الشعبوية السياسية تهيمن على الاقتصاد الكويتي

حتى يتحقق الإصلاح الهيكلي ستظل موازنة الدولة خاضعة ومرتهنة للاقتصاد النفطي

Andrei Cojocaru
Andrei Cojocaru

الشعبوية السياسية تهيمن على الاقتصاد الكويتي

نشرت الصحف الكويتية مشروع موازنة الدولة العامة للسنة المالية 2023/2024، والموازنة، كما هو معلوم، تبدأ في الأول من أبريل/ نيسان وتنتهي في 31 من مارس/ آذار في العام الذي يليه. تعد الموازنة المقترحة الكبرى في تاريخ الكويت حيث قدرت المصروفات الإجمالية بـ 26,3 مليار دينار، أو 86,22 مليار دولار، بزيادة نسبتها 11,7 في المئة عن السنة المالية الحالية المنتهية في 31 مارس/ آذار 2023.

أبرز ملامح الموازنة الجديدة أن نسبة الانفاق الجاري تعادل 91 في المئة من القيمة الاجمالية للمصروفات في حين لا تتعدى نسبة الانفاق الرأسمالي تسعة في المئة وتعادل نحو 2,4 مليار دينار أو 7,9 مليار دولار. تستأثر الرواتب والإجور بنسبة مهمة من الانفاق حيث تبلغ 14,9 مليار دينار، أو 48,85 مليار دولار، تعادل 57 في المئة من المصروفات الاجمالية، بما يؤكد استمرار التوظيف في الدوائر الحكومية والمؤسسات العامة، حيث ارتفعت هذه المخصصات من 13,1 مليار دينار (42,95 مليار دولار) في الموازنة الحالية، أي بمعدل نمو 13 في المئة. وقدِّر عدد التعيينات من الموظفين خلال السنة المالية الجديدة بـ 21,815. لا شك في أن هذه الزيادة في أعداد العاملين تؤكد المأزق الذي تواجهه الدولة في توفير الوظائف للمتدفقين إلى سوق العمل من العمالة الوطنية وضيق مجالات التوظيف في القطاع الخاص.

تشير البيانات التاريخية إلى أن الموازنة العامة للدولة كانت تبلغ 5,5 مليارات دينار (18 مليار دولار) في السنة المالية 2003/2004. ذلك يؤكد أن قيمة المصروفات ارتفعت بنسبة 376 في المئة أو بمعدل نمو سنوي نسبته 18,8 في المئة. لا شك في أن معدلات النمو هذه من الانفاق، تستلزم التمعن والشعور بالقلق حول كيفية مواجهة هذه الالتزامات المتنامية في السنوات المقبلة عندما يسود عدم اليقين في شأن استدامة نمو الايرادات النفطية في ظل متغيرات مهمة في اقتصادات الطاقة خلال العقود المقبلة.

ياسر الزيات - AFP

ولا تزال مخصصات الرواتب والاجور والدعم تمثل النسبة المهمة من قيمة الانفاق. قدِّرت كلفة الدعوم في الموازنة الجديدة بـ 5,9 مليارات دينار (19,34 مليار دولار) بعدما كانت 4,4 مليارات دينار أو 14,43 مليار دولار في الموازنة الحالية، أي أنها ارتفعت بنسبة 34,4 في المئة. رُفع دعم محطات الكهرباء والماء ودعم المنتجات النفطية المستهلكة من قبل سكان البلاد بـ 1,15 مليار دينار (3,77 مليارات دولار) وتكاليف المواد الانشائية والاستهلاكية بـ 75 مليون دينار (245,9 مليون دولار)، ورُفعت مخصصات الطلبة بنحو 140 مليون دينار أو 459 مليون دولار، ورُفع بدل الايجار للمواطنين الذين لم يتمكنوا من الحصول على مساكنهم بـ 68,5 مليون دينار (224,58 مليون دولار). ويتضح من هذه الزيادات أن الحكومة تحاول التجاوب مع المطالبات الشعبوية التي يطرحها أعضاء مجلس الأمة، والتي تزايدت خلال الشهور القليلة الماضية بعد انتخابات 29 سبتمبر/ايلول، من العام الماضي.

هيمنة الفكر الشعبوي

في طبيعة الحال افترضت الحكومة في مشروع الموازنة الجديدة انها ستجني إيرادات من مبيعات النفط، مقدِّرةً الانتاج الكويتي بـ 2,6 مليون برميل يومياً وبسعر يعادل 70 دولاراً للبرميل، وبذلك يمكن تقدير ايرادات النفط بـ 17,1 مليار دينار ( 56 مليار دولار). هناك إيرادات غير نفطية قدِّرت بـ 2,28 مليار دينار(7,74 مليارات دولار) تمثل 11,7 في المئة من الايرادات الاجمالية المتوقعة والبالغة 19,45 مليار دينار أو 63,77 مليار دولار.

لا تزال الكويت رهينة لاقتصادات النفط ولا تملك القدرة على احداث تنويع في مصادر الدخل السيادية، في حين تبذل دول الخليج الأخرى جهوداً مضنية لتطوير التنويع وتعزيزه

يجب التنبيه الى أن الايرادات النفطية ستكون خاضعة للمتغيرات في سوق النفط، وربما تزداد إذا ما ارتفعت أسعار النفط كما حصل في السنة المالية الجارية أو تنخفض بفعل عوامل اقتصادية أو جيوسياسية غير معلومة في الوقت الحاضر. تؤكد هذه الأوضاع أن الكويت لا تزال رهينة لاقتصادات النفط ولا تملك القدرة على احداث تنويع في مصادر الدخل السيادية في حين تبذل دول الخليج الأخرى جهوداً مضنية لتطوير إمكانات اقتصادية تعزز عملية التنويع، كما هو جار في السعودية والإمارات. تتعطل عملية الاصلاح الاقتصادي في البلاد، التي يمكن أن تقود إلى تنويع مصادر الدخل بفعل تأزم الأوضاع السياسية وهيمنة الفكر الشعبوي على المجتمع السياسي.

الدولة تملك المؤسسات الأساسية
مسألة تنويع مصادر الدخل ليست جديدة، وكانت طُرحت في الكويت منذ أوائل ستينات القرن الماضي حين أوصت بعثة مبكرة للبنك الدولي بترشيد الانفاق ودعم دور القطاع الخاص، لكن الامور لم تتحرك وتعقدت بفعل زيادة الايرادات النفطية بعد منتصف سبعينات القرن الماضي، أي بعد الصدمة النفطية الأولى. تكرست هيمنة الحكومة والقطاع العام وباتت الدولة تملك المؤسسات الاقتصادية الأساسية، ناهيك بملكية القطاع النفطي بالكامل.

 لم يتمكن القطاع الخاص من تعزيز دوره الاقتصادي ولم يُتَح له لعب دور في قطاعات مثل الاسكان المخصص للمواطنين الذي يخضع لسياسات حكومية تعتمد على توفير السكن لكل أسرة كويتية على الرغم من عدم فاعلية هذه السياسة التي تؤدي إلى انتظار يدوم لأكثر من عشرين عاماً. كما أن تمويل هذا القطاع يكاد يكون صعباً بعد استنفاد امكانات بنك الائتمان الحكومي، ناهيك بضعف القدرات الحكومية على توفير البنية التحتية في الوقت المناسب. الحكومة، أيضا، تهيمن على قطاع الطاقة الكهربائية وتقطير المياه، ولا يملك القطاع الخاص دوراً في الانتاج. هذه المسؤوليات الحكومية التي تزداد سنوياً بفعل الزيادة السكانية والتضخم، لا بد، إذاً، من أن ترفع مخصصات الانفاق العام.

حاولت الحكومة تطبيق ضريبة القيمة المضافة المعتمدة خليجياً إلا أن معارضة أعضاء مجلس الأمة لا تزال شديدة.

زيادة الايرادات غير النفطية ليست يسيرة. هناك الرسوم على الخدمات مثل الكهرباء والمياه والاتصالات الأرضية، ورسوم على الخدمات الصحية وهي رسوم متواضعة تعتمد فلسفة الدعم. أما الضرائب فهناك ضريبة العمالة على شركات القطاع الخاص المساهمة التي تبلغ 2,5 في المئة من الأرباح الصافية، وكذلك ضريبة الزكاة وتعادل واحداً في المئة من الأرباح الصافية للشركات. كما تتحمل الشركات الصناعية وأصحاب المزارع والمنتفعون من الشاليهات السياحية رسوما على الأراضي المستغلة بموجب صيغة حق الانتفاع "Ground Lease". حاولت الحكومة تطبيق ضريبة القيمة المضافة المعتمدة خليجياً إلا أن معارضة أعضاء مجلس الأمة لا تزال شديدة. أبدت الحكومة عزمها أخيرا على رفع قيمة الرسوم على حقوق الانتفاع، لكن يتعين علينا الانتظار حتى نهاية السنة المالية الجديدة، لمعرفة نتائج رفع الرسوم، لكنها مهما ارتفعت لن تؤدي إلى رفع نسبة الايرادات غير النفطية من الايرادات الحكومية الإجمالية. ويمكن للقطاع الخاص أن يساهم في رفع تلك الايرادات لو زادت مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي وتوسعت ملكيته في مختلف القطاعات الاقتصادية وفرضت ضرائب على نتائج الاعمال، كما هو متبع في البلدان الرأسمالية المتقدمة. 

الاصلاح الهيكلي
حتى يتحقق الإصلاح الهيكلي ستظل موازنة الدولة خاضعة ومرتهنة للاقتصاد النفطي. في ظل الافتراضات التي حددت لتقدير الايرادات، ستؤدي الموازنة الحالية إذاً إلى عجز قد يصل إلى 6,8 مليارات دينار (22,29 مليار دولار)، لكن تقديرات الحكومة أن العجز قد يصل إلى 5 مليارات دينار (16,39 مليار دولار) بعد احتساب أرباح الجهات المستقلة، وهو افتراض غير مدقق. هكذا سوف تقدم الحكومة مشروع قانون الدين العام من أجل تمويل العجز، وهو القانون الذي عجزت السلطتان التشريعية والتنفيذية عن التوافق عليه في السنوات الثلاث الماضية.
 
وكان من مبررات زيادة المصروفات في موازنة 2023/2024 وجود نفقات والتزامات غير مكررة، منها أكثر من مليار دينار أو 3,28 مليارات دولار لوزارتي الكهرباء والنفط لتغطية أعمال قيد الانجاز، وما يقارب 481 مليون دينار (1,57 مليار دولار) لتسديد شراء إجازات العاملين التي اعتمدها مجلس الأمة والوزراء حيث يتيح هذا القرار أو النظام إمكان بيع الموظف رصيد إجازات والتمتع بأموال في مقابلها، بصرف النظر عن عدد الأيام في رصيد الإجازات. ويمثل هذا الاجراء مدى هيمنة فلسفة الريع على الطبقة السياسية في البلاد. 

مهما يكن من أمر فإن مراجعة السياسات المالية أصبحت من أهم عناصر الاصلاح الاقتصادي في الكويت لكي لا تضطر الإدارة إلى زيادة مخصصات الإنفاق في السنوات المقبلة، في ظل عدم معرفة قيمة الايرادات النفطية المحتملة ومدى كفايتها لمواجهة الالتزامات.

font change