزة، بعد ساعتين على إقفال صناديق الاقتراع، وقبل الفراغ من فرز أصواتها (نسبة الاقتراع في بيروت لم تتجاوز 20 في المئة). وعلّقت امرأة غير لبنانية مقيمة في بيروت قائلة: "ضرب رصاص، ومجتمعات عصيّة على التغيير".
منطق الحرب الانتخابي والطبقي
نعم، لقد أظهرت هذه الانتخابات أن الناخبين سجناء في منطق الحرب وفي أشكال تعبيرها، لكن بلا معارك بالسلاح. أحزاب وعائلات متناحرة ومتعادية، تعقد تحالفات-صفقات في مناطق ودوائر انتخابية معينة، لأن لها في ذلك مصلحة تخلو من أي معنى سياسي وإنمائي يتجاوز التسلط والاستمرار في تقاسم السلطة والنفوذ المحلي وفي البلاد. والأحزاب والقوى نفسها خاضت معارك انتخابية ضارية في دوائر ومناطق أخرى، معلنة عداواتها فيصلا بينها، ومستلة شعاراتها من منطق الحرب وإرثها. وفي الحالتين أذعن محازبو هذه الأحزاب وجمهورها في المناطق والبلدات والقرى وأحياء المدن لقراراتها القيادية العليا المتناقضة، بلا أي سؤال.