لبنان... 50 عاما على حرب لا تعرف النهاية ولا تجرؤ على البدء مجددا

لبنان بات ضرورة تاريخية بالنسبة لأبنائه وبناته

لينا جرادات
لينا جرادات

لبنان... 50 عاما على حرب لا تعرف النهاية ولا تجرؤ على البدء مجددا

في ليلة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، حين عمت المظاهرات شوارع لبنان من أقصاه إلى أقصاه، كتب أحد الأصدقاء واصفا تلك اللحظة بالقول: "الليلة انتهت الحرب الأهلية اللبنانية". هذا التعبير، الذي تداوله كثيرون ولاقى تفاعلا واسعا، عكس إحساسا عميقا بأن اللبنانيين، بخروجهم الجماعي والعفوي إلى الشوارع لأجل قضية واحدة، كانوا يعلنون رمزيا نهاية حربهم الطويلة. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يشعر فيها اللبنانيون بهذه الرغبة في إعلان نهاية الحرب، إذ تكرر هذا الشعور في كل منعطف تاريخي جامع: عام 1990 مع الإعلان الرسمي لنهاية الحرب، وعام 2000 مع الانسحاب الإسرائيلي، ثم عام 2005 عقب اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وخروج الجيش السوري، وصولا إلى "ليلة تشرين 2019".

إلى جانب هذا الشعور– الرغبة في إعلان انتهاء الحرب– في كل مرة يحدث اضطراب أمني أو خلاف سياسي عنيف تخرج مباشرة مخاوف العودة إلى الحرب الأهلية. إن هذا الشعور المتكرر، على امتداد أكثر من ثلاثين عاما، لا يعكس رغبة اللبنانيين الصادقة في تجاوز الحرب فحسب، بل يخفي وراءه في العمق قلقا دفينا من أن الحرب لم تنته فعلا، وأنها قابلة للانفجار مجددا في أي لحظة.

فالحرب التي أعلنت نهايتها رسميا عام 1990 مع إزالة الحواجز وتوحيد المؤسسات الدستورية، لم تتحول إلى مصالحة وطنية شاملة أو فعلية. لقد أضاع اللبنانيون فرصا تاريخية متتالية: خمسة عشر عاما من حرب أهلية مدمرة، وخمسة عشر عاما أخرى تحت الهيمنة السورية المباشرة، وخمسة عشر عاما بعد ذلك من التخبط والاضطراب السياسي، وصولا إلى الانهيار الكبير عام 2019.

علينا أن نعترف بأننا كمجتمع لا نملك أسطورة مؤسسة صلبة. وربما أحد أشكال التعبير عن ذلك أننا لا نحتفل بذكرى قيام لبنان الكبير كلحظة مؤسسة، وكذلك يمارس الكثيرون منا فعل السخرية من عيد الاستقلال

في الواقع، يبدو تاريخ لبنان السياسي والاجتماعي وكأنه سلسلة أزمات متتالية تدور في حلقات مفرغة كل خمسة عشر عاما تقريبا، بدءا من الاستقلال وحتى اليوم. هكذا يبدو أننا نعيش في حالة حرب "غير معلنة"، فبين عامي 1990 و2025 خاض لبنان حروبا خارجية وداخلية عديدة، من المواجهات المتكررة مع إسرائيل، مرورا بالصراعات الداخلية وجولات العنف، وصولا إلى تداعيات الأزمة السورية والمشاركة فيها، فضلا عن الاغتيالات السياسية والحروب المحدودة هنا وهناك، والتي يتداخل فيها السياسي بالطائفي والجنائي.

المئوية الثانية: كيان نهائي بلا دولة

غادر لبنان مئويته الأولى وقد حُسمت مسألة نهائية الكيان ليدخل في مئويته الثانية وهو وطن بلا دولة على وقع حلقة مفرغة من الأزمات. عند ولادة دولة "لبنان الكبير" في الأول من سبتمبر/أيلول 1920، عاش اللبنانيون حالة انقسام سياسي وفكري، ومن حول الدولة الوليدة وموقفها منها. ورغم كل الصعوبات التي عرفتها البلاد طوال القرن الماضي من حروب وأزمات ونقاشات وتناقضات، إلا أن اللبنانيين واللبنانيات قد دخلوا في المئوية الثانية، ولم تعد مسألة نهائية الكيان إشكالية كما كان الحال سابقا.

رويترز
مشهد لعودة الأهالي إلى الضاحية الجنوبية لبيروت بعد قرار وقف إطلاق النار، لبنان 27 نوفمبر 2024

صحيح أن اللبنانيين واللبنانيات قد اختلفوا سابقا ولا زالوا على ظروف نشأة البلد، لكنهم اليوم، وعلى الرغم من كل تناقضاتهم السياسية، مجمعون اليوم، وبغض النظر عن الأسباب، على نهائيته وعدم الرغبة في الذوبان في كيان آخر. فالتناقضات التي رافقت نشأة لبنان حول عروبة الدولة ونهائية الكيان لم يحسمها فقط اتفاق الطائف، بل باتت اليوم واقعا صلبا يجمع عليه جميع اللبنانيين واللبنانيات. فإذا كان لبنان يوم تأسيسه قبل أكثر من مئة عام موضوعا إشكاليا لدى بعض اللبنانيين واللبنانيات، يبقى أن لبنان بات ضرورة تاريخية بالنسبة لأبنائه وبناته، حتى في أكثر اللحظات السياسية صعوبة وانقساما.

في المقابل، علينا أن نعترف بأننا كمجتمع لا نملك أسطورة مؤسسة صلبة. وربما أحد أشكال التعبير عن ذلك أننا لا نحتفل بذكرى قيام لبنان الكبير كلحظة مؤسسة، وكذلك يمارس الكثيرون منا فعل السخرية من عيد الاستقلال.

الحرب الأهلية اللبنانية، كما هي حال معظم الحروب الأهلية، لا تعلن رسميا، بل تنزلق إليها المجتمعات دون أن تدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان

المشكلة لم تكن في الأساطير المؤسسة، بل في غيابها أو ضعفها أو تفاهتها. لم ينجح الاجتماع اللبناني في إفراز هوية وطنية جامعة تتحلق حول "لحظة قصر الصنوبر" أو حول ملحمة قلعة راشيا، ففي راشيا، لم تكتمل العناصر التراجيدية والدرامية، ربما لأن أحدا من أسرى قلعة راشيا لم يفد الوطن بدمائه، لا طاقية ابن الخوري (رئيس الجمهورية بشارة الخوري) هوت ولا سقط طربوش ابن الصلح (رئيس الوزراء رياض الصلح). فالاندماج النهائي للهويات في وعاء وطني جامع يحتاج إلى بناء وهم تاريخي أعمق بكثير من إعلان قصر الصنوبر في عام 1920، والذي بالمناسبة لا نعرف ما الذي جرى فيه تحديدا، وأكثر من اعتقال دام لأحد عشر يوما لم تتخلله ضربة كف واحدة.

لعنة الـ15 سنة

لبنان يعيش في حلقات من الأزمات المتكررة كل خمسة عشر عاما تقريبا. من استقلال لبنان في عام 1943 إلى ثورة 1958 ضد الرئيس كميل شمعون (15 عاما)، ومن انتهاء حكم فؤاد شهاب إلى انفجار الحرب الأهلية (17 عاما)، ومن بداية الحرب إلى اتفاق الطائف (15 عاما)، ومن اتفاق الطائف إلى اغتيال الرئيس رفيق الحريري (15 عاما)، ومن انقسام 8 و14 آذار إلى ثورة تشرين 2019 (14 عاما). وكأن لبنان دولة قدر لها أن تعيش في دوامات أبدية من النزاع والصراعات غير المكتملة.

الحرب الأهلية اللبنانية، كما هي حال معظم الحروب الأهلية، لا تعلن رسميا، بل تنزلق إليها المجتمعات دون أن تدرك ذلك إلا بعد فوات الأوان. من حادثة "بوسطة عين الرمانة" وحتى منتصف عام 1976، كان اللبنانيون يتحدثون عن "جولات قتال"، ولم يدرك أحد أنه ومع الطلقة الأولى كان الانزلاق نحو الحرب الشاملة. السؤال الذي يفرض نفسه هنا: ألم يكن لدى أي طرف سياسي أو اجتماعي في لبنان عام 1975 القدرة على إدراك مخاطر الانزلاق إلى العنف؟ هل غاب فعلا خيار الحلول السلمية للصراعات السياسية آنذاك؟

بعد خمسين عاما على اندلاع الحرب، وخمسة وثلاثين عاما على الإعلان الرسمي لنهايتها، يبدو واضحا أن انتهاء الحرب لم يفتح الباب أمام تبديد مخاطرها وتفتيت أسبابها ونتائجها

يرى كثيرون أن الحرب لم تنته في التسعينات، بل استمرت بأشكال مختلفة، غير أن هذا التمييز يتجاهل الفرق الجوهري بين النزاعات المادية- التي تقتصر على الانقسامات السياسية والاغتيالات والتفجيرات وجولات القتال المتناثرة- وبين الحالة التي نمر بها من انهيار شامل يشبه الحرب الأهلية. صحيح أن الحرب بالمعنى العسكري انتهت في عام 1990. لم تعد هناك خطوط تماس ولا قتال يومي على الهوية، ولا ملاجئ ولا قناصة. لكن مع ذلك، بقي البلد مسكونا بشبح الحرب. ظلت الاغتيالات والتفجيرات المتفرقة حاضرة، وظل منطق السلاح، كما ثقافة الرصاص، أقوى من أي فكرة أو موقف. وبقيت البلاد رهينة لتوازنات هشة، عالقة بين الحرب والسلم، بين الطائفية والمدنية، وبين سلطة الطوائف وسلطة الدولة. فما نعيشه اليوم ليس نزاعا عابرا، بل هو حالة تمتد فيها خطوط تماس الدماء وفقدان الهوية، وتخمد أصوات التعبير بصرامة الرصاص الذي يعلو صوته فوق كل الأصوات الأخرى.

شبح الحرب وتغييب السياسية

الكل يلوح بالحرب ويخشاها في آن معا، حيث تصل الصراعات إلى ذروتها ثم تتراجع لتفضي إلى توافقات سياسية هشة، إذ يطرح "الاختيار بين البيطار والاستقرار" (في إشارة إلى إعاقة عمل قاضي التحقيق في انفجار مرفأ بيروت طارق البيطار بذريعة الحفاظ على السلم الأهلي)، وبين استقلالية القضاء والحرب الأهلية، وبين سلاح فائض القوة وسلاح الدفاع عن المناطق. في عام 1975، سار الجميع نحو الحرب برضا وإصرار، ربما دون أن يدركوا أنها ستستمر لأربع عشرة سنة، وفي عام 2025، تبدو الأمور كما لو كانت مزيجا من سمك ولبن، فلم نعد قادرين على الاختيار بين الأبيض والأسود.

أ.ف.ب
جنديان لبنانيان أمام ملصق عن الحرب الأهلية في لبنان بين عامي 1975 و1990، في الذكرى الثالثة والثلاثين لاندلاعها، بيروت في 13 أبريل 2008

أحد أبرز التناقضات المعاصرة هو التباين بين ما يدعى "الاستقرار" وواقع التهديد الدائم بتكرار الصراعات. فالخيار السياسي اليوم يبدو كأنه يقتصر على مواجهة ثنائية معقدة: إما الاعتراف بالماضي ومحاسبة المسؤولين عن الآثار المترتبة عليه، وإما الاستسلام لقوة السلاح التي تهدد بإعادة إشعال فتيل العنف في أي لحظة. فبينما يتردد البعض في التصريح بأن الحرب لم تنته حقا، يبدو أن آخرين لا يزالون يحاولون تبرير فشلهم السياسي والاقتصادي بعبارات مجوفة لا تحمل أي نقد ذاتي جاد.

تتجلى آثار الحرب في حياة اللبنانيين اليومية بطرق قد تبدو للوهلة الأولى غير مرتبطة مباشرة بالسياسة. فالخوف من تجدد العنف يترجم إلى حالة من الركود وعدم القدرة على الاستفادة من الفرص المتاحة. يعيش المواطنون في ظل حالة من الترقب المستمر، فمن جهة، هناك تهديدات متبادلة بين قوى سياسية لا تستطيع تحقيق توافق حقيقي، ومن جهة أخرى، يوجد خوف دائم من أن يتحول الانقسام السياسي الطائفي إلى صراع دامٍ يعيد لبنان إلى حالة الحرب.

إن تمسك اللبنانيين واللبنانيات بشعار "تذكر ما لا تعاد" هو أوضح تعبير عن أزمة علاقتنا مع الحرب: لا نرغب في الحديث عنها كنوعٍ من الإنكار الناجم عن الخوف من عودتها، مثلنا كمثل من يسمي مرض السرطان بأسماءٍ مختلقة، وكأن تجنب الكلمة كفيل بإبعاد شبح الموت. هذه العلاقة الملتبسة هي أكبر تحذير يوميا بأن الحرب لم تنته تفاعلاتها فعليا.

فبعد خمسين عاما على اندلاع الحرب، وخمسة وثلاثين عاما على الإعلان الرسمي لنهايتها، يبدو واضحا أن انتهاء الحرب لم يفتح الباب أمام تبديد مخاطرها وتفتيت أسبابها ونتائجها. فقد أغلق النقاش حول الحرب قبل أن تضيع ثلاث فرصٍ جديةٍ لإنهاء تفاعلاتها: الأولى بعد توقيع اتفاق الطائف، والثانية بعد تحرير الجنوب، والثالثة مع انسحاب جيش النظام السوري. فالبلاد التي حكمها نظام التوافقات الطائفية منذ استقلالها ما زالت تعيش تناقضاتها الأساسية، ولم يحسم بعد النقاش حول العلاقة بين الدولة والمواطن، بين الطائفة والوطن، وبين السيادة والتبعية.

الذكرى الخمسينية للحرب الأهلية اللبنانية تحمل في طياتها تحديا كبيرا لكل اللبنانيين، تحدٍ شديد البساطة وكثير التعقيد في آن واحد: كيف يمكننا ممارسة فعل السياسة وإدارة الاختلافات والانقسامات خارج التهديد بالعنف أو الخوف منه

نحن جيل السبعينات والثمانينات، لقد ورثنا من الحرب ذاكرة طفولتنا بما لها وما عليها، لكنها كانت حربا قذرة ندفع ثمنها حتى اليوم. ولعل من واجبنا، نحن جيل الحرب، أن نتصالح مع أنفسنا ومع ماضينا، وأن نضع حدا لهذه الحلقة المفرغة. لقد أصبحنا آباء وأمهاتٍ، وما زال الخوف من الحرب يسيطر علينا، نعيش القلق من أن يعيش أبناؤنا تجربة مشابهة لتجربتنا، لكننا لا نعرف كيف نحميهم منها.

في عام 1975، استسهل الجميع الذهاب نحو القتال كحل للأزمات، ربما لجهلهم بنتائج ما كانوا يفعلونه. إلا أننا اليوم، بخلاف عام 1975، نمتلك الإدراك الكامل لخطورة أي انزلاقٍ نحو العنف، وندرك جيدا أن أي جولة قتالٍ جديدة قد تكون بداية لحربٍ أهليةٍ جديدة. لكن السؤال الأهم هنا: إلى أي حد يستطيع الجيل الذي ولد بعد نهاية الحرب، أو في مطلع الألفية الجديدة، والذي يبدو بعيدا في وعيه وذاكرته عن أهوالها، أن يحصن نفسه من الوقوع في الأخطاء ذاتها؟ وهل سيكون السياسيون القادمون، مع غياب أو رحيل جيل الحرب الأهلية تدريجيا عن المسرح السياسي، قادرين على تجنب تكرار أخطاء الماضي، أم إنهم سيقعون فيها من جديد دون إدراك؟

إن الذكرى الخمسينية للحرب الأهلية اللبنانية تحمل في طياتها تحديا كبيرا لكل اللبنانيين، تحدٍ شديد البساطة وكثير التعقيد في آن واحد: كيف يمكننا ممارسة فعل السياسة وإدارة الاختلافات والانقسامات خارج التهديد بالعنف أو الخوف منه، خارج منطق الحروب الطويلة أو جولات القتال المتباعدة.

فإذا كان صحيحا أن أحدا لا يرغب في الحرب، فمن المؤكد أيضا أننا فشلنا كمجتمعٍ في إسقاط الخوف من عودتها أو من التهديد بعودتها، الحرب بصفتها احتمال لا زالت قائمة، وهذا الرهاب أو الترهيب هو جزء من صناعة السياسة اليومية في هذا البلد.

font change

مقالات ذات صلة