النفط مأزق الاقتصاد الكويتي!

التحرر من الاعتماد على النفط بحاجة الى معالجات هيكلية للسياسات المالية والاقتصادية

النفط مأزق الاقتصاد الكويتي!

يبدو أن الكويت لن تتحرر من الاعتماد على النفط لزمن طويل. منذ ستينات القرن الماضي كان شعار تنويع الاقتصاد الوطني مطروحاً. لكن أذهان صانعي القرار لم تتفتق عن أفكار يمكن أن تؤدي إلى تأهيل الحياة الاقتصادية بما يعزز التنوع والابتكار.

كانت البلاد في مرحلة قبل النفط تعتمد على جهود التجار والحرفيين والبحارة الذين تعاملوا مع البلدان المجاورة، خصوصاً العراق وإيران، وامتدوا إلى الهند وشرق أفريقيا معتمدين على سفنهم الشراعية لنقل السلع والبضائع ذهاباً وإياباً. كان اللؤلؤ من أهم الصادرات الكويتية، فهو كان بمثابة صناعة وإن بدائية وصعبة. لكن اللؤلؤ الصناعي الذي ابتدعه اليابانيون في أواخر عشرينات القرن الماضي وبداية ثلاثيناته دفع الكويتيين إلى البحث عن نشاط آخر فاعتمدوا على تجارة الذهب بوسائل متنوعة. لكن اكتشاف النفط وانتاجه وتصديره منذ نهاية الأربعينات من القرن الماضي أحدث تحولات مهمة في بنية الاقتصاد والأوضاع المعيشية في البلاد. في بداية الأمر لم يكن الهم الأساسي سوى تحسين الأوضاع المعيشية والارتقاء بالخدمات الصحية وتوفير فرص عمل للمواطنين الذين قاسوا لسنوات وعقود طويلة مع البحر والأعمال الشاقة الأخرى. كذلك كان الاهتمام بتحسين المستويات التعليمية التي بدأت منذ عام 1911 عندما تأسست المدرسة المباركية بجهود أهلية في ذلك الحين.

لن تكون عملية التحرر من الاعتماد الكبير على النفط يسيرة وممكنة من دون معالجات هيكلية للسياسات المالية والاقتصادية المعتمدة وتطوير البدائل المستحقة.

ترشيد الثروة النفطية
خلال حقب التاريخ الانساني تبين أن التطور والازدهار الاقتصادي الطويل الأمد لا يعتمد فقط على الثروة، بمختلف مصادرها الطبيعية والصناعية والخدمية، بل الأهم هو الاعتماد على إدارة الثروة وتنميتها بعقلانية. النفط هو مصدر طبيعي يمكن أن يحقق إيرادات ملائمة لبلد صغير ومحدود السكان مثل الكويت، لكن تلك الايرادات النفطية مرهونة باستمرار تدفق النفط من مصادره الطبيعية وبزيادة قيمة مضافة من خلال تصنيع الخام وإنتاج مشتقات ومنتجات مفيدة يمكن أن تصدّر إلى مختلف الدول. لكن النفط الذي لا يزال يمثل مصدراً مهماً لإنتاج الطاقة وتشغيل المركبات والطائرات وغيرها من الأجهزة، قد يواجه تحديات ومنافسة من مصادر أخرى عندما يصبح العالم مشغولاً بنظافة البيئة ومهموماً بخفض الانبعاثات الكربونية غير الملائمة للمناخ ومتطلبات البيئة الصحية النظيفة، كما هو جار في الوقت الراهن. لذلك لا بد من التعامل مع مختلف التحديات التي يتعرض لها النفط والتعرف إلى وسائل ملائمة لمواجهتها وترشيد استغلال الثروة النفطية وإيراداتها بما يعزز المناعة من الانكشاف على الاقتصاد النفطي. في طبيعة الحال، لن تكون عملية التحرر من الاعتماد الكبير على النفط يسيرة وممكنة دون معالجات هيكلية للسياسات المالية والاقتصادية المعتمدة وتطوير البدائل المستحقة.

يذكر الباحثون الاقتصاديون ودارسو التاريخ الاقتصادي العالمي أن البلدان التي تمتعت بثرواتها الطبيعية بشكل مستدام، هي تلك التي أولت التعليم والتدريب المهني أهمية فائقة. قد تكون الكويت في بداية عصر النفط فقيرة في كوادرها المتعلمة ولم تكن تملك قيادات إدارية متفهمة لمتطلبات  التنمية الاقتصادية بعد تدفق ايرادات النفط. لكن البلاد استعانت بكوادر عربية وأجنبية في مختلف التخصصات وكان هناك في خمسينات القرن العشرين مستشارون في الاقتصاد وتخطيط المدن من جنسيات مختلفة، أجنبية وعربية، يضاف إلى ذلك أن حكومة الكويت في أواخر خمسينات القرن الماضي وأوائل الستينات استعانت بخبراء من البنك الدولي لوضع تصورات في شأن خطط  التنمية في السنوات اللاحقة. قُدّمت دراسات مستفيضة تعرضت للاختلالات التي حدثت بعد بداية عصر النفط وكيفية تجاوزها وحُددت مسارات ملائمة للإفادة من ثروة النفط. وُضعت أيضا، خطط لتوظيف الأموال الفائضة على احتياجات الانفاق العام، الجاري والرأسمالي، وتم تأسيس مكتب الاستثمار الكويتي في لندن مبكراً، في عام 1953. عمدت الحكومة إلى تأسيس شركات في القطاع النفطي وغير النفطي اعتمدت في البداية على الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص بما مكّن من الافادة من أموال الدولة وإمكانات القطاع الخاص المالية والادارية. تخصصت تلك الشركات في تكرير النفط والصناعات البتروكيميائية ونقل النفط والصناعات الانشائية والنقل الجوي والبري والملاحة، ناهيك بعدد من المصارف المعتمدة على الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

فلسفة رعوية شعبوية 
تظل الفلسفة الاقتصادية الحاكمة فلسفة رعوية شعبوية خاضعة لرغبات واعتبارات أعضاء مجلس الأمة المنتخبين على أسس طائفية أو قبلية أو زبائنية. ليس هناك من هؤلاء الأعضاء من يسعى جدياً إلى إعادة هيكلة النظام الاقتصادي واعتماد اقتصاد المعرفة كأساس للتنمية المستدامة، لذلك تأتي السياسات المالية للحكومة متجاوبة مع متطلبات زيادة مخصصات الانفاق الجاري، الرواتب والأجور والدعومات  المتنوعة وضمان توفير الخدمات بأسعار متهاودة أو مجانية. هكذا يصبح الارتهان لإيرادات النفط أمراً لا فرار منه وترتفع النفقات في الموازنة العامة للدولة كما هي الحال في الموازنة المقترحة للعام المالي 2023/ 2024  التي قدرت بـ 26 مليار دينار (85 مليار دولار). تتطلب عملية إصلاح الاقتصاد في الكويت إرادة سياسية في الدرجة الأولى تعمل على تطبيق قانون التخصيص وتحويل الأنشطة الخدمية والمرافق إلى ملكية القطاع الخاص وإدارته وتأكيد أهمية الشراكة مع الشركات العالمية المتخصصة في الأنشطة الحيوية مثل توليد الطاقة الكهربائية وتقطير المياه وعمليات التدوير والمواصلات والنقل والاتصالات، كذلك تطوير أنظمة الرعاية الصحية وتوفير تأمين صحي شامل للمواطنين  والمقيمين. 

عندما يبتذل التعليم بهذا الشكل المهين فإن طموحات اقتصاد معرفة والتحرر من الاقتصاد الريعي والاتكال على إيرادات النفط تصبح غير واقعية.

أهم من ذلك، هناك ضرورة لانتشال التعليم من الوضع الراهن وتحديثه والتركيز على توفير معاهد تعليم مهني متوافقة مع متطلبات سوق العمل ومتوائمة مع التطورات التقنية الحديثة التي حدّثت الوظائف والمهن والحرف.

قد تبدو الاصلاحات المشار إليها عادية ويمكن تنفيذها، لأي مراقب اقتصادي غير ملم بطبيعة الأوضاع الكويتية والمتغيرات التي جرت للمجتمع الكويتي خلال العقود السبعة الماضية. حدثت تحولات في البنية الثقافية والقيم الاجتماعية وتعطلت سبل العمل والإبداع وبذل الجهد من أجل العيش. كما أن التعلم لم يعد مطلوباً من أجل اكتساب القدرات المهنية والعلمية بهدف الانجاز والمساهمة في تحقيق القيم المضافة للاقتصاد الوطني بل أصبح وسيلة لتقلد المناصب، وأحياناً بأدوات غير مشروعة، للتكسب الشخصي والتنفع. 

برزت خلال السنوات الأخيرة ظاهرة الشهادات التعليمية المزورة أو الصادرة من "جامعات" غير معترف بها أكاديمياً واحتل الحاصلون على مثل هذه الشهادات مواقع قيادية في مختلف المواقع في الوزارات والمؤسسات الحكومية. وعندما يتم ابتذال التعليم بهذا الشكل المهين فإن طموحات اقتصاد معرفة والتحرر من الاقتصاد الريعي والاتكال على إيرادات النفط تصبح غير واقعية. وعندما تطرح مسألة إصلاح التركيبة السكانية وإصلاح سوق العمل من دون التعامل مع الواقع التعليمي ومنظومة القيم، هل يمكن أن نتوقع أن تعالج الكويت التشوهات الاقتصادية وتعزز جودة توظيف الموارد المالية والبشرية بما يبشر بتحولات هيكلية، على الأقل مثلما هو جار في السعودية والإمارات؟ سؤال كبير يحتم الانتظار لمعرفة الجواب.

font change