أوكرانيا كلمة السرّ في أوسكار أفضل فيلم أجنبي

حروب أوروبا التي لا تندثر منذ قرن وأكثر

Getty Images
Getty Images
فيلم "كله هادئ على الجبهة الغربية"، من إخراج لويس مايلستون، عرض مسرحي لماكسويل أندرسون وجورج أبوت استنادا إلى رواية إريك ماريا ريمارك، من إنتاج كارل ليمل جونيور، يونيفرسال بيكتشرز، الولايات المتحدة الأميركية 1930.

أوكرانيا كلمة السرّ في أوسكار أفضل فيلم أجنبي

كان من المتوقع أن يخرج فيلم "كله هادئ على الجبهة الغربية" بأوسكار أو بآخر. الرياح الساخنة للحرب في أوكرانيا منحته هذا التوقع والغالب أنها ساعدت في منحه أربع جوائز أوسكار: أفضل فيلم أجنبي، أفضل موسيقى تصويرية، أفضل تصوير، وأفضل تصميم إنتاج.

صحيح أن أحداث الفيلم تدور حول الحرب العالمية الأولى، لكن ويلات تلك الحرب تفعل فعلها للتذكير بحروب اليوم على الرغم من اختلاف نوعية السلاح وتعدد تكنولوجياته ونظمه. يستفيد هذا الفيلم الألماني أولا من أنه ألماني (وليس أميركيا كما كانت حال نسخة 1930 التي فازت حينها بأوسكار أفضل فيلم)، ومن حقيقة أن المخرج يستعرض الموت والعنف بأحدث وسائل الحرب والمؤثرات الخاصّة وفنونها.

استعراض الموت

تختلف بدايةُ فيلم إدوارد برغر عن بداية النسخة التي أخرجها لويس مايلستون سنة 1930 ونال عنها أوسكارا في العام نفسه. كلتاهما تختلف عن بداية الرواية التي وضعها الألماني إريك ماريا ريمارك في روايته المنشورة سنة 1928. يبدأ الكتاب بفصل عن سعادة المجنّدين الشبّان (الرواية مكتوبة بلسان الراوي) بيوم ممتع قُدِّم فيه الطعام بوفرة. آلام الحرب وفواجعها تأتي لاحقا بعد الفصل الثالث تحديدا. وتأتي بالتدرّج المناسب لرواية وصفية الأسلوب كما رواية ريمارك.

نسخة مايلستون تبدأ بباب يُفتَح على الشارع حيث يمر طابور كبير من المجنّدين المتجهين إلى الجبهة ثم تنحسب الكاميرا (بتصميم جيد) إلى غرفة محاضر يخبر طلابه بضرورة الدفاع عن ألمانيا- الأم مؤكدا أن هذا الواجب سيحمي البلاد من أعدائها وأن الجيل الجديد خير من يقوم بذلك.

نسخة 2022 الحديثة (الثالثة بعد فيلم مايلستون ونسخة تلفزيونية غير ذات أهمية حققها دلبرت مان سنة 1979) تبدأ بوطيس الحرب نفسها ثم ترجع إلى حيث بدأ الفيلم الأول باستعراض المتطوّعين ثم خطبة البروفسور الداعية إلى الجهاد ذودا عن ألمانيا.

يمنحنا إدوارد برغر دلالة على ما سيقوم باستحداثه خلال الفيلم، إذ يقفز إلى وطيس المعارك منذ البداية، قبل أن يعود إلى الوراء ثم ينتقل مجددا إلى الجبهة. لن يبقى في الجبهة مع المحاربين، بل سيتركهم أكثر من مرّة ليحيط بما وراء الحرب والمفاوضات والمواقف السياسية والعسكرية المتباينة بين الألمان والفرنسيين. أمر لم يختره الكتاب ولا فيلم مايلستون. يأخذ برغر الحكاية الأصلية ويضيف عليها مشاهد غير واردة فيها. مثلا تخلو الرواية الأصلية من العديد من الشخصيات التي ابتدعها المخرج لغاية جلب المزيد من التعاطف مع الجنود الألمان والقول إنهم كانوا ضحايا السياسة الألمانية. أمر فعله مايلستون من دون مثل هذه الإضافات. كذلك يُغيّب شخصية الفيلم الأولى بول بومر (فليسك كامرر) لفترات ينتقل خلالها إلى مشاهد بعيدة عن الجبهة. بذلك يبدو بول كأنه فوق أرجوحة. هو أمام الكاميرا حين يشاء المخرج وبعيدا عنها عندما يرغب المخرج في توسيع رقعة الأحداث.

الفيلم، موجزا، هو عن تجربة الشبّان الألمان الذين وعدتهم المؤسسة الوطنية بأن معظمهم سيعود من الحرب ويكافأ على ما قام به. وهذا ما لم يحدث إذ اكتشف هؤلاء آلام الحرب وفواجعها والخوف من الموت المُجسّد في كل رصاصة أو قذيفة تُطلق عليهم. المشاهد التي يختارها برغر مؤلمة، لكنها أيضا، وفي الباب الأول، استعراضية. بالتالي تعاني من انخفاض نسبة الحس الصادق بالمأساة، محوِّلةً الموت إلى مشاهد عنيفة لأجساد طائرة بفعل القصف، ولجنود يفقدون أطرافهم أو حياتهم ويتحوّلون إلى أشلاء تُجمع في أكياس بعد أن تُخلع بزاتهم عنهم لكي تُرسل إلى حيث سيعاد تخييطها لاستخدامها مرّة أخرى.

Getty Images
الممثل الأميركي شون بن يقدم إحدى جوائز الأوسكار الخاصة به للرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في كييف، أوكرانيا في 8 نوفمبر 2022.

تاريخ يدلف إلى تاريخ

النسخة الجديدة أكبر حجما (بموازنة 36 مليون دولار) وتستفيد من التقدم الصناعي الكبير الذي تحقق خلال 92 سنة على الإنتاج السينمائي الأول (الذي تعرضت بعض مشاهده للحذف عندما عُرض صامتا في فرنسا خصوصا تلك المشاهد التي تصوّر سقوط ضحايا فرنسيين). كما تحشد النسخة الجديدة القدرات الإنتاجية المختلفة التي تُستخدم بحذق وتوليف جيدين. كذلك يترك المخرج للكاميرا أجواء الحرب والعنف أحيانا، لمشاهد من الطبيعة الجميلة لمن قد يرنو إليها في وسط المعمعة. جماليات موقوتة تُفيد فعل التنفّس بعيدا من صرامة الموضوع ولو لبعض الوقت.

ليس من شك في أن الفيلم يؤدي الرسالة المعادية للحرب (كلّ حرب)، لكن الطريق المختار لإيصال الرسالة هو البرهنة على أن هذا الفيلم هو أفضل ما يمكن تحقيقه من أفلام حربية. المخرج برغر يسعى إلى تأكيد ذلك ويكاد أن ينجح لولا أن هذا الرغبة تستحوذ على مشاعر كان عليها أن تقود بحس صادق ورغبة في إيصال الرسالة قبل التباهي بها.

يشعر المُشاهد بأن الفيلم المذكور يشبه مرآة مبكرة للحرب الأوكرانية الدائرة، بحيث يصبح من السهل النظر إلى واقع الحرب في أوكرانيا كمهد متّسع حاليا لسينما الحرب من داخل الصراع في الأزمنة الراهنة وليس من خارجها. وهو كذلك مرآة لحروب عديدة خاضتها أوروبا قبل عهد نابوليون وما بعد. حروب أوروبا الفادحة تشبه لعبة شطرنج بين أفرقاء لا يجيدون الا الهزيمة. يحتلون بلادا ويخسرونها بعد حين. يغزون هنا وينسحبون هناك ويتداولون دورات ومعارك على مختلف الجبهات، العسكرية منها والمدنية. لذلك، تبدو الحروب الحالية استمرارا مؤكدا لما طرحه فيلم "كله هادئ على الجبهة الغربية"، بل- في نظرة لا تخلو من السخرية- مذ خسر نابوليون حربه ضد الإنجليز في موقعة واترلو الشهيرة سنة 1815.

صحيح أن أحداث الفيلم تدور حول الحرب العالمية الأولى، لكن ويلات تلك الحرب تفعل فعلها للتذكير بحروب اليوم على الرغم من اختلاف نوعية السلاح وتعدد تكنولوجياته ونظمه

سجل كبير

في الغرب أفرزت الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الأولى (1914-1918) العديد من الأفلام الهوليوودية في السنوات التي تلتها. "كله هادئ على الجبهة الغربية" للويس مايلستون ليس سوى واحد منها. "أجنحة"(Wings)  لوليم أ. ولمان الذي كان أول فيلم يفوز بالأوسكار (سنة 1928) هو مثل آخر. كذلك "الاستعراض الكبير"(The Big Parade)  لكينغ فيدور سنة 1925 وأكثر من 40 فيلما آخر في السنوات الخمس الأخيرة من العشرينات.

سنة 1930 (تلك التي أنجبت "كله هادئ..." حفلت بـ 12 فيلما عن تلك الحرب معظمها أميركي. ألمانيا نفسها قدّمت واحدا من هذه الأفلام تحت عنوان "الجبهة الغربية 1918" حققه جورج ولهلم بابست بالجرعة الانتقادية نفسها التي سددها مايلستون في فيلمه وإن لم يحقق الفيلم الألماني المكانة نفسها.

تلك الحرب بقيت حاضرة إلى اليوم، كما تشهد نسخة إدوارد برغر الجديدة، والفيلم البريطاني "1917" لسام مندس قبل أربع سنوات. في الواقع فيلم مندس الذي دار حول مهمّة جنديين بريطانيين عليهما اقتحام الجبهة الألمانية للوصول إلى فرقة بريطانية بعيدة، هو واحد من 42 فيلماً حول الحرب العالمية الأولى أنتجت ما بين 2000 و2022 وهي ليست أميركية بل تضم إنتاجات من بريطانيا وفرنسا ولاتفيا وإيطاليا وروسيا والنمسا وغيرها.

الحال هي نفسها بالنسبة إلى ما أفرزته الحرب العالمية الثانية من أفلام (لا يقل عددها عن 500 فيلم) ثم الحروب الأخرى (الكورية واليابانية والفييتنامية والعراقية) ما يؤدي بنا إلى الحرب الأوكرانية المشتعلة بين دولتين، واحدة تعتبر الأخرى خطرا محدقا عليها.

Dream Works Pictures
دين تشارلز تشابمان، والمخرج سام مينديز وجورج ماكاي من الفيلم البريطاني عن الحرب العالمية الثانية، 1917.

فيلمان في فيلم

كان مثيرا للاهتمام قيام مهرجان برلين السينمائي الدولي بعرض فيلم حققه الأميركي شون بن مع آرون كوفمن حول الأزمة الأوكرانية، عنوانه "قوة عظمى" Superpower. لم يكن خافيا منذ البداية موقف الممثل والمخرج الأميركي بن من الحرب الدائرة وتعاضده غير المشروط إلى درجة أنه أهدى إلى الرئيس فولوديمير زيلنسكي إحدى جائزتي الأوسكار اللتين حظي بهما.

لكن الفيلم غير متساوي الأضلاع. في مجموعه هو فيلمان مختلفان اهتماما وسردا وإيقاعا ورسالة. نصفان يلتقيان على شريط تسجيلي واحد من دون محاولة إذابة اختلافات فنية جوهرية لتوحيد السياق. في النصف الأول من الفيلم،  الذي باشر المخرجان بن وكوفمان تحقيقه قبل أقل من عام على غزو روسيا للأقاليم المتنازع عليها، مقابلات عن زيلنسكي وحياته وتاريخه مع عدد كبير من الناس لنقل آرائهم المتفاوتة حوله. ليست كلها في صالح الرئييس لكنها تؤدي إلى صياغة صورة معلوماتية وفيرة.

النصف الثاني يبدأ مع بداية الحرب. كان المخرجان، حسبما يقول الفيلم، قد اكتفيا بما صوّراه وعلى أهبة العودة إلى هوليوود عندما بدأ الغزو، فقررا البقاء وهدفا إلى تعزيز ما تم تصويره بمقابلات موسّعة مع الرئيس زيلنسكي نفسه. هذا فرض على الفيلم شكلا مختلفا عن الفيلم السابق، مبنيا على مقابلات طويلة ومشاهد تجمع بين بن وزيلنسكي بمنأى عن النصف الأول وعلى نحو أقل إثارة للاهتمام.

الحاصل هنا، أن الحديث يتناول مسائل مفروغا منها. لا شون بن (وهو في الصورة معظم الوقت) يملك عمق الأسئلة ولا الرئيس يستطيع أن يقول أكثر بكثير مما صرّح به مرارا. بذلك، يتحوّل الفيلم إلى ما هو أقرب إلى بروباغندا منه إلى فيلم مستقل عن الحرب نفسها. كلمتا "الحرية" و"الديموقراطية" تتكرران في هذا الحديث، لكن لا شيء يُذكر كيف عومل مواطنو غدانسك والمناطق الأخرى التي استردتها روسيا بالقوّة.

مع هذا المنظور المتوقف عند حد التناقض بين ما يعلنه مواطنون وما يتحمّس بن وكوفمان له، لا بد من العودة إلى أفلام أوكرانية سابقة تكفّلت الحديث عن الموضوع الأوكراني على نحو أفضل وبروية من يريد نقل صورة إنسانية شاملة.

يشعر المُشاهد بأن الفيلم المذكور يشبه مرآة مبكرة للحرب الأوكرانية الدائرة، يصبح من السهل النظر إلى واقع الحرب في أوكرانيا كمهد متّسع حاليا لسينما الحرب من داخل الصراع في الأزمنة الراهنة وليس من خارجها

جائزة

لا بد من القول إن المسألة الأوكرانية ذات تاريخ بعيد. هذا البلد تعرّضت حدوده خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها للانحسار تارة، ولاستعادة الأراضي طورا، وعلى نحو متوالٍ. في "الطائر الأبيض المتشح بسواد"(The White Bird Marked with Black) ليوري إلينكو (1971) عائلة أوكرانية فقيرة تعيش في منطقة حدودية كانت من أعمال رومانيا لفترة من التاريخ، ثم ضمّتها بولندا إليها بعد ذلك ثم انتقلت  الى جمهورية أوكرانيا. حين نشبت الحرب العالمية الثانية توزّع أفراد هذه العائلة الكبيرة بين من قرر الوقوف على الحياد ومن انضم إلى المقاومة الأوكرانية ومن انضم إلى الجيش السوفياتي. في مجمله هو عن السعي إلى البقاء حيّا. المخرج إليانكو، وهو مدير تصوير أوكراني أساسا، منح الفيلم معالجة شعرية وضمّنه مواقف تعكس تراجيديا الحياة لكنها تنتهي بأمل وتفاؤل كما كان التفضيل السائد في السينما السوفياتية آنذاك.

طبعا لا يمكن لسينما تلك الفترة إلا أن تلمع صورة الإتحاد السوفياتي قدر ما تستطيع، وهذا ما فعله الفيلم الذي كوفئ بنيله الجائزة الأولى في مهرجان موسكو السينمائي سنة 1971.

London Film Festival
المأساة الأوكرانية على وجه إمرأة في "كوندايك"

بعد زوال النظام الشيوعي في روسيا، ساد الاتجاه التحرري في سينمات أوروبا الشرقية التي كانت تنتمي إلى المنظومة الشيوعية (بعضها، مثل بولندا وتشيكوسلوڤاكيا، كانت بدأت تتململ). إحدى تلك الدول أوكرانيا بدأت بتقديم أفلام أكثر عن الحرب الأولى بين الروس والأوكرانيين التي وقعت سنة 2014 كمؤشر سياسي واجتماعي إلى وجهة النظر الأوكرانية.

ليست أفلاما كثيرة، لكنها دالة، أحد أهمّها "كوندايك"Kondike  لمارينا إر غورباش (2022)  يلتقط فوضى الحياة في قرية تقع في منطقة دونباس قريبا من المكان الذي انفجرت فيه طائرة ماليزية مدنية خلال حرب الانفصاليين والوطنيين.

 

أزمة عائلية

يلتقط "كوندايك" الجو العام للمكان المنعزل الذي تفاجئه تلك الحرب. في مطلع الفيلم يقع انفجار كبير ناتج من سقوط الطائرة الماليزية وعلى متنها نحو 300 شخص بفعل صاروخ أرضي أطلق عليها. هذا وقع فعلا والمخرجة توظّفه لكنها لا تقترب منه. تصوّر ملامح بعيدة لحريق في الأفق وسيارات إسعاف تتجه إليه. قريبٌ هو ذلك الجدار الذي انهار نتيجة انفجار الطائرة. إنه كما لو كان نقطة اللاعودة بين واقع وآخر.

بطلة الفيلم إركا (أوكسانا شركاشينا) متزوّجة من توليك (سيرغي شادرين)، حبلى على بعد شهرين من الوضع. نصف البيت مهدّم والجدار الواقي مدمّر لكن إركا ترفض مغادرته. يفشل زوجها في إقناعها بمغادرتهما المنزل بحثا عن مأوى آخر. في خلال ذلك يمتثل لمجموعة من الانفصاليين الأوكرانيين الذين يسطون على سيارة العائلة ويطلبون من توليك ذبح بقرته الوحيدة لإطعامهم. إركا ترقب ذلك كله برفض كونها تؤيد الوطنيين المعارضين للانفصال. لاحقا عندما تستجيب وينطلق زوجها بالسيارة الصغيرة المتهالكة (مع زوجين هولنديين جاءا لتفقد ابنتهما التي كانت على متن تلك الطائرة)، يمنع الانفصاليون مرور السيارة. هناك مشهد مهم للزوجة وهي تحاول الهرب في أي اتجاه وزوجها يركض وراءها لتهدئتها.

ترقب إركا كل ما يحدث من بداية الفيلم بيأس شديد، ونرقب الوضع البائس الذي تعيشه. هي محور الفيلم الذي تعمد مخرجته إلى سرده بهدوء وتروٍّ وبلقطات طويلة سارحة. هناك دوما شيء ما يقع في بعد الصورة. دخان بعيد. رجال يقتربون. سيارات تمر. أخرى تتوقف، حركة بأشخاص محدودين الخ... في كل ذلك، تحسن المخرجة فعل التأمل، ويحسن الجميع فعل الأداء وبإحساس عميق.

بينما يستعد العالم لمرحلة جديدة من هذه الحرب الدائرة فإن التساؤل هو عن ضراوتها والمدى الذي تستطيع أن تمضي إليه قبل أن تصطدم بنهاية وخيمة ذات عواقب مفجعة على الجميع

مشاهد تتأمل في حياة

فيلم أوكراني آخر لقي استحسانا كبيرا خلال عروضه التي بدأت قبل الغزو الروسي واستمرت بعده هو "أتلانتيس" (2020) لڤلنتين فاسيانوفيتش.

لافت للاهتمام هنا أن فاسيانوفيتش عندما كتب الفيلم وبدأ تصويره سنة 2019 فكّر مسبقا أن الحرب الروسية- الأوكرانية ستعود، لكنه، على الأرجح، لم يعتقد أنها ستعود سنة 2022 بل توقع لها الاندلاع في العام 2025. يرد في الفيلم أن أوكرانيا هزمت روسيا لكن ما نراه هو أوكرانيا المهزومة، أو -على الأقل- في وضع يتشابه والهزيمة، حتى ولو أنها هي التي خرجت منتصرة.

الفيلم عن جنديين سابقين، سيرغي (أندريتي ريماروك) وإيفان (فاسيل أنطونياك) كرها الحرب التي خاضاها ويتطلعان إلى حياة جديدة لا تلوح لهما ولا يعرفان كيف يجدانها. العمل الذي يقومان به في مصنع للمعادن، يجبرهما على الانصياع لشروط قاسية تتبدّى دلائلها خلال العمل وخارجه وعبر الفقر المستشري. رأس المال يأكل الضعفاء العاملين ولا يبالي. لكن الوضع ليس بأسره ناتجاً من النظام الاقتصادي المعمول به. في حقيقته هو نتاج كوني فشل العالَم في احتوائه. البيئة التي يصوّرها الفيلم بيئة منهارة، وتلك التي في الأجواء ملوّثة. يزيد الوضع بعد قليل إغلاق المصنع أبوابه وتحويل العاملين فيه إلى عاطلين عن العمل.

بعد وفاة إيفان يبقى سيرغي وحيدا، ما يضاعف اقتناعه بأن حياته لا تساوي شيئا يُذكر. في الجانب المضيء بعض الشيء هناك سعي لوضع الأمور في نصابها. حملة  لإحصاء قتلى الحرب والتعرف إلى هوياتهم ودفنهم بكرامة، بعدما كانوا تُركوا في أماكن سقوطهم. سيرغي يجد في الانضمام إلى هذا الفريق مخرجا لأزمته الضارية مع الحياة. وهو دائما ما يبحث عن مخارج من هذا النوع. في مشهد سابق نراه يملأ الوعاء الحديدي العريض للجرار المستخدم لحفر الأرض بالماء بعدما أشعل النار تحته لكي يغطس فيه ويأخذ حماما ساخنا. يبدو المشهد كأنه يقصد أن يكون كاريكاتوريا، لكنه على الرغم من ابتسامة عريضة تعلو وجوه بعضنا الا أنه بعيد تماما عن هذه الغاية.

Garmata Film Productions
من «أتلانتيس» أزمة ما بعد 2014

يدرك فاسيانوفيتش أهمية ترك الصورة تحكي كل ما يمكنها أن تحكيه. المشاهد مأخوذة من لقطات بعيدة غالبا. والكاميرا قليلا ما تتحرك. الناتج مشاهد متأملة عن بعد تعزز الصورة العامة للوضع الذي يريد المخرج تقديمه لنا. يلاحق الروتين لكن لا شيء في هذا الروتين مضجر لأننا نرى حالات فرد مثيرة للاهتمام، وفوقها حالة وطن لا تقل إثارة. في مضمونه يتناول المحنة التي ترافق الرجال بعدما فقدوا أغراضهم في الحياة ومسرّاتهم. النساء هنا (ولو بنماذج قليلة) أكثر إدراكا لما يردن فعله. الرجال هم الضائعون.

 

ثلاثة أفلام برسائل

سنجد المزيد من هذه الحكايات القريبة حول النزاع الروسي- الأوكراني مثل "ذات مرّة في أوكرانيا: الحرب" لإيغور بارفينوف و"اختيار"  لإيلينا ڤولوشين. لكن عدد الأفلام الروائية التي تدور حول تلك الحقبة أو حتى التي قد يجد المخرجون الأوكرانيون الدعم والقدرة على إنتاجها عن الحرب الحالية يتقزّم حيال العدد الوفير من الأفلام التسجيلية التي أنتجت في السنوات الأخيرة.

تحتوي هذه الأفلام على "المحاكمة: الدولة الروسية ضد أوليغ سنتزوف" عن السياسي الأوكراني المحتجز منذ أعوام لمعارضته الحرب وعن الجيش الأوكراني واستعداده للدفاع عن الوطن ومثيله "بلا إمارات واضحة"(No Obvious Signs) لإلينا غورلوفا.

خلال الحرب الحالية اندفع عدد من المخرجين الأوكرانيين لتصوير الوقائع في أفلام غالبها- ولأسباب مفهومة- تسجيلي. ككل حرب أخرى، يحاول سينمائيون محترفون أو جدد اغتنام الفرصة لتصوير الوضع على الأرض: الناس، الدمار، الآلام، ومن خلالها الأبعاد بحسب موقف وطني لا ريب فيه. وكان مهرجان البندقية في العام الماضي احتفل بالسينما الأوكرانية في رسالة موجهة ضد الغزو الروسي بثلاثة عروض سينمائية لثلاثة أفلام هي "الحرية على نار: قتال أوكرانيا للحرية" لإفيني أفينيفسكي و"محاكمة كييف" لسيرغي لوزنتزا و"لوكسمبورغ، لوكسمبورغ" لأنطونيو لوكيتش.

"حرية على نار" فيلم لإيفيني ألينفسكي وهو الثالث التسجيلي له عن الموضوع الأوكراني الذي يعود، في تاريخه القريب، إلى سنة 2014 ابان الحرب الأهلية التي شهدت حربا بين الأوكرانيين والإنفصاليين. الفيلم الأول كان "شتاء على نار" والثاني "الصلاة من أجل أوكرانيا". الفيلم الجديد يتحدّث عن أوكرانيا اليوم من خلال مقابلات متوالية مع أطباء وجنود وصحافيين استيقظوا على الغزو الكبير.

يختلف "محاكمة كييف" للمخرج التسجيلي سيرغي لوزنتسا عن الفيلمين الأوكرانيين الآخرين من حيث أنه يتعامل مع محاكمات النازيين التي تمّت في العاصمة الروسية، موسكو، بعد الحرب العالمية الثانية.

تبعا لما سبق، يجيء "كله هادئ على الجبهة الغربية" في الوقت المناسب للتذكير بويلات الحروب. المقارنة واردة على الرغم من اختلاف الأزمنة والسياسات والأدوات. وفي حين يستعد العالم لمرحلة جديدة من هذه الحرب الدائرة، يُطرح التساؤل عن ضراوة الحرب والمدى الذي تستطيع أن تمضي إليه قبل أن تصطدم بنهاية وخيمة ذات عواقب مفجعة على الجميع.

font change

مقالات ذات صلة