العقيدة الخارجية الروسية: تساؤلات في ضوء التاريخ والجغرافيا

Getty Images
Getty Images
القيصر بطرس الأكبر (1672- 1725) مؤسس روسيا الحديثة وراسم مصالحها الكبرى

العقيدة الخارجية الروسية: تساؤلات في ضوء التاريخ والجغرافيا

وقّع الرئيس فلاديمير بوتين بعد اجتماعه بمجلس الأمن الروسي في 31 مارس/آذار 2023 العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية لبلاده، موضحاً في كلمة له "لقد تطلبت منا التغييرات الجذرية في الحياة الدولية أنّ نعدّل بجديّة وثائق التخطيط الاستراتيجي الرئيسية، ومن بينها مفهوم سياسة روسيا الخارجية، الذي يحدّد مبادئ النشاط الديبلوماسي ومهامه وأولوياته".

دور روسيا الجديد قدّمه الرئيس بوتين في إطار أكاديمي اعتدناه في الوثائق الأميركية لا سيما منها الاستراتيجيا الدفاعية الوطنية التي يُدرج فيها البنتاغون بوضوح أولويات استهدافاته، وقد حدّدها هذه السنة بالصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران والمنظّمات المتطرفة العنيفة. تحدّد الوثيقة الروسية المجالات ذات الأولوية والأهداف ومهام الأنشطة الدولية للبلاد، وهي خريطة طريق لوزارة الخارجية والوزارات والإدارات الأخرى.

فهل يطمح بوتين الى التموضع في موقع القطب الدولي المسؤول عن إعادة التوازن المفقود الى العالم؟ وفي أي سياق يمكن قراءة دلالات هذه العقيدة الجديدة وآفاقها؟

في الخلفية التاريخية

لا بدّ من العودة الى الأنماط التاريخية للسياسة الخارجية الروسية التي تمثّل نقطة انطلاق ملزمة لفهم ما يحدث، فمواقف روسيا لا تزال تدور في فلك الفكر الروسي (والسوفياتي) التاريخي حيال المصالح الأمنية والسياسية الخارجية، ليس فقط على مدى العقود الماضية وإنما لثلاثة قرون خلت منذ عهد القيصر بطرس الأكبر. لقد سجّلت وقائع التاريخ تعرّض روسيا لغزوات قوى أوروبية ناشئة في مناسبات عدة، حيث كانت تسعى بشكل متكرر لحماية نفسها من خلال فرض هيمنتها على الدول الواقعة على حدودها، بما في ذلك بلدان وسط وشرق أوروبا.

Getty Images
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يترأس اجتماعا افتراضيا في 31 مارس خارج موسكو

ذهب العديد من الباحثين الغربيين إلى القول بأنّ الشعور بعدم الأمان كان الدافع المحرّك للنزعة التوسّعية الروسية والسوفياتية، وساهم هذا الشعور في ميل روسيا الى النظر الى البلدان الأخرى على أنها تهديد محتمل بغضّ النظر عما إذا كان لتلك البلدان أيّ نيات عدوانية أم لا، أو قدرة على الوقوف في وجه المصالح الروسية. وأشار القادة الروس ومنهم الرئيس بوتين الى مثل هذه الأنماط من العلاقات عند زعمهم بحق روسيا التاريخي في الهيمنة على المناطق المحيطة بها، وربما كان غزو أوكرانيا عام 2014 مجرد ردّ فعل استراتيجي طبيعي للزحف الغربي على أراضٍ تعتبرها روسيا جزءاً من أراضيها.

سوف تستمر مخاوف روسيا من توغل الليبيرالية بمفهومها الغربي وسوف تسعى لابقائها بعيدة وتحيّن الفرص لإضعافها وتقويضها حتى بالقوة، هذا ما عنته العقيدة الجديدة باستخدام الجيش لصدّ ومنع أي هجوم مسلّح ضد روسيا أو أي من حلفائها

لعل أبرز ما يثير اهتمامنا هو ما أشار إليه جورج كينان عام 1946 في رسالته المعروفة باسم "البرقية المطوّلة" Long Telegram  "بأنّ لدى روسيا شعوراً تقليدياً وغريزياً بعدم الأمان"، فما تتّسم به روسيا من حدود واسعة إنما يخلق لها تحديّا استراتيجيا طبيعيا، فالأمّة لها العديد من الأعداء المحتملين وقد سبق وكانت غنيمة للمغيرين والغزاة، كما خلقت هذه الحدود أيضاً تحديا داخليا متأصّلا على صعيد الأمن والإدارة والحوكمة.


في المنطلقات والأهداف


أ‌-    يوصّف المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية الولايات المتحدة بـ"صاحبة المبادرة والقائدة الرئيسة للخط المناهض لروسيا في العالم". وإذ يقدّم بوتين رؤيته في تقييم الأخطار - معتبراً  أنّ "استخدام القوة العسكرية في انتهاك القانون الدولي، وتطوير الفضاء الخارجي وفضاء المعلومات كمجالات جديدة للعمليات العسكرية، وتلاشي الخط الفاصل بين الوسائل العسكرية وغير العسكرية للمواجهة بين الدول، وتفاقم الصراعات المسلّحة التي طال أمدها في عدد من المناطق، يزيد الخطر على الأمن العالمي، ويزيد أخطار الصدام بين الدول الكبرى، بما فيها القوى النووية، ويزيد احتمال تصعيد مثل هذه الصراعات وتفاقمها لتصل إلى حرب محلية أو إقليمية أو عالمية" - فإنه يقارب بشكل دقيق كلّ مجالات التنافس بين القوى الكبرى، بما يوحي أنّ الولايات المتّحدة هي المسؤولة عن كلّ الاضطراب العالمي، معلناً إلتزامه إزالة بقايا الهيمنة الأميركية في العالم.

ب‌-    يقدّم بوتين روسيا إلى العالم بمقاربة جديدة، فهي ليست عدوا للغرب وليست لديها نيات عدوانية تجاه الدول الأنكلوساكسونية وأوروبا ولا تنعزل عنها، بل تراهن على الغرب في إدراك عدم جدوى المواجهة والعودة إلى التفاعل المتكافئ، وتسعى إلى مكافحة "الروسوفوبيا" (رهاب الروس) في مختلف المجالات كإحدى أولويات السياسة الإنسانية لروسيا في الخارج. وهو بهذا يُحدث قطعا تاريخيا مع حقبة ما بعد الحرب الباردة التي تأرجحت فيها روسيا بين الاندماج مع باقي القارة الأوروبية تارةً ونبذ مثل هذا الاندماج تارةً أخرى. وإذ ينتقل بوتين بروسيا  من القلق التاريخي على الإستقرار والأمن نتيجة اتساع جغرافيتها وحدودها المتراميّة الى تحديد "أوراسيا - Eurasia" كبقعة اهتمام (Area of Interest) متعّهداً تحويلها إلى مساحة متكاملة يعمّها السلام والاستقرار والإزدهار، فإن وزير خارجيته سيرغي لافروف يضيف أنّ الديبلوماسية الجديدة تهدف إلى إنشاء نظام عالمي يرتكز على تعزيز العلاقات والتنسيق بشكل شامل مع مراكز القوة العالمية الصديقة مثل الصين والهند ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) والعالم الإسلامي وأميركا اللاتينية وأفريقيا. 


ج‌-    أما على المستوى القيمي، فتعرّف روسيا الجديدة نفسها بأنها معقل العالم الروسي ومهد إحدى الحضارات الأصيلة التي تحافظ على التوازن العالمي، فإلى جانب إعرابها منذ العام 1990 عن حقها الحصري في حماية الأصول العرقية الروسية التي وجدت نفسها فجأةً وبشكل غير متوقّع تعيش خارج إطار الإتحاد السوفياتي، فإنها تُعيد إلى الكنيسة الأرثوذكسية وتعاليمها اعتبارها كمرجعيّة للإيديولوجيا الجديدة لروسيا المبنية على القيم المحافظة، بل وتستخدمها كأحد مبررات العلاقات الوثيقة بين روسيا وغيرها من بلدان الإتحاد السوفياتي السابق. وعلى الرغم من أن الكنيسة قد أعربت عن رأيها في مشكلتي أوكرانيا وسوريا، بدا أنها كانت تتبع سياسة الكرملين أكثر مما تقودها. 

تساؤلات لا بدّ منها

إنّ للسياسة الخارجية الروسية جذوراً متأصّلة ضاربة في التاريخ الروسي وفي الظروف التي أملتها حقائق الجغرافيا، وهي قد أسّست لمعتقدات وهواجس ازدادت حدّتها مع  وجهة النظر التي رأت أنّ المحاولات الغربية للاندماج ما هي إلا آلية للسيطرة على روسيا وإضعافها ومع توجس النظام الحالي مما أحاط به منذ نهاية الحرب الباردة. 
تتأثر سياسة روسيا الخارجية بالدور الذي يلعبه الرئيس بوتين في صنع السياسات وبتقييمه الشخصي للأحداث في أوكرانيا والآثار المترتبة عليها. وتبدو هذه السياسة في ظلّ المركزية الشديدة في صنع القرار كأنها نتاج لأفضليات الرئيس بوتين نفسه، وللصورة الانطباعية التي يسعى إلى تقديمها لنفسه بما يتماشى مع ميلاد لروسيا جديدة ومثالية. 


سوف تستمر مخاوف روسيا من توغل الليبيرالية بمفهومها الغربي وسوف تسعى لابقائها بعيدة وتحيّن الفرص لإضعافها وتقويضها حتى بالقوة، هذا ما عنته العقيدة الجديدة باستخدام الجيش لصدّ ومنع أي هجوم مسلّح ضد روسيا أو أي من حلفائها. 

Getty Images
مسلحون موالون لورسيا اثناء المعارك في مدينة دونتيسك في يونيو/ حزيران 2014


بصرف النظر عما ستؤول إليه الحرب في أوكرانيا وما ستؤول إليه العقيدة الجديدة، فإنّ روسيا ستشكّل تحدياً أمام الولايات المتّحدة وحلفائها لسنوات طويلة مقبلة. ومع تنامي أهداف موسكو وازدياد مصالحها يدخل الغرب في عصر جديد من العلاقات مع روسيا يستدعي وضوحاً في الرؤية ومزيداً من الجهود لإعادة بناء الاستقرار الذي ضاع في أوكرانيا وفي أوروبا في وجه عام. 

font change