ضحى عاصي: احترفت الكتابة لأفهم أكثر عالم أبي

روائية دخلت إلى مجلس الشعب

Andy Edwards
Andy Edwards

ضحى عاصي: احترفت الكتابة لأفهم أكثر عالم أبي

القاهرة: لم أكن أعرفها حين رأيتها لأول مرة تبكي بحرقة وتفضي بما في داخلها أمامي دون خجل أو خوف من غريبة تراها لأول مرة.ورغم انشغالنا وقلّة لقاءاتنا، ظللت أتابع مسيرتها، فهي نموذج ملهم لمن أراد أن يعرف أن النجاح ليس سهلا والطرق ليست معبدة.

من محافظة الدقهلية في مصر إلى روسيا، ومن دفء المنصورة إلى ثلوج موسكو، تخرجت ضحى عاصي صغيرة في السادسة عشرة، لتدرس الطب ثم تعود بعد حصولها على البكالوريوس إلى مصر لتدرس الإرشاد السياحي وتعمل سنوات طويلة مرشدة سياحية ومترجمة تجيد ثلاث لغات غير العربية قبل أن تتخذ قرارا بالتوقف عن العمل والتفرغ للكتابة. كانت تلك انطلاقة جديدة في حياتها أعقبتها بتجربة هي الأصعب، فقد صارت نائبة في البرلمان المصري، وغدت صوت الثقافة في مجلس النواب.

حصلت ضحى أيضا على دبلوم في النقد الفني وآخر في الفنون الشعبية وثالث في التراث العربي المسيحي من كلية اللاهوت الإنجيلية.

التعليم والمكتبة

من الطب للإرشاد السياحي لمجلس النواب كانت رحلة ضحى عاصي الكاتبة الروائية المتمكنة، التي وضعت اسمها في مصاف الروائيين المميزين برواياتها الثلاث: 104 القاهرة، وغيوم فرنسية، وصباح 19 أغسطس.

رحلتها بدأت من الطب للإرشاد السياحي لمجلس النواب

ضحكت ضحى تلك الضحكة التي تعني أن الأمر راقها وأنها ستفتح الصندوق وتروي حين سألتها عن التعليم الحاضر بقوة في حياتها: "التعليم في بيتنا كان مهما جدا على مستويين مختلفين، فوالدي كان متعلما تعليما جيدا وهو أحد أهم مفكري وقته، وكانت مكتبته مليئة بصنوف الكتب المختلفة السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، والأدبية بكل أشكالها، والدينية بما تحوي من فقه وشريعة وتفاسير، وقد كبرت في ظلّ هذه المكتبة.

لم تدخل والدتي الجامعة وتزوجت واهتمت بأطفالها فكان هاجسها الكبير هو أنها لم تكمل تعليمها. كانت تزرع الفكرة في داخلنا دون قصد حتى إننا تشربناها صغارا، كما أنها عملت على تثقيف نفسها لدرجة أنني حين أجلس إلى بعض السيدات صاحبات الشهادات العلياوالدرجات العلمية المميزة لا أجد لديهن الوعي الذي لدى أمي.

كان لابد لي من التشبث بفكرة التعليم، لأسألها عن سرّ حرصها على دراسة التراث العربي المسيحي في كلية اللاهوت الإنجيلية؟

تجيب: "هذا الأمر أيضا له شقان، فلقد درست في مدارس راهبات كاثوليكية، ووالدي كان الشيخ مصطفى عاصي وكان مستنيرا زرع في داخلنا منذ البداية أنه لا تمييز بين مسلم ومسيحي، بل هناك مصري بغض النظر عن الدين. كانت تلك بداية فكرة المواطنة عندي. لم أفهم في صغري هذا الخيار فكيف لإمام مسجد وخطيب ودارس للشريعة والقانون أن يعلم أطفاله في مدارس للراهبات، خاصة أنه في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي بدأ ما يسمى بالمدّ الديني، وراح كل فريق يستقطب أتباعه، إلا أنه فعل ذلك دون أخذ ذلك الاستقطاب في الحسبان.

علمني موقفه هذا معنى المواطنة الحقيقي، ومن خلال عملي في المجال العام صرت أُدعى إلى محاضرات كثيرة عن المواطنة، ومن ضمن هذه الندوات كانت ندوة عن التراث العربي المسيحي فاكتشفت أنها عرض تقديمي لدبلوم فتحمست لدراسة هذا الدبلوم ليساعدني في العمل العام ويقربني من الديانة المسيحية أكثر، بحيث يساعدني ذلك في الحديث عنها عن دراية ومعرفة حقيقية، وحين درست اكتشفت أن معظم من يتحدثون عن المواطنة بعيدون جدا عنها رغم إيمانهم بالفكرة لكنهم لم يتعمقوا في ديانة الآخر، ولم يعرفوا ما هي النقاط التي يمكن أن تثير الشقاق أو تلك التي تستطيع توحيدنا.

والدي الشيخ مصطفى عاصي كان مستنيرا زرع في داخلنا منذ البداية أنه لا تمييز بين مسلم ومسيحي- فكانت تلك بداية فكرة المواطنة عندي

أول الكتابة

سبب آخر، تضيفه ضحى، وهو أنها في ذلك الوقت شرعت في كتابة رواية أبطالها أقباط مصريون، "فاستفدت من هذه الدراسة في فهم عقلية المواطن المسيحي وذلك لأن الدين له مكانة لدينا، أكنا مسلمين أو مسيحيين، وهو محرك وجداني هام لانفعالاتنا ورؤيتنا للعالم، فاستفدت كثيرا في وصف الشخصيات وأحاسيسها واختياراتها بعد فهم أعمق للمسائل اللاهوتية المسيحية، لدرجة أن أصدقائي المسيحيين لم يصدقوا ما كتبت".    

استغرقت وقتا طويلا لكتابة رواية 104 القاهرة، التي تعدّ نقلة كبيرة في كتابتك تختلف تماما عن فنجان قهوة وسعادة السوبر، ماذا عن هذه التجربة؟

الكاتبة والروائية ضحى عاصي

لم يكن هاجسي احتراف الكتابة، بدأ الأمر على شكل مقال صحفي بجريدة حزب التجمع ينشر أسبوعيا أو شهريا بجوار عملي الأساسي في السياحة، وصادف أن توفي والدي في العام الذي بدأت فيه الكتابة، فشعرت أن الكتابة تقربني أكثر من عالمه وفكره، كان تصوري أن  كل ما كتبته مجرد مقالات تحمل إسقاطات على الواقع المعيشي، غير أن رد فعل المختصين كان مختلفا لقد أجمعوا أنها قصص قصيرة ويجب جمعها في كتاب، فكانت مجموعة "فنجان قهوة" وكذلك "سعادة السوبر ماركت".

تبدلت نظرتي بعدئذ وأردت أن يكون لي تصور جديد يحمل شكلا آخر بعيدا من فكرة الإسقاط على الواقع أو الشكل الصحفي، فقررت كتابة 104 القاهرة إلا أنني توقفت مرتين إحداهما للعمل على مشروع ثقافي استغرق مني وقتا وجهدا، وبما أنني كنت أكتب رواية لأول مرة فشعرت بالتعثر، كانت تلك بداية تعرفي على كتابة الرواية. وكان لابدّ أن أسأل نفسي هل أريد الاستمرار في الكتابة أم ماذا؟ وبما أنني كنت أعمل أيضا في الترجمة وفي مجال التراث والتاريخ والفن الشعبي كباحثة، وجدت نفسي بين خيارات عدة: هل أكمل كباحثة تراث ومصريات، أم أعود إلى الإرشاد السياحي، أم الترجمة، أم أتجه للأدب بكل إخلاص أيا تكن الظروف، فرجحت كافة الأدب لأنه كان الأقوى بداخلي من كل ذلك، وعندها عدت وأكملت الراوية التي بدأتها في عام 2008.

جدوى العمل العام

شاركت ضحى في تأسيس مركز "أبجدية" الثقافي، كما أسست مركز شبابيك، وهو ما حدانا إلى سؤالها، عن مدى إيمانها بدور المثقف التوعوي.

"أؤمن تماما بهذا الدور، نظرا إلى أهميته، إلا أن هذا النوع من العمل في مصر صعب جدا، فالمناخ العام من حيث التشريعات والدعم المادي، لا يساعد على ذلك، لذلك أعتبر أولئك الذين يعملون في هذا المجال رواد ترفع لهم القبعات، فهم خدام للثقافة وليسوا منتجين لها. المنتج يحصل على مردود كبير قد يكون المجد، الشهرة، الإنجاز، الرضا، أما الذي يعمل في العمل العام الثقافي فهو يتنازل عن الكثير وأهم ما يتنازل عنه مصلحته الشخصية في سبيل إبراز الآخرين، ولكن للأسف، فإن المناخ الذي ذكرته يتسبب بإغلاق المراكز الثقافية بعد فترة من افتتاحها.

لم أكن من مؤيدي دخول ضحى إلى مجلس النواب لأسباب كثيرة، منها معرفتي بالتجربة السياسية القاسية للأديب المصري الكبير عبد الحكيم قاسم الذي حاول ترشيح نفسه لعضوية مجلس الشعب...

حاصلة على دبلوم في النقد الفني وآخر في الفنون الشعبية وثالث في التراث العربي المسيحي من كلية اللاهوت الإنجيلية

تقاطعني ضحى: "حين أعلنت ترشحي، جاءتني مكالمة من واحد من أصدقائي قائلا إن عبد الحكيم قاسم جُنَّ بعدها، ونحن نخاف عليكِ من هذا المصير، كنت متفهمة الوضع لكن نحن جيل غير رومانسي في أحلامه ومررنا بانكسارات كثيرة منها حلم الثورة مثلا، واقعنا كان شديد المرارة، فراهنت على أننا تنازلنا عن رومانسيتنا ورأينا الواقع على حاله ولم يعد هناك ما يصدمنا. لم أستطع رفض الترشح عن حزبي، فهو يمس جزءا بداخلي يختص بإيماني بدور المثقف التوعوي، إذ طلب إليّ الدخول عبر ملف الثقافة وإستكمال الدور الذي حالت الظروف بيني وبينه من قبل حين أغلقت مركزي الخاص شبابيك، لكن حين دخلت المجلس لم أعمل على الثقافة فقط بل انغمست في كل الموضوعات، لكن الثقافة تظلّ لها الأولوية الكبرى.

الفهم الأعمق للمسائل اللاهوتية المسيحية ساعدني على وصف شخصيات روايتي وأحاسيسها واختياراتها 

الرحلة

ضحى عاصي هي أول مصرية تحصل على عضوية اتحاد الكتاب الروسي. فكيف حدث ذلك؟

"بحكم تواصلي مع الثقافة الروسية وترجمة واحدة من مجموعاتي القصصية للغة الروسية والاحتفاء بها بهذه اللغة، دعاني بيت تشيخوف لقراءة النصوص والتقيت جمهورا من القراء والمتخصصين، كما شاركت في مهرجان تشيخوف الدولي كعضو لجنة تحكيم كما ترجمت روايتي 104 القاهرة إلى الروسية وشاركت بكتابة بعض المقالات وإصدار قاموس القرن الحادي والعشرين عن الكلمات الغريبة التي تستخدمها المجتمعات حاليا وأصولها، وقد صدر بالروسية، لذلك حين طرحت فكرة انضمامي للاتحاد، قدر الروس كوني أديبة مصرية وكذلك إسهاماتي باللغة الروسية، فكان هناك إجماع من اللجنة.

كيف تقيمين رحلتك؟ وماذا تريدين بعد ذلك؟

أريد أن أجلس لأكتب في بيت هادئ بالقرب من حقول خضراء بصحبة فنجان قهوة وأسرتي فقط لا غير.

لا أستطيع تقييم رحلتي، بالنسبة إليّ هي رحلة صعبة وممتعة فيها الكثير من التغيرات والنجاحات والإخفاقات. حياتي ثرية بالألم والفرح والغنى والفقر في آن معا.

font change

مقالات ذات صلة