عن عالم لم يكن "متعدد الأقطاب" يوماً

عن عالم لم يكن "متعدد الأقطاب" يوماً

من بين خواطر كثيرة أخرى، فإن الاستعصاء الذي يلف مختلف الأزمات على مستوى العالم، إنما يُغري بتخيل مساراتها المتوقعة، لو لم تكن توازنات القوى الدولية على شكلها الراهن. أي لو كانت هذه القوى الدولية أقل تعادلا/ تزاحما في ما بينها، وكانت دول مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أقدر على حسم الأزمات الدولية وتحديد مسارها، وإن بأدوات ومخرجات أقل "عدالة" مما هو مفترض ومتوقع من قِبل الكثير من الحالمين والإيديولوجيين.

راهناً، ثمة أزمات وصراعات إقليمية وعالمية مستعصية على أي حل. تمتد من الحرب الروسية على أوكرانيا وتمر بسلوك إيران النووي والإقليمي وتستمر عبر أحوال أوروبا مع المهاجرين المتدفقين عليها والصراعات في شرق آسيا، ولا تنتهي بالحروب الداخلية التي تُغرق عشرات الدول على مستوى العالم. تلك، وغيرها الكثير من الأزمات، مثل القضية البيئية وتراجع الأمن الغذائي، التي في مجموعها تعوز أي إمكان لأن تجد حلولا ما، أيا كانت، في المستقبل المنظور.

دون شك، ثمة أسباب متعددة تقف وراء ذلك الاستعصاء. لكن عودة القوتين الدوليتين الكبيرتين، روسيا والصين، وسعيهما الى استعادة "الحرب البادرة" واحياء نوع جديد منها، في مواجهة الولايات المتحدة والدول الحليفة لها، وإنشاء شكلٍ ما قائم على "توازن القوى الدولية"؛ مقابل فقدان القوى الغربية ثقتها بنفسها وقدراتها على تحديد المسارات السياسية والعسكرية والاقتصادية الكبرى على مستوى العالم، إنما هي العامل الأولي والجوهري في انبلاج هذا المشهد.

مثلاً، هل للمرء أن يتخيل هذه الأزمات الدولية والإقليمية نفسها لو اندلعت قبل ثلاثة عقود من الآن، في تسعينات القرن المنصرم. في ذلك الوقت الذي كانت الحرب الباردة قد انزوت تماما، وصار الغرب، على الأقل بمنجزه المعرفي والاقتصادي والثقافي وتجربته السياسية، يعتبر نفسه الفضاء الأرحب والأكثر قدرة على "إنقاذ" البشرية. ألم تكن هذه الأزمات نفسها قد لاقت حلولاً ومخارج ما، أقل وطأة وعنفا وعدمية مما هو شكل الحياة والعلاقات الدولية راهنا.

لكن، ألم تكن في ذلك الوقت، في تسعينات القرن المنصرم، صراعات وأزمات دولية مركبة مثل تلك الراهنة.

نعم، دون شك، فالنظام العراقي السابق كان غزا الكويت وقتئذ، وتسبب بواحدة من أكبر الأزمات بعد الحرب العالمية الثانية. في الوقت ذاته، كان الاتحاد السوفياتي يسقط، ويخلف وراءه عشرات النزعات الحدودية بين دول وكيانات تصعد إلى مسرح العالم. ومعها كانت موجات الدمقرطة وإعادة تشكيل الدول تغزو شرق أوروبا وآسيا، وأفريقيا الوسطى والجنوبية وأميركا اللاتينية. فيما كان الصراع العربي الإسرائيلي قد وصل إلى أوجه، والحروب الأهلية تُغرق البلقان والجزائر وراوندا وكردستان والصومال وأفغانستان.

هل للمرء أن يتخيل هذه الأزمات الدولية والإقليمية نفسها لو اندلعت قبل ثلاثة عقود من الآن، في تسعينات القرن المنصرم. في ذلك الوقت الذي كانت الحرب الباردة قد انزوت تماما، وصار الغرب، على الأقل بمنجزه المعرفي والاقتصادي والثقافي وتجربته السياسية، يعتبر نفسه الفضاء الأرحب والأكثر قدرة على "إنقاذ" البشرية. ألم تكن هذه الأزمات نفسها قد لاقت حلولاً ومخارج ما، أقل وطأة وعنفا وعدمية مما هو شكل الحياة والعلاقات الدولية راهنا

أغلب الظن، لم تُحلّ تلك الأزمات العالمية وقتئذ بأفضل شكل، بحسب مقاييس ورؤى "الحالمين"، لكن أيضاً كان ثمة تفكيكٌ ما لها، منَعها من الوصول إلى عتبة الاستعصاء والاستمرار إلى ما لا نهاية من دون قيمة مضافة. كانت القوى الدولية وقتئذ، قادرة على إيجاد آليات لحسم أغلب الصراعات تلك، ومنع ما بقي منها من أن يستمر كحروب وأزمات تتطلع لتغيير أصل الأشياء وجذرها، كما يحدث راهنا.


فصدام حسين أُخرج من الكويت، في أكبر رسالة عالمية إلى كل زعيم إقليمي في مختلف بقاع العالم، يتطلع لأن يفرض منطق التسلط والقهر على الكيانات الأصغر حجماً من دول الجوار. فيما مرت عمليات الدمقرطة بمساعدة واضحة من المؤسسات والمنظمات الدولية، وبمساهمة من المجتمعات المدنية في الغرب. فوق الأمرين، فإن التركة الجغرافية والسياسية والعسكرية التي كانت للاتحاد السوفياتي، والتي كانت تحتل مساحة شاسعة من العالم، جرى تفكيكها بأقل الأثمان. وأُدرج التفاوض كأساس لحل الصراع العربي - الإسرائيلي للمرة الأولى. واُسقط زعيم دموي مثل الرئيس الصربي سلوبودان ميلوشيفيتش، وحوكم. وشهدت القارة الآسيوية عقداً كاملاً من التنمية الاقتصادية والبشرية طوال تاريخها المعاصر. فيما لم يتمكن أي من أطراف الصراعات الأهلية في مختلف الدول من الحصول على تغطية ومساعدة مفتوحة من أي من الدول والكيانات العالمية، بل مُنع تسرب الأسلحة إلى أغلبهم، ولم يُقبل أن يكونوا ذوي شرعية إلى المائدة الدولية. 


هذه الأزمات نفسها، كان لها أن تتحول إلى جروح وأزمات دولية مفتوحة، لو كانت شروط الحياة وتوازنات القوى الدولية وقتئذ دون ما كانت عليه، اي لو كانت أشبه بما هي عليه اليوم. 


لا يقصد بالأمر كيل أي مديح مجاني لـ"الغرب"، من منطلق كونه مجموعة من الدول تملك مصالح وسلوكيات وخيارات سياسية. بل التأكيد أن الشكل الراهن للتوازنات والعلاقات الدولية، من حيث صعود قوتين عالميتين دون أية مشاريع ثقافية وروحية وسياسية ذات أفق ومعنى، إنما يحول العلاقات العالمية إلى مجرد صراع عصبوي مفتوح، قائم على اختلاق مشاحنات ومعارك عالمية وظيفية، لا قيمة ولا أفق لها. ومن طرف آخر تُضعف المركز العالمي الذي كان يزداد اعتقاده أنه ثروة ورأسمال للبشرية كلها. وإن لم يكن كذلك كدول، بل كمجتمعات ومنتجات ومؤسسات دولية. 


فما يفترض اليوم أنها طبقة "الحالمين" على مستوى العالم، المتطلعين إلى إنهاء "عصر الهيمنة الأميركية"، عليهم أن يكونوا أكثر تمعناً وأعمق بصيرة في رؤية هذا الاستعصاء العالمي، المتأتي من أشياء كثيرة، أكبرها على الاطلاق غياب أية رؤية أو دعوة لما يفترض ويجب أن يكون عليه العالم، من هؤلاء الذين من المفترض أن يكونوا أدوات إنهاء ذلك العصر، الذين لا يحملون بين أجنداتهم شيئاً، خلا القهر والحروب.  


     
 

font change