بول شاوول: نحيا الآن إيديولوجيا الفراغ

Oriana Fenwick
Oriana Fenwick

بول شاوول: نحيا الآن إيديولوجيا الفراغ

بيروت: بول شاوول غزير، متعدّد، كثيف، وإشكالي. تجريبيّ من قلب الكلاسيكيّة وحداثي في تجريبيّته. غريب طوائف، ومدارس، وتيارات. لا ينتمي إلا إلى لغته.

ينحت بول شاوول لغته من صخر التجريب الشاق. يدخلها في زيجات لا تنتهي مع الفلسفة، والفكر، والسينما، والموسيقى. يعرض علينا الخلاصات مقطّرة وطازجة، وأصليّة، ومكثّفة، ويدعونا إلى لقاءٍ يتجدّد مع كل قراءة وإعادة قراءة، وكأنّنا في متاهة من غموض شفاف، يتحرك مع طبقات المعرفة، ويتناغم معها فلا ينكشف دفعة واحدة.

شريد في مكانه، يحيا تبدّد الأحلام، وذبول الأمكنة، وتشتّت المعاني. يحمل أرشيفه الممتد على مساحة أكثر من نصف قرن من الشعر، والترجمة، والمسرح، والكتابة السياسيّة، ويطلقه في براري القراءة الحرّة، تاركا للعابرين من بعده مهمّة إحيائه وكتابة سيرته من خلاله.

يحيا في عزلته المسكونة بالوجوه، والكتب، والحنين، والسجائر. يتركها تنسجه على مهل. يغادرها لبرهة إلى أحد مقاهي شارع الحمراء، يراقب تجلياتها في المكان، ويقرأ أحوالها.

كان هناك يدخن صمته حين التقته "المجلة" في حوار يرصد سيرة الشعر، والمدن، وأحوال اللغة واحتمالاتها في عالم يعاني من غزو الافتراضي لميادين التعبير، واحتلاله حيز المكان وطرده من التداول لصالح عزلة فارغة، تنتج شللا فكريّا واجتماعيّا.

ماتت الريادة لحسن الحظ، وكلّ شاعر أو كاتب شاب الآن هو مشروع متمايز ومستقل، ويحمل بصماته الخاصة

أفول المدينة

مدينة بول شاوول دائمة التشكّل والتحاور مع نفسها ومع أهلها والعابرين والعالم. تتفاهم مع التناقضات وتحضن الثقافات المختلفة ولا تتبنى أيّ سلطةٍ ولا تنطق باسمها بل تعرّيها وتفضحها.

هذه المدينة لم تعد ممكنة الآن، بيروت لم تعد تسكن في صفاتها، وكذلك يشهد العالم ذبول المدينة ومعناها.

يرصد شاوول ذلك المشهد حيث يروي قائلا: "أنا ابن قرية وهربت إلى الحمراء، شاهدت بيروت في أعلى قمةٍ من قممها حين كانت عاصمة الثقافة العربيّة بمعناها العريض، وعاصمة الحريّة والديموقراطيّة، حين كنا منفتحين على كلّ العرب، وعلى كل الثقافات. كان هناك تعدديّة، وكان هناك يمين ويسار، بينما تسود الآن الأحزاب الطائفيّة. بيروت التي أعرفها أعطتني القبول كما الرفض، وساهمت في إنتاج العقل النقدي".

المدينة بالنسبة إليه هي "المكان الذي يحضن الاختلاف والرحابة". شارع الحمراء على سبيل المثل كان "شارعا في مدينة، ومدينة في شارع، ومسرحا لنشاط كلّ النماذج الحزبيّة، والثقافيّة، العربيّة، والأجنبية. لقد بدأت نهاية هذا الشارع مع بداية الحرب الأهليّة في لبنان التي قضت على التنوّع لصالح أحادية مغلقة".

لا تعاني بيروت وحدها من تراجع حضور المدينة إذ أنّ فكرة المدينة مهدّدة في كل العالم لأن "أزمات عريضة مثل كورونا عزّزت سطوة الافتراضيّ وعمّمته على كلّ منطق التواصل في الميادين كافة. الحاجة إلى الاجتماع البشريّ المباشر تقلّصت وتضاءلت إلى الحدود الدنيا".

ضدّ "غوغل"

يخلق محرك البحث الأشهر في العالم، "غوغل"، نظاما لغويّا جديدا، يهدّد اللغة عموما واللغة الشعريّة خصوصا. يحارب شاوول هذا الاتجاه بما يسمّيه "العودة إلى الكتاب، لأنّ التكنولوجيا تصنع الكسل والتبلّد الفكري".

يفرّق بين المعلومات والتفكير معتبرا أن التكنولوجيا ساهمت في نشر المعلومات، لكنّها من ناحية أخرى عطّلت مسار التفكير. يشرح أسباب خوفه من سطوة محركات البحث، ووسائل التواصل الاجتماعي، والعالم الافتراضيّ: "لم يعد هناك من حاجة إلى المكان، كلّ شيء يحدث وراء الشاشات، لقد أدخلتنا التكنولوجيا في عزلة إجباريّة، مما قد يعطل سيرورة الفكر، والشعر، والفنون جميعها. الإنتاج في أي مجال صنيعة لقاء مباشر وتفاعل. كان الناس قبل هذه الموجة يجتمعون، ويتناقشون، وكانت المدن ساحات لقاء، وتفاعل، واختبار للأفكار والمشاريع".

يضيف: "للأسف غاب هذا الجو. لم يعد الناس يذهبون إلى السينما لمشاهدة الأفلام بل باتت منصّات البث ترسل الأفلام إلى الشاشات المنزليّة الخاصّة، وكذلك تقلص حضور المكتبات لصالح الكتب الإلكترونيّة. صارت الكتابة، حتى تلك التي تحتاج إلى تمحيص وعناية، مثل الكتابة الشعرية، تنشر مباشرة، ويتداول الشعراء قصائدهم في الفضاء الافتراضي فور كتابتها".

يحذّر شاوول من أنّه "إذا ما تفاقم الوضع ستختفي الجامعات قريبا. لقد سقط مفهوم التقدّم الدائم والحتمي، لا شك في أنّ العالم يعود إلى الوراء".

أدخلتنا التكنولوجيا في عزلة إجباريّة، مما قد يعطل سيرورة الفكر، والشعر، والفنون جميعها

بين عزلتين

في مقابل العزلة التكنولوجيّة المسكونة بالفراغ، يحرص بول شاوول على تبني نوع آخر من العزلة المأهولة بالأفكار والكلمات وضجيجها.

"الشعر ابن العزلات ولطالما كان وحيدا في مواجهة العالم". يطلق هذه العبارة ويكرّرها قبل أن يستطرد: "أنا أحيا عزلة غنيّة ومأهولة بالمرجعيّات. أكتب نصا خارج الذائقة العامة، ولا يتوجه إلى طبقة معيّنة، ولا إلى مجموعة معينة. أنطلق من الواقع وأعبّر عنه، ولكنني لا أتركه يشكّل مرجعيّتي اللغويّة ولا حساسيتي".

 من ناحية أخرى يعرب عن خشيته من "تسلّل اللغة الحسابيّة إلى كلّ شيء حتى الشعر. نحيا الآن في إيديولوجيا الفراغ. أنا لا أكتب من خلالها، بل أحرص على أن أتوجه للمجهول. الشعراء منذ القرن التاسع عشر كانوا وحيدين، والشعر دائما كان وحيدا. القصيدة الكبرى لا تتوجّه إلى الجماهير العريضة".

Getty Images
أحد أبرز الشعراء اللبنانيين والعرب 

ثقافة النسيان

لا سياسات للذاكرة في لبنان. تتحرك الحياة والسلطات فيه على إيقاع نسيانٍ ينمو وينشر ثقافة المحو، متيحا الفرصة لسطوة اللغو والثرثرة، وكأنّ البلاد بلا تاريخ، وكأنّها لم تنتج أجيالا من الكتاب والفنانين والموسيقيين والشعراء والمسرحيّين.

يتحدث شاوول بأسى عن هذا النسيان الجارف الذي بات صيغة عامة للتعامل مع تاريخ البلاد لافتا إلى أنّ "الجيل الذي سبقنا كان محظوظا لأننا قرأناه وقدّرناه وناقشناه واختلفنا معه، وكتبنا عنه الدراسات الجامعيّة. الآن اختلفت الأمور تماما، إذ أنّ أسماء كبيرة باتت طي النسيان. مَن يذكر الآن عصام محفوظ مثلا؟ لا يوجد ذاكرة في هذا البلد، وتقتصر عمليّات طبع الكتب أو التذكير على النشاط العائليّ، إذ تعمد عائلات الراحلين إلى إعادة نشر نتاجهم على نفقتهم الشخصيّة، ولكن لا يوجد أيّ اهتمام رسمي".

نسأله كيف يدافع عن نفسه وعن منجزه إزاء هذا التهديد؟ يقول: "يحبّني الناس. أبذل جهدا مع الشباب وأحتفي بكتاباتهم على أمل أن أحظى بما حظي به الجيل الذي سبقني من قراءة ودراسة. أعتقد أن نتاج الأجيال الشابة في كلّ العالم العربي يدعو إلى التفاؤل، لأنّني أجد نصوصا يتواصل أصحابها مع التراث من دون الوقوع  تحت سطوة مفهوم الروّاد. لقد ماتت الريادة لحسن الحظ، وكلّ شاعر أو كاتب شاب الآن هو مشروع متمايز ومستقل، ويحمل بصماته الخاصة. أحبّهم وأقرأ نتاجهم وأتمنى أن أستمرّ من خلالهم".

أحن إلى أصحابي وإلى شارع كان هويّتي وعائلتي

كتابة الهزيمة والحنين

لا ينكر شاوول الهزيمة بل يعترف بها، "نحن مهزومون بمعنى الحلم، كلّ ما ناضلنا لأجله في الشارع، وكل الأفكار الليبرالية، كل ما حلمت به من ديموقراطيّة وحريّات قد هزم".

يلاحق سيرورة التبدّد بنوع من الكتابة الخافتة التي تحاول تقشير جلد الهزيمة السميك في كتاب يصدر قريبا بعنوان "القصيدة المتوحشة"، وهو كناية عن قصيدة طويلة ومعقدة وغير مباشرة.

عن الاصطدام بالهزيمة يروي الشاعر: "حاولت في كتابي الجديد تأليف قصيدة وعرة، تحاكي وعورة العالم. حرصت فيها على الدفاع عن الحقّ في إعادة إنتاج المعاني الجديدة وتوليدها من القديم والمعجمي. نعم نحن مهزومون، والعالم أصبح بلا عقل وتقوده حفنة من المجانين".

نقارب منطقة الحنين عند بول في ختام حديثنا معه، وحينها يشفّ حتى تكاد ترى صور الكلمات والأمكنة، ووجوه الأصدقاء الراحلين تعبر في عينيه، وترتسم على ملامحه.

يتكلم وكأنّه يلقي قصيدة أخيرة "الشارع كان بيتنا وحين مات لاحقنا موته إلى الداخل واحتلّ غرفنا. الأمكنة تحتلّ جسمنا. أحن إلى أصحابي وإلى شارع كان هويّتي وعائلتي. كنت أرصده وأراقب أحوال أشجاره وأحفظ تفاصيله، أما الآن فلا شيء فيه سوى الخراب".

font change

مقالات ذات صلة