الملك فاروق: حياة قصيرة وسط ثلاثة تحديات

Getty Images
Getty Images
صورة للملك فاروق محطمة في ممر ادارة مصرية بعد ثورة يوليو 1952

الملك فاروق: حياة قصيرة وسط ثلاثة تحديات

في عام 1938، وقعت حادثة غريبة، حين استدعى ملك مصر فاروق الأول، وكان وقتذاك في الثامنة عشرة، الضابط المسؤول عن المتحف العسكري المصري، محمد نجيب، لعرض أرقى عتاد عسكري في مصر. ظهر محمد نجيب البالغ من العمر 38 عاما في زيه العسكري الكامل، في حين كان فاروق الشاب يرتدي سروالا قصيرا وينتعل صندالا. طلب الملك من الضابط نجيب أن يحضر له أقدم بندقية موجودة في مصر، ليضمّها إلى مجموعة أسلحته الخاصة. لم يدرك الملك فاروق أن هذا الضابط سيقود ذات يوم الثورة التي ستطيحه وتُسقط العرش المصري بعد أربعة عشر عاما من ذلك التاريخ، أي في 23 يوليو/تموز 1952.

وضع الملك فاروق مجموعة من الشروط قبل تخليه عن التاج في ذلك اليوم المصيري في التاريخ المصري. كان أول تلك الشروط أن يُكتب خطاب تنازله عن العرش على قرطاسية تحمل طابعا رسميا. إذ أراد الملك فاروق التأكد من أنّ استقالته تليق بملك وتكون مختلفة عن استقالة صديقه الرئيس السوري شكري القوتلي الذي أُجبر على كتابة استقالته على قصاصة صغيرة من الورق عام 1949. وتمثّل طلبه الثاني في أن يُطلق حرس الشرف 21 طلقة مدفع تحية له على أبواب القصر الملكي في سماء القاهرة. واشترط ثالثا أن ترافقه مدمرات مصرية إلى المياه الإقليمية. وكان شرطه الرابع والأخير مرافقة قائد الضباط الأحرار محمد نجيب له على متن السفينة الملكية، "المحروسة"، قبل إبحارها إلى نابولي. قَبِل نجيب تلك الشروط جميعا (باستثناء الشرط القاضي بمرافقة السفن للملك في البحر)، ووقّع الملك فاروق خطاب تنازله عن العرش. ويبدو أنه كان متوتّرا، إذ وقّع الوثيقة بالخطأ مرّتين: مرّة في أسفل الصفحة والثانية في أعلاها.

صعد اللواء نجيب إلى السفينة "المحروسة" وحيّا الملك السابق. كانا كلاهما يرتديان الزي العسكري هذه المرة، وكان فاروق يرتدي زي أميرال البحرية. يستذكر نجيب في مذكراته اللقاء الدراماتيكي قائلا: "مرت فترة سكون. سكون ثقيل كأنه جبل. فمن الصعب إنسانيا أن تودّع ملكا كان يملك كل شيء، ويحكم كل شيء قبل أيام قليلة، وكان من الممكن أن يعتقلني، أو يقتلني. ومرّ الصمت الذي كان يسيطر علينا ويحكمنا ويربك أنفاسنا، ويجعل الكلمات عاجزة عن الحركة على شفاهنا. لاحظ فاروق أنّ جمال سالم يحمل عصاه وهو يقف أمامه، فتوقف عن الحديث وأشار إليه قائلا: "ارم عصاك". وحاول جمال سالم أن يعترض لكني منعته من ذلك. وعاد فاروق للحديث معي وقال: "إنّ مهمتك صعبة جداً، فليس من السهل حكم مصر".

كأس السم

كان التحذير من صعوبة حكم مصر آخر الكلمات التي قالها الملك فاروق قبل أن يغادر في صيف عام 1952. وثبتت صحة نبوءته حيث أنّ أربعة من خلفائه الستة سيعانون مصيرا بائسا ونهايات مروّعة، شبيهة بمصيره ونهايته. كان أحد الأربعة محمد نجيب نفسه، الذي أُطاحه جمال عبد الناصر، صديقه ومحطّ ثقته، بعد عامين فقط من توليه السلطة، ووضعه قيد الإقامة الجبرية لمدة سبعة عشر عاما. وقُتِل أنور السادات رئيس مصر الثالث في 6 أكتوبر/تشرين الاول 1981 بينما أطاحت ثورة يناير/كانون الثاني خلفه حسني مبارك ووُضِع في السجن في فبراير/شباط 2011. وانتظر خليفته محمد مرسي في عام 2013 المصير نفسه.

لاقى الملكُ فاروق حتفه عن عمر ناهز 45 عاما، حيث سقط مغشيا عليه في مطعم فرنسي في روما في 18 مارس/آذار1965، إثر تناوله وجبة سخية من المحار ولحم الضأن. وعلى الرغم من أنه تنازل رسميا لابنه الرضيع أحمد فؤاد، إلّا أن أي ملك آخر لم يتولّ حكم مصر من بعده.

وارث العرش (1920-1936)

وُلد فاروق الأول في قصر عابدين في القسم الشرقي من وسط القاهرة في 11 فبراير/شباط 1920. وكان عيد ميلاده بمثابة احتفال وطني في مصر، ومن المفارقات أنّ المصريين سيحتفلون بذلك التاريخ بعد سنوات عديدة لمناسبة استقالة حسني مبارك في التاريخ نفسه (11 فبراير/شباط) من عام 2011. وكان الملك العاشر من سلالة محمد علي التي حكمت مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر. كان نجل الملك فؤاد الأول وحفيد الخديوي إسماعيل الذي كان حاكما يرنو إلى المستقبل، وعقلا عظيما معترفا به، على أنه يكمن خلف النهضة الثقافية التي شهدتها مصر في القرن التاسع عشر. واسماعيل هو الرجل الذي فتح قناة السويس، الأمر الذي أدّى إلى إغراق مصر في الكثير من الديون وفي نهاية المطاف أطاحه المصريون ونُفي – كما حصل للملك فاروق تماما.

ترعرع الملك فاروق تحت ظل تأثير عظيم من أسلافه، وكان والده صارما جدا في تربيته، حيث استقدم معلمين من أوروبا وإسطنبول لتعليمه الرياضيات والجغرافيا وتاريخ العالم. وحُرم فاروق من التمتع بـ"الامتيازات" الممنوحة للأطفال الصغار المصريين؛ فهو لم يذهب إلى المدرسة، ولم يكن لديه أصدقاء، ونادرا ما كان يُسمح له بالتفاعل مع أي شخص بخلاف مجموعة كبيرة من المربيات، ورجال الحاشية، وخدم القصر. ولم يزر أهرامات الجيزة العظيمة إلا بعدما أصبح ملكا في عام 1936.

مع ذلك، نشأ فاروق في منزلٍ تسوده حالةٌ من الاضطراب. وكان الحبّ معدوما تماما في العلاقة التي كانت تربط بين والدته الملكة نازلي ووالده الملك. كانت نازلي الزوجة الثانية لفؤاد بعد زواج فاشل ربطه بالأميرة شيفاكيار، التي أنجبت له ابنة لكنها لم تنجب وارثا ذكرا. ثم تزوّج نازلي، وهي سليلة أسرة أريستوقراطية عثمانية كانت تتحدث الفرنسية بطلاقة، وكانت مصقولةً أكثر من زوجها من الناحية الثقافية والاجتماعية. وكانت أيضا تصغره بعشرين عاما. أنجبت نازلي له أخيرا وارث العرش بعد سبعة عشر عاما من الزواج، لكنها، كما يقال، لم تذرف دمعة واحدة عندما توفي الملك فؤاد عام 1936.

أُرسل فاروق لتلقي دراسته في الأكاديمية العسكرية الملكية في وولويتش، حيث أقام في منزل صغير في ريف مقاطعة "سوري" البريطانية. وبدلا من أن يحضر فصوله الدراسية، كان يمضي سنواته في لندن في التسوّق، وقيادة السيارات السريعة، ومعاشرة النساء. وعندما وافت الملك جورج الخامس المنية في 20 يناير/كانون ثاني 1936، حضر فاروق جنازته التي جرت في قصر وستمنستر. وبعد ثلاثة أشهر من ذلك التاريخ، توفي ملك مصر في 28 أبريل/نيسان 1936. وأٌعلن فاروق تلقائيا ملكا في السادسة عشرة من عمره، لكن تتويجه لم يتمّ رسميا حتى بلغ سن الرشد في يوليو/حزيران 1937.

ووفقا لما يقوله وليام ستاديم في كتابه المعنون "مفرط الثراء: حياة الملك فاروق المترفة وموته المأسوي" الذي صدر عام 2009، فإنّ فاروق ورث من والده ثروة قدرها 100 مليون دولار أميركي، يُضاف إليها 30 ألف هكتار من المزارع في وادي النيل، كما ورث خمسة قصورٍ، و20 سيارة ويختين. ويصفه ستاديم في كتابه بالقول: "لم يبدأ أي فرعون، ولا حاكم مملوكي، ولا خديوي، عهدا بهذه النية الحسنة محط التساؤل والحماسة التي بدأ الملك فاروق بهما عهده، ولكن في الوقت نفسه، لم يتصف أيّ منهم بعدم استعداده للحكم كما كان يتصف به فاروق، الذي كان طفلا يبلغ من العمر ستة عشر عاما محجوبا بالكامل عن الواقع ويتمتع بقسط قليل من التعليم تقريبا، وكان يُتوقع منه أن يملأ الفراغ الذي خلفته وفاة والده الماكر والذي كان يتمتع بحنكة سياسية في لعبة شدّ الحبل بين القوى القومية والإمبريالية والدستورية والملكية".

خاطب الملك فاروق الأمة في بثٍّ إذاعي مباشر، واستحوذ على عقول المصريين وقلوبهم على حدّ سواء. فلم يسبق لأي ملك آخر أن تحدث مباشرةً إلى الشعب، وبالتأكيد لم يسبق لأحد قبله أن خاطب الشعب من خلال الراديو وبلغة عربية فصحى. واتّسم صوته بالعمق والدفء بخلاف والده الذي نادرا ما خاطب الشعب المصري، وذلك بسبب افتقاره إلى مهارات الخطابة وبسبب أنه كان يتحدث لغةً عربيةً بالغة السوء.

منذ اليوم الأول له في الحكم، تميّز عهد الملك الشاب بثلاثة تحديات رئيسة استمرّت في ملازمة حكمه حتى انسدال الستارة على ذلك الحكم ألا وهي: البريطانيون، وحزب الوفد، ووالدته الملكة نازلي.

التحدي الأول: السفير البريطاني مايلز لامبسون

عيّنت بريطانيا مايلز لامبسون سفيرا لها في مصر عام 1934. كان السفير يشعر بالكره تجاه فاروق وكان فاروق يبادله الشعور نفسه. وكان يحاول السيطرة على تصرفات الملك الشاب بأن يقدّم إليه نصائح استعمارية وتوصيات أبوية كان يجدها الملك فاروق في كثير من الأحيان فظّة ومتعالية. وعلى الرغم من اتهام الضباط الأحرار لفاروق لاحقا بتأييده بريطانيا، إلا أنّ حقيقة الأمر هي أنه لم يكن محبّا لإنكلترا ولثقافتها على الاطلاق. بل كان، في حقيقة الأمر، يكره البريطانيين، ويخصّ منهم مايلز لامبسون بكراهية أعلى.

وكان أنطونيو بولو هو الشخص الذي يثير حفيظة لامبسون ويجد نفسه في منافسة مباشرة معه. كان أنطونيو بولو كهربائيا تحوّل إلى مدرّسٍ لفاروق، ثمّ غدا مستشاره الخاص والشخص الذي يمحنه ثقته. ورافق الملك منذ نعومة أظفاره وكان الملك يصغي إليه على الدوام، وكان بولو يقول له باستمرار إنه يجب عليه التخلص من مايلز لامبسون إن هو أراد أن يحكم على نحو يليق به.

كان الديبلوماسي البريطاني يشعر بالرعب خاصة مما كان يصفه غالبا بتوسّع النفوذ الإيطالي في مصر، ولا سيما بعد احتلال بينيتو موسوليني ليبيا المجاورة وبعد التوسّع الإيطالي في إثيوبيا. وقّعت بريطانيا العظمى ومصر في أغسطس/آب 1936 معاهدة تمنح البريطانيين الحق في تسليح الجيش المصري وتدريبه، والدفاع عن مصر في أوقات الحرب بعد أشهر فقط من حكم فاروق. وكان على القوات البريطانية بموجب المعاهدة الانسحاب رسميا من البلد الذي احتلته منذ عام 1882، ولكن سُمح لها بالاحتفاظ بـ 10 آلاف جندي لحماية شحن البضائع في قناة السويس. كانت الحرب العالمية الثانية قاب قوسين أو أدنى، وكانت بريطانيا العظمى بحاجة ماسة إلى الاستعداد لمواجهة مقبلة مع الفاشية والنازية.

التحدّي الثاني: حزب الوفد

أسّس القيادي المصري سعد زغلول، المعروف باسم "أبي الأمة المصرية" حزب الوفد الذي ارتبط اسمه بثورة 1919 الشعبية الهائلة ضدّ البريطانيين. ومنذ وفاة زغلول في عام 1927، انتقلت قيادة حزب الوفد إلى مصطفى النحاس باشا رئيس أكبر كتلة في البرلمان، وجرى تعيينه رئيسا للوزراء في مايو/أيار 1936. ووجد الوفد أرضا مشتركة مع البريطانيين على الرغم من كونه تاريخيا حزبا قوميا بامتياز، فكلاهما كان يخشى الإيطاليين ولم يكونا يكنّان للملك فاروق الكثير من الودّ.

كان النحّاس باشا يصف فاروق عادة بأنه يفتقر إلى الحسّ بالمسؤولية وبأنه غير جدير بحكم مصر. وكان على خلاف شديد ودائم مع القصر الملكي طوال الفترة التي أمضاها كرئيس للوزراء، وكان يحاول تجاوز سلطة الملك، في وقت كان يقول فيه إنّ السلطة ينبغي أن تكون في يد البرلمان.

وشرع فاروق من جهته في دق إسفين داخل حزب الوفد، وأخذ يحرك طرفا من الحزب (برئاسة علي ماهر باشا)، مقابل الطرف الذي يرأسه النحّاس باشا ومكرم عبيد باشا. حتى أنه تواصل مع جماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من عدم وجود أي قاسم مشترك يجمعهما، واعترف بالجماعة على أنها ثالث أقوى لاعب في السياسة المصرية بعد حزب الوفد والقصر الملكي. وكان فاروق يتودّد إلى قادة الجماعة ويحاول الظهور بمظهر المسلم التقي، ولم يفوّت فرصةً لحضور صلاة الجمعة مع الجماهير أو التبرع بسخاء للجمعيات الخيرية الإسلامية. وعلى الرغم من أسلوب حياته الباذخ والسمعة التي انتشرت عنه على أنه يلاحق النساء، إلا أنّ تصرفاته تلك عزّزت مكانته في أوساط المجتمع المحافظ ولاقت رواجا كبيرا لدى الجمهور المصري.

كما تواصل مع المصريين العاديين بزواجه من صافيناز ذو الفقار، وهي ابنة قاضٍ مصري عصامي. وقرّر فاروق أن يطلق عليها اسم فريدة، بعدما نصحه عراف هندي بتسمية عائلته بأسرها بأسماء تبدأ بالحرف الأول من اسمه، زاعما أنّ هذا سيجلب لهم الحظ السعيد (وفي نهاية المطاف سمّى جميع أبنائه على نحوٍ مماثل: فوزية، فادية، فريال، وأحمد فؤاد).

Getty Images
الملك فؤاد وزوجته الملكة ناريمان صادق تحمل الامير فؤاد الثاني في اوائل سنة 1952

شعر الملك فاروق بثقة كافية مكّنته من إقالة النحّاس باشا عام 1937 بعد خطب ودّ عامة الناس، وحصوله على دعم جماعة الإخوان المسلمين وحصوله على دعم شريحة كبيرة من الشعب المصري. واستبدل الملك فاروق النحّاس بمحمد محمود باشا الذي لم تكن تربطه علاقة جيدة مع السفير البريطاني، مثله في ذلك مثل الملك فاروق.

ردّ السفير البريطاني لامبسون على حل الملك فاروق للبرلمان باتهامه الملك بأنه مؤيدٌ للنازية. والحقّ أن فاروق كان يبدو ليّنا في موقفه تجاه أدولف هتلر – ليس بدافع الحبّ ولكن استنادا إلى المثل القديم القائل: "عدوّ عدوّي صديقي".

 المواجهة مع البريطانيين عام 1942 


ظهر لامبسون في قصر عابدين في ديسمبر/كانون الأول 1937، لإلقاء محاضرة على الملك فاروق حول عدم الحكمة من إثارة حفيظة بريطانيا العظمى. وذكّر فاروق بضرورة إبقاء الوفد في السلطة كونه يسيطر على نصيب الأسد من المقاعد النيابية. فردّ عليه فاروق قائلا إنه لا يأبه بمن يهيمن في البرلمان، وأردف قائلا إنه هو الملك ويريد رئيس وزراء يتبع له ولا يتبع البرلمان. ثمّ حلّ الملك فاروق البرلمان ودعا إلى انتخابات جديدة في أبريل/نيسان 1938، أملا في إخراج الوفد من السلطة التشريعية بالتمام والكمال. وكتب لامبسون في مذكراته: "سيكون الأمر فاجعا إذا اعتقد الصبي أنه لا يقهر وأنه في وسعه الاحتيال بالطريقة التي يرغب بها".


ردّ لامبسون على حل البرلمان باتهامه الملك فاروق بأنه مؤيدٌ للنازية. والحقّ أن فاروق كان يبدو ليّنا في موقفه تجاه أدولف هتلر – ليس بدافع الحبّ ولكن استنادا إلى المثل القديم القائل: "عدوّ عدوّي صديقي". وكانت أخت فاروق متزوجة من ابن محمد رضا، شاه إيران الذي كان يحيط به مستشارون ألمان (أطيح في سبتمبر/أيلول 1941 بتهمة تأييد النازية أيضا). وليزيد الطين بلّة، استضاف الملك فاروق جوزيف غوبلز وزير دعاية هتلر في القاهرة في أبريل/نيسان 1939، الأمر الذي قرع جرس الإنذار بالخطر في لندن. ووجه فاروق ضربة إلى النحاس باشا ولامبسون، حين عيّن علي ماهر باشا رئيسا للوزراء قبل أسابيع قليلة من اندلاع الحرب العالمية الثانية.


التزمت مصر رسميا موقف الحياد طوال الحرب، لكن فاروق اضطر إلى قطع العلاقات الديبلوماسية مع ألمانيا النازية، وإن لم يفوّت فرصةً لإظهار تعاطفه مع دول المحور، حيث منح ملك إيطاليا السابق فيكتور إيمانويل الثالث حقّ اللجوء السياسي، الذي تخلّى عن العرش في مايو/أيار 1946 وشهد عهده صعود موسوليني. كان مايلز لامبسون نفسه متزوجا من امرأة إيطالية وعندما حثّ لامبسون فاروق على التخلص من الإيطاليين الموجودين في بلاطه، ردّ الملك قائلا: "سأتخلص من الإيطاليين الموجودين عندي عندما تتخلص من الإيطاليين الموجودين عندك". كما منح فاروق حق اللجوء للحاج أمين الحسيني، مفتي القدس السابق الذي كان يعيش في برلين خلال الحرب والذي اجتمع بهتلر.


نصّت معاهدة عام 1936 أنه يجب على مصر وبريطانيا العظمى مساعدة إحداهما الأخرى في أوقات الحرب، وتمّ تفعيل تلك المعاهدة في 10 يونيو/حزيران 1940 عندما أعلنت إيطاليا الحرب على البريطانيين، وغزت مصر رسميا، مما أدى إلى هجوم ألماني بقيادة إروين رومل على مصر (معارك العلمين الشهيرة). ووجد الملك نفسه يقع فجأةً في معمعان تحالفات الحرب العالمية الثانية. واتُّهم فاروق بدعم الغزو والتواصل السري مع هتلر، وعندما اندلعت التظاهرات في جامعة القاهرة في فبراير/شباط 1942 وهي تنادي بانتصار هتلر، ولم يحرك فاروق ساكنا لوقف تلك التظاهرات. حصل ذلك كله في خضم أزمة وزارية كانت تعصف بالبلاد، فشعر لامبسون أنه لا يمكن حلّ تلك الأزمة إلا بحكومة يقودها حزب الوفد.


جرى انقلابٌ صغير في القاهرة ليلة 4 فبراير/شباط 1942. أراد لامبسون أن يضع فاروق أمام خيار صعب. فإمّا أن يذعن بالكامل لإملاءات البريطانيين، أو يتنازل عن عرشه. وهذا ما فعله البريطانيون مع رضا شاه الإيراني بالضبط، الذي حُمل على الاختيار بين التنازل عن العرش أو الانفصال عن الألمان. وجرى نقل مستشارين بريطانيين من لندن كانوا هم أنفسهم الذين صاغوا بيان تنازل الملك إدوارد الثامن عن العرش، لصياغة مرسوم تنازل الملك فاروق عن العرش.


ظهر لامبسون في القصر وهو يحمل خطاب التنازل عن العرش، ويطلق النار على قفل الباب الأمامي الذي كان قد أُغلق بناء على أوامر من الملك فاروق. وضع لامبسون الخطاب على مكتب فاروق، وكان الملك على وشك توقيعه، قبل أن يتدخل كبير مستشاريه ومدير مكتبه أحمد حسنين باشا، الذي تحدث إليه باللغة التركية (وهي لغة لا يفهمها لامسون). كان ثلاثةٌ من حراس فاروق الشخصيين يختبئون خلف الستارة، وكانوا يحملون أوامر بإطلاق النار على السفير البريطاني، إن هو حاول إيقاع الأذى بملكهم. أُقنع فاروق بقبول إملاءات لامبسون، لكن هذه الحادثة الفردية خلّفت رعبا دائما وجرحا لم يندمل في نفسية الملك. كما أنها أدت إلى توتر في العلاقة مع لامبسون استمرّ حتى استدعائه إلى لندن في مارس/آذار 1946.


حرب فلسطين عام 1948


في عام 1944، بدأ فاروق إنشاء جامعة الدول العربية، وكان هدفها الأولي توحيد العرب ضدّ الهيمنة الأوروبية. وكانت الجامعة مدعومة من حليفيه في السياسة العربية، الرئيس السوري شكري القوتلي والملك عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية. شكل القادة الثلاثة جبهة موحدة ضد النفوذ البريطاني والفرنسي المستقبلي في العالم العربي، وتحدّوا العائلة المالكة الهاشمية في عمان وبغداد، التي كانت تُعتبر موالية لبريطانيا. وفي مايو/أيار 1946، استضاف فاروق القمة العربية الأولى في أنشاص، التي خصصت لمناقشة الوضع في فلسطين. وعندما تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة خطة تقسيم فلسطين عام 1947، دعا الأزهر الشعب المصري للمشاركة في الجهاد في فلسطين. واندلعت تظاهرات حاشدة في القاهرة وتم إحراق المعهد البريطاني في الزقازيق. 


ثم جاء القادة العرب بفكرة إنشاء قوة تطوعية من المجندين العرب لمحاربة الميليشيات الصهيونية في فلسطين. وأصر الملك عبد العزيز على تسميتها بـ"جيش نصرة الإسلام"، إلا أن فاروق عارض الأمر قائلا إن هذه القوة ستضم مسيحيين أيضا في صفوفها لذلك اقترح تسميتها باسم "جيش تحرير فلسطين". أما شكري القوتلي فاقترح اسم "جيش إنقاذ فلسطين" الذي لاقى قبولا كبيرا وتبنته جامعة الدول العربية. وكان على مصر أن تدفع نسبة 42 في المئة من تكاليف هذا الجيش، على أن تدفع السعودية والعراق وسوريا ولبنان باقي التكاليف.


وعندما أُعلنت دولة إسرائيل رسميا في منتصف مايو/أيار 1948، أعلن العرب رسميا الحرب على دولة إسرائيل. وعلى الرغم من عدم مشاركته في حرب رسمية من قبل، إلا أن الجيش المصري كان الجيش الأكبر والأفضل تدريبا في العالم العربي. وعلى الرغم من ذلك، فكر فاروق مرتين قبل إرسال قواته ولم يقتنع بفعل ذلك إلا قبل ثلاثة أيام من إنشاء دولة إسرائيل. فقد كان يخشى أن تقطع القوات البريطانية الموجودة في قناة السويس خطوط إمداد الجيش المصري في حال دخوله حرب فلسطين. واستمرت الحكومة المصرية بالسماح للمواطنين بالتطوع في جيش الإنقاذ حتى تاريخ 26 أبريل/نيسان 1948، لكنها رفضت التعهد رسميا بإرسال جيش إلى فلسطين.


وقال تقرير الجيش المصري الذي رفع إلى الملك إن الحرب ستكون استعراضا بدون أية أخطار، وإن الجيش المصري قادر على احتلال تل أبيب خلال خمسة عشر يوما وحده وبدون أية مساعدة. وأضاف رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي باشا، أنه لا داعي للقلق غير المبرر، فالقتال سيستمر لأيام فقط لأن الأمم المتحدة ستقوم بالتدخل.
كلف جيش فاروق السير على الطريق الساحلي من رفح في اتجاه يافا. وقدر العدد الإجمالي للقوات العربية بنحو عشرين ألف جندي، كان لمصر الحصة الكبرى منهم، حيث شاركت بنحو 5500 جندي، قتل ألف منهم في المعارك عام 1948.


وانتهت الحرب بهزيمة عربية جماعية. وتم تدمير أكثر من أربعمئة قرية فلسطينية بالكامل، وجرد ثلاثة أرباع مليون شخص من ممتلكاتهم وطُردوا خارج منازلهم تحت تهديد السلاح، ومزقت فلسطين من خريطة العالم. لم يكن الملك فاروق مستعدا لا للحرب ولا للهزيمة كما يبدو، فدمرت نكبة 1948 حياته السياسية، وأشعلت انقلاب 23 يوليو/تموز بقيادة الضباط الأحرار الذين خدموا جميعا في فلسطين وكانوا يشعرون بالمرارة من الطريقة التي تعامل فيها ملكهم مع الحدث بأكمله. كان الإنذار المبكر لفاروق هو انقلاب دمشق في 29 مارس/آذار 1949 الذي أطاح صديقه شكري القوتلي، والذي كان قد اتهم بسوء إدارة الحرب في فلسطين. وأتى الانقلاب على فاروق بعد ثلاث سنوات فقط من الانقلاب على القوتلي.


قضت الحرب أيضا على التحالف غير التقليدي للملك مع جماعة الإخوان المسلمين، والذي تم إنشاؤه لغرض وحيد فقط هو تحدي الوفد. فقد اغتال أحد عملاء الإخوان المسلمين رئيس وزراء حكومة فاروق، نقراشي باشا، في 28 ديسمبر/كانون الأول عام 1948. كما دعا حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، إلى اطاحة الملك فاروق بعد موافقته على هدنة مع إسرائيل في يناير/كانون الثاني 1949. إلا أن البنا قُتِل بحسب الأقاويل، في القاهرة في 12 فبراير/شباط 1949 بأمر من الملك. لذلك، لم يكن مفاجئا تعاون الإخوان، للمرة الأخيرة،  مع محمد نجيب وجمال عبد الناصر لإسقاط الملك فاروق في يوليو/تموز 1952.

Getty Images
الملك فؤاد الثاني الذي لم يتول الحكم امام لوحة لوالده في باريس سنة 1991


التحدي الثالث: الملكة


مع الأيام، بدأ الرابط بين فاروق وشعبه بالتفكك وأصبحت المسافة بينهما بعيدة جدا. فقد رفض إطفاء الأنوار في قصره أثناء أزمة الطاقة في الحرب العالمية الثانية، كما قاد سيارة بنتلي مارك 6 في 1947، التي كانت قد صممت خصيصا له، في شوارع المدينة، واشترى ماسّة نجمة الشرق الملونة بحجم 94 قيراطا من صانع المجوهرات العالمي هاري وينستون في عام 1951. وخلال فترة حكمه، ظهر فاروق على غلاف مجلة "تايم" مرتين، الأولى في 9 أغسطس/آب 1937 والثانية في 10 سبتمبر/أيلول 1951. كانت الصورة الثانية صورة ملك متعجرف وفخور تمكن من البقاء في السلطة لمدة 15 عاما على الرغم من كل الصعاب، وكانت الأولى قد وصفته بأنه نموذج الشاب المسلم المحترم.


أما في داخل منزله، فكانت الأمور تنهار. انتهى زواج شقيقته من ولي العهد الإيراني بالطلاق، كما انتهى زواجه من الملكة فريدة لأنها لم تنجب له وارثا للعرش. وولد ابنه ووارثه أحمد فؤاد في يناير/كانون الثاني 1952 من زواج ثان من الملكة ناريمان. ثم جاءت القصص الفاضحة لوالدته، الملكة نازلي، التي قيل إنها كانت على علاقة مع رئيس الديوان الملكي، أحمد حسنين باشا، أحد الأشخاص الموثوق بهم المقربين من الملك.


وكان أسلوب حياة الملكة نازلي أثار التحفظات في القاهرة، ووضعها في دائرة الأقاويل مع المطربة السورية المشهورة أسمهان، التي قيل إنها كانت تحب حسنين باشا أيضا. واعتقد الكثيرون أن الحادث الذي توفي فيه الباشا أثناء مغادرته قصر عابدين في فبراير/شباط 1946 لم يكن حادثا عرضيا، بل كان بأمر من الملك. تسبّب ذلك بغضب شديد لنازلي غادرت على أثره القاهرة إلى الولايات المتحدة، متذرعة بالعلاج الطبي لتغادر، إلا أنها لم تعد بعد ذلك إلى القاهرة أبدا. ثم اعتنقت الديانة المسيحية، وأجبرت على بيع جميع ممتلكاتها ومجوهراتها، وتوفيت وهي تعيش على الإعانة الأميركية عام 1978. ولم يتحدث معها فاروق بعد مغادرتها القاهرة سوى مرتين، الأولى كانت بعد عملية جراحية، والثانية كانت بعد خلعه من العرش عام 1952، وانتهت بأن أغلق فاروق الهاتف في وجه أمه. 


شعر فاروق أن والدته أدارت ظهرها له في أصعب أوقاته. لكن نازلي لم تكن الوحيدة التي هجرت فاروق، فقد طلقته الملكة ناريمان أيضا في فبراير/شباط عام 1954، ووافق رئيس وزرائه المفضل، علي ماهر باشا، على تولي منصب رئيس الوزراء تحت حكم الضباط الأحرار. وسارع الملوك والرؤساء العرب الذين استضافهم في بلاطه الملكي في السابق إلى الاعتراف بالثورة المصرية. حتى أم كلثوم، المغنية المصرية التي منحها اللقب الشرفي صاحبة العصمة، والتي كانت مدحت فاروق قبل سنوات فقط في عيد الفطر متمنية له العمر المديد، ذهبت إلى حد الغناء لبطل الثورة جمال عبد الناصر.


للأسف، لم تكن حياة فاروق طويلة بما فيه الكفاية. فقد أمضى ما تبقى من سني حياته في المنفى مهجورا وتعيسا ووحيدا للغاية.

font change