العدّاءة السورية ديما الأكتع: لا أفكر في الماضي ولو أعادوا إليَّ رِجلي لرفضت

اختارتها "بي بي سي" إحدى أكثر الشخصيات تأثيرا وإلهاما في العالم

Marian Femenias-Moratinos
Marian Femenias-Moratinos
العدّاءة السورية ديما الأكتع

العدّاءة السورية ديما الأكتع: لا أفكر في الماضي ولو أعادوا إليَّ رِجلي لرفضت

لندن: لا تكاد الابتسامة تفارق وجه العدّاءة السورية ديما الأكتع، حتى عندما تتحدّث عن أصعب اللحظات في حياتها، تلك التي فقدت فيها ساقها اليسرى، في قذيفة أصابت بيتها مباشرة في قرية سلقين بإدلب، عام 2012. ديما التي اختارتها هيئة الإذاعة البريطانية ضمن أكثر 100 شخصية عالمية تأثيرا وإلهاما في 2022، استحقت هذا التكريم عبر قصة كفاح جسدت من خلالها ما يستطيع الإنسان تحقيقه عندما يتمسك بالأمل ويتسلح بالإرادة.

عشر سنين مرّت على مأساة ديما، التي تكاد توازي عمر الحرب السورية. مثل مئات الآلاف من السوريين الذين اضطروا إلى طرق أبواب الهجرة واللجوء برا وبحرا وجوا، هربا من جحيم الحرب، خاضت ديما رحلة اللجوء، بداية إلى لبنان المجاور، وبعد نحو ست سنوات إلى بريطانيا، حاملة معها جروح الحرب وندوبها، وأيضا التجسيد الأشدّ إيلاما لتلك الندوب، المتمثل في فقدان إحدى رِجليها.

"كنت مثل أي صبية تشق طريقها في الحياة، وتتطلع إلى المستقبل"، تقول ديما عن حياتها قبل تلك الحادثة، إلا أن الإلهام الحقيقي جاء بالنسبة إليها بعد وقوع المأساة: "كان لديّ مصادر إلهام قبل الحادثة، لكنّ الإلهام الحقيقي جاء بعد الحادثة، بعد معرفتي مدى القوة التي يمنحك إياها الألم".

لا تحاول ديما من كلامها هذا مدح المعاناة، بقدر ما تسعى إلى تفسير العوامل الداخلية التي تدفع المرء إلى الصمود ومواصلة الحياة: "تجد نفسك في موقف لا تملك فيه خيارا، ولا تعرف كيف تتصرف، فبعد الحادثة كان مستحيلا استعادة رجلي، ولا العودة بالزمن إلى الوراء، إلى ما قبل دخولي الغرفة وتعرضي للإصابة. كانت تلك هبة من الله الذي حرمني شيئا لكنه منحني في المقابل شيئا أجمل. لولا تلك الحادثة لما كنت الشخص الذي أحلم به اليوم".

الإلهام الحقيقي جاء بعد معرفتي مدى القوة التي يمنحك إياها الألم

الرحلة

ماذا عن الرحلة التي قطعتها ديما للوصول إلى هذا الاقتناع، وما التحديات التي واجهتها؟

"هي رحلة بكل تأكيد"، تقول ديما "ونحن نتعلم من المواقف التي نمر بها، وكل شخص دوره مختلف. أنا دوري حين أصبت وأدركت أنني فقدت رجلي. كان أهلي جميعا في البيت، ولم يصب أحد منهم. عرفت حين أصبت أنني فقدت رجلي، ربما كان هذا قدري، ربما كتب لي الله حياة ثانية، أدركت أنني خسرت شيئا ما لكنني لم أعرف ما هو في تلك اللحظة، لكنني في اللحظة التي حملت فيها بقايا رجلي بيدي من شدة الوجع، أدركت أن القوة التي وهبني إياها الله أنني لم أستطع التعبير، لم أستطع البكاء، ولا حتى الصراخ حين عرفت وتأكدت أن أهلي بخير، يعني أمي كانت في الغرفة نفسها التي تعرضت للقصف، ومرت القذيفة فوق رأسها، ولم تصب بأي خدش، أشعر أن هذا في حدّ ذاته إلهام، أن تتمكن من استيعاب فكرة أن الشخص الأغلى على قلبك، وكان معك في الغرفة نفسها، لم يصب، ففي تلك اللحظة لم أستطع التعبير، لم أستطع الصراخ ولا البكاء، لم أستطع الاستيعاب في تلك اللحظة، ربما بسبب الصدمة، وركزت فورا على الأمور المهمة، وهذا ما ساعدني على تخطي هذه المسألة".  

تعتبر ديما أن رحلتها الفعلية بدأت من المستشفى، "من لحظة استيعابي أنني فقدت رجلي وأنني سأصبح شخصا يمشي على عكازات مدى حياتي، لا أنكر أنها كانت رحلة صعبة وأنه تخللتها في بعض الأحيان دموع، لحظات قلت لنفسي خلالها إنني لم أعد أحتمل، ففي النهاية نحن بشر، أحيانا نشعر بالضعف، وأحيانا نشعر أننا الأقوى في العالم. لكن الصبر هو المفتاح".

الدعم النفسي

تؤمن ديما بأهمية الشفاء النفسي قبل الجسدي، انطلاقا من أن "ما نزرعه في عقولنا هو الأهم"، ومن أن الكثير من الإصابات والجروح قد لا تظهر على المرء أو على جسده، إلا أنها تؤدي إلى النتيجة نفسها: "أفتخر بأنني تعالجت نفسيا وبقيت عاما ونصف العام في مرحلة العلاج النفسي. حين وصلت إلى بريطانيا، وجدت نفسي في بلد وثقافة جديدين، ولم يكن لديَّ خيار سوى أن أبدأ البحث عن مستقبلي. في لبنان حاولت الدراسة والعمل ولم يستقبلني أحد بسبب وضعي وبسبب أنني سورية، لا أحب التحدث في هذه الأمور لكن في الوقت نفسه علمتني هذه الأمور ألا أحكم على أحد وعلى قدراته من الظاهر. بل يجب أن ننظر إلى الأمور من منظور الشخص نفسه، لأنه هو الوحيد الذي يعرف ما الذي مر به وما الذي ضحى به".

تتحدث ديما عن تجربة اللجوء وتحدياتها، وتعتبر أن أصعب ما في هذه التجربة هو أنك تنتقل من عالم إلى عالم آخر، ومن نمط حياة إلى نمط مختلف، وفي حالتها بالتحديد، يضاف إلى قسوة التجربة، الشعور بالرفض بسبب وضعها الجسدي والشعور الطاغي الذي حاول الآخرون فرضه بأن حياتها انتهت: "كنت في الثامنة عشرة حين أصبت، وكانت لديَّ خطط لمستقبلي، وصار شيء آخر. تحتاج في ذلك الوقت إلى من يقول لك إنك ما زلت الشخص نفسه، وهذا ما فقدته خلال فترة اللجوء في لبنان". قرار ديما مواجهة هذا الرفض "أنني بقيت كما أنا ولم أظهر الضعف لأحد وأصررت على فعل كل شيء بنفسي، كان حملا ثقيلا لكنني لا أنكر أن هذا ما جعلني أستمر حتى الآن".

علمتني تجربتي أن أقل الأشياء قيمة في عيون الآخرين، هي أكبر الأشياء بالنسبة إليّ، فالمسألة أن تتعلم تقدير الأشياء في حياتك

المستقبل

أحد أهداف ديما الحالية هو مساعدة الأطفال الذين تعرضوا لتجربة تشبه تجربتها: "الأطفال هم مفتاح الحياة، هم المستقبل، ما صار في بلدنا لم يكن سهلا علينا فكيف يكون سهلا على الأطفال. هذه النقطة الأهم في تجربتي، لا أحب أن يشعر الأطفال بالعجز لأنني أعرف كم هذا موجع والأطفال لا يجيدون التعبير. أتمنى أن أتمكن من المساهمة أكثر مما أفعل حاليا في تركيب الأطراف للأطفال الذين فقدوها. أتمنى أن أكون أملا صغيرا أو إلهاما صغيرا لهم".


كيف تنظر ديما اليوم إلى حياتها السابقة، هل تشعر بالحسرة على ما فقدته؟ وما رسالتها إلى الشباب الذين تمنعهم قسوة الحياة من مواصلة مسيرتهم؟

تجيب ديما بلا تردد: "لا أفكر في الماضي لو أعادوا إليّ حياتي وقالوا لي هذه رجلك، فلن أقبل بالتأكيد، لأسباب كثيرة، أهمها أنني اكتشفت ذاتي وقوتي وصبري، وأن الله حين يأخذ منك شيئا هو الوحيد الذي سيريك المستقبل، بمعنى أن المستقبل المخبأ لي أجمل مما كنت أخططه لنفسي. خسارة رجلي هي سبب قوتي، هي الإصرار والإلهام اللذان أتمتع بهما. مرحلة ما قبل فقدان رجلي ذكرى جميلة، لكن حتى لو أعادوها فسيكون جوابي هو الرفض.

لذلك أقول للشباب خذوا درسا من هذه التجربة. قد تتأخر النتيجة لكنها ستأتي أيا تكن الظروف والعقبات وصعوبة الطريق، صدّق أنك ستصل إن كنت مؤمنا بنفسك، وأن لكل مشكلة حلا، وإن لم تجد حلا فاترك المشكلة وواصل طريقك. الخسارة ليست خسارة. وقد علمتني تجربتي أن أقل الأشياء قيمة في عيون الآخرين، هي أكبر الأشياء بالنسبة إلي، فالمسألة أن تتعلم تقدير الأشياء في حياتك".

font change

مقالات ذات صلة