بعد أسابيع من انسحاب الفرنسيين من سوريا في شهر أبريل/نيسان من عام 1946، تقدم بعض النواب بمذكرة إلى رئيس البرلمان في حينها سعد الله الجابري، تطالب باستعادة الأقضية الأربعة التي سُلخت عن بلدهم وضمت إلى لبنان عند إنشائه بداية عام 1920، وهي حاصبيا وراشيا والبقاع وبعلبك. رُفع الكتاب إلى رئيس الجمهورية شكري القوتلي الذي رده بالقول: "لا فرق إن كانت هذه الأقضية مع سوريا أو مع لبنان، لأن هذه الأمة ستتحد في يوم من الأيام ولن يكون هناك من يعدها لا سوريا، ولا لبنان". كان الرئيس القوتلي ومن معه في الحكم يؤمنون بالوطن العربي الموحد، ولا يعترفون بالحدود المصطنعة التي فُرضت عليه بموجب اتفاقية "سايكس بيكو" عام 1916.
رفض القوتلي ترسيم الحدود مع لبنان، أو حتى الدخول في مفاوضات سياسية حولها، وقد تعثر هذا الأمر من الجانب السوري في عتمة الانقلابات العسكرية التي بدأت عام 1949، ومن الطرف اللبناني، يوم غرق لبنان في حربه الأهلية ابتداء من عام 1975. بقيت الحدود المتعارف عليها بين البلدين هي الحدود القائمة منذ مطلع عهد الانتداب الفرنسي- على عيوبها وفوارقها– وهي تعود إلى الواجهة اليوم بعد اللقاء الأخير الذي جمع بين رئيس الحكومة اللبنانية نواف سلام والرئيس السوري أحمد الشرع في دمشق منتصف شهر أبريل 2025، ولقاء وزيري دفاع البلدين في جدة نهاية شهر مارس/آذار الماضي.
الرئيس سلام رجل قانون، بنى مجده في دراسة القانون في جامعتي هارفارد والسوربون، وتدريسه في الجامعة الأميركية في بيروت، وعمل جاهدا على احترامه وصونه والإشراف عليه عبر عمله قاضيا، ثم رئيسا في محكمة العدل الدولية في لاهاي. يهمه جدا إذن تطبيق القرارات الدولية المتعلقة بلبنان، وفي مقدمتها القرار الأممي 1701 الذي يدعو إلى انسحاب "حزب الله" إلى جنوب نهر الليطاني (وهو قرار معطل منذ عام 2006)، وقرار مجلس الأمن 1680، المنفذ جزئيا فقط، والذي يدعو إلى ترسيم الحدود بين سوريا ولبنان وفتح سفارات بين البلدين. عليه اليوم تشكيل لجان فنية مع الجانب السوري لترسيم هذه الحدود المبهمة إلى حد بعيد، والتي لم يتمكن أي من الذين سبقوه إلى السراي الكبير من ترسيمها، إما بسبب معارضة "حزب الله" وعدم رغبة سوريا، وإما للضعف الكبير في الخرائط الفرنسية القديمة التي أنشئت على أساسها هذه الحدود.
كل هذه الخرائط محفوظة الآن في أرشيف المؤسسة العسكرية في فرنسا، تحت الرقم "SHD/GR 4 H169/2"، وهي تعود إلى أوراق المكتب الثالث في الجيش الفرنسي (مكتب الاستخبارات والشؤون اللوجستية في زمن الانتداب على سوريا ولبنان) ومستنداته.
تغطي هذه الخرائط المدة الزمنية من عام 1916 ولغاية عام 1940، وعلى الرغم من وجود إشارات إلى المناطق الفرعية على الشريط الحدودي، والفواصل الإدارية بين البلدين، فإنها لا تُظهر بشكل واضح وصريح الحدود الدولية والسياسية بين لبنان وسوريا، ما يُصعب، على سبيل المثال، تحديد موقع مزارع شبعا المتنازع عليها مع إسرائيل، وهي القضية الرئيسة التي اتخذها "حزب الله" ذريعة للحفاظ على ترسانته العسكرية بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في شهر مايو/أيار 2000. هل هي سورية أم لبنانية؟ وما مصير بقية القرى والبلدات على هذا الشريط الحدودي المبهم، في حال توصل لبنان الجديد، وسوريا الجديدة، إلى ترسيم تاريخي للحدود، ما لم يكن ممكنا في زمن إيران، و"حزب الله"، وبشار الأسد؟