لفتت انتباهي آية في سورة يونس 94 تقول: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين)، هذه الآية أثارت عندي السؤال حول موقف الإسلام من الشك، فهي تترك مساحة للشك فلا تُعلق عليه بلوم، وترشد إلى سؤال اليهود والنصارى عن ظاهرة الوحي التي لا شك في أنها كانت شيئا جديدا على النبي العربي قبل النبوة. في آية سورة يونس: هل شك النبي أم لا، هذه قضية أخرى، لكن من الواضح أن الآية تصف واقعا لا مفر منه، وتقرر ضمنيا أن مجرد الشك لا يستلزم العقوبة. معلوم موقف الإسلام من الكفر والشخصية المكذِّبة، لكن الشك شيء آخر غير التكذيب، إذ هو برزخ بين الإيمان والكفر، أو يمكن أن نصفه بأنه حالة انتظار وتردد وغياب للحسم ورغبة في التأكد، وبلغة فلسفية نحن أمام حالة لتعليق الحكم كما يقول إدموند هوسرل والفلاسفة البيرونيين في ربيع الفلسفة الإغريقية.
الشك تردّد بين نقيضين لا يُرجّح العقل أحدهما على الآخر، لوجود أمارات متساوية في الحُكمين، أو لغيابها عنهما. والشك بتعريف ديكارت هو فعل من أفعال الإرادة، ينصبّ على الأحكام لا على التصورات والأفكار، لأن التصورات من غير حكم، لا تسمى صادقة ولا كاذبة. وبالنسبة للشكوكيين الأوائل فالإيمان والتكذيب دوغما، والموقف المعتدل هو الشك. أي أن موقف المكذّب ليس موقفا شكوكيا، بل هو موقف اعتقادي. إلا أن الشكوكيين لم يتفقوا كلهم على هذا الموقف الجذري فصار عندنا كنتيجة لتصادم أفكارهم، نوعان من الشك، الشك المذهبي الذي لا يريد أن يؤمن بشيء، والشك المنهجي الديكارتي الذي يستخدم الشك أداة تطهير توصل إلى اليقين العلمي والديني.
معلوم موقف الإسلام من الكفر والشخصية المكذِّبة، لكن الشك شيء آخر غير التكذيب، إذ هو برزخ بين الإيمان والكفر، أو يمكن أن نصفه بأنه حالة انتظار وتردد وغياب للحسم ورغبة في التأكد.
فيما يتعلق بالإسلام، لا بد من الرجوع لمزيد من النصوص حتى نتصور هذه القضية تصورا صحيحا، ففي صحيح البخاري أن النبي قال "نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَىٰ وَلٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي). هنا نلاحظ أن أصل الإيمان يمكن أن يوجد مع مصاحبة الشك، ولكن هذا الشك سيتضاءل مع مزيد من البراهين التي قد توصل إلى اليقين.
وفي مسند أحمد أن أُبيّ بن كعب قال: "سمعت رجلا يقرأ فقلت من أقرأك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت انطلق إليه فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت استقرئ هذا فقال اقرأ فقرأ فقال أحسنت فقلت له أولم تقرئني كذا وكذا قال بلى وأنت قد أحسنت فقلت بيدي قد أحسنت مرتين قال فضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده في صدري ثم قال اللهم اذهب عن أُبيّ الشك ففضت عرقا وامتلأ جوفي فرقا".
وفي الحديث النبوي الآخر أن بعض الصحابة قالوا للنبي ﷺ: يا رسول الله، إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذاك صريح الإيمان. أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان الوسوسة في الإيمان وما يقوله من وجدها، برقم (132)، وفي رواية "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". ما الذي شك فيه هؤلاء الصحابة؟ لا شك أنه شك في الإيمان والدين نفسه.
لقد ترك إسلام النص مساحة معقولة، فالشك أمر طبيعي ولا بد أن يقع. وهذه النصوص من القرآن والسنة ليست بالقليلة، وهي تدل على أن لا مندوحة من الشك بالنسبة لأي عقل يتساءل ويبحث عن الحقائق، وهو صريح الإيمان، لأن الشك لا يمكن أن يزعج أحدا لم يعتقد ولم يؤمن. وإن كنا قد تعلمنا شيئا من صراع الإثباتيين مع الشكوكيين، فهو أن الحقائق التي لا زيف فيها لا يمكن أن تزول أبدا.
الشك المنهجي ضرورة، ولذلك نقلوا عن أبي هاشم الجبائي، أحد عباقرة المعتزلة، قوله إن أول واجب على المكلّف هو الشك. ونُقل عنه أن وجوب النظر والقصد إليه، يستدعي سابقة الشك في الله تعالى، وإلا كان النظر في تحصيل الحاصل، وهو محال. والشك سابق على إرادة النظر، فكان هو الواجب الأول. وزعم أن الشك في الله تعالى، حسن.
وتبنى أبو حامد الغزالي هذا القول، ونسبه ابن حزم الظاهري إلى الأشاعرة (ابن حزم: الفصل 4/74) وبعضهم يقول "النظر" أو "القصد إلى النظر" والمعنى واحد. إلا أنهم لم يدعوا إلى الشك المذهبي المنكر لإمكان المعرفة، بل إلى الشك المنهجي الذي يسعى إلى تحصيل اليقين، بمعنى أنه شك ديكارتي قبل أن يولد ديكارت.
أصيب أبو حامد الغزالي ومرض نفسيا بسبب الشك، ولم يكن شكّه مصطنعا كشك ديكارت، بل كان نتيجة لتناقضات أهل عصره وحياته، والتقليد الأعمى للاعتقادات والقيم الجامدة المتكلسة.
وكتب رأس من رؤوس المذهب الأشعري السنّي سيف الدين الآمدي: (سيف الدين الآمدي: أبكار الأفكار 1/156) باختصار:
أجمع أكثر أصحابنا، والمعتزلة، وكثير من أهل الحق من المسلمين، على أن النظر المؤدي إلى معرفة الله تعالى، واجب. غير أن مدرَك وجوبه عندنا: الشرع، خلافا للمعتزلة في قولهم إن مدرَك وجوبه العقل، دون الشرع. وقد احتج أصحابنا على وجوبه من جهة الشرع بمسلكين. المسلك الأول: التمسك بظواهر النصوص الدالة على وجوب النظر. منها قوله تعالى: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) سورة يونس آية 101
أمر بالنظر، والأمر ظاهر في الوجوب.
المسلك الثاني: هو أنهم قالوا أجمعت الأمة من المسلمين على وجوب معرفة الله تعالى، ووجوب معرفة الله تعالى لا يتم إلا بالنظر، إذ هو غير بديهي، وكل ما لا يتم به الواجب، فهو واجب، فالنظر واجب. وهذا هو المعتمد عند جمهور الأصحاب (أي الأشاعرة).
وكتب جامع علوم المعتزلة القاضي عبد الجبار المعتزلي:
ومن حق النظر أن لا يصح إلا مع الشك في المدلول، عند شيخينا رحمها الله، فأما إذا كان عالما بالمدلول فالنظر لا يصح منه. وذكر شيخنا أبو عبد الله رحمه الله، أن النظر إنما لا يصح مع العلم بالمدلول، فأما أن تجب مجامعة الشك له في المدلول فلا، بل قد يصح مع اعتقاد المدلول، ومع الظن به. ويجب أن لا يصح أن يجامعه ما يقتضي العلم بالمدلول، على قول الكل، نحو أن ينظر ويعلم أنه يولّد العلم بشيء مخصوص على وجه مخصوص. فأما مجامعة العلم، فإنه يولد أصلا له، وأنه يولّد العلم بالشيء، وإن لم يعلم على أي وجه يولد، فغير ممتنع. والذي حصلناه في هذا الباب، أن النظر لا يصح إلا مع تجويز كون المدلول على الصفة، وأنه ليس عليها، فيجب أن يقارنه هذا التجويز. وقد يحصل ذلك مع الشك، أو الظن، وقد يحصل مع الاعتقاد على وجه التبخيت (القاضي عبد الجبار المغني 12/12).
وفي فصل أسماه (في إبطال قول من ينفي الحقائق) يهاجم عبد الجبار ذلك النوع من الشكوكيين المذهبيين الذين ينكرون قيام أي معرفة، ككل علماء الكلام من المسلمين والمسيحيين، فيقول:
"اعلم، أن أبا القاسم البلخي رحمه الله منع من مكالمتهم، لأن ما جحدوه هو الأصل، ولا دليل عليه، فلا تصح محاجتهم، وإن كان في المتقدمين من ناقضهم بأن قال: أبعلم قلتم إنه لا علم ولا حقيقة؟ فإن قالوا: نعم، ثبتوا العلم. وإن قالوا: لا، لم يستحقوا جوابا، وإن أظهروا الشك، قيل لهم: أتعلمون أنكم شاكون، أم لا، على سبيل ما تقدم. وبيّن أن أحدهم إذا نزل به المكروه يفعل فعل العالم (القاضي عبد الجبار المغني 12/41).
أما أبو حامد الغزالي فقد أصيب ومرض نفسيا بسبب الشك، ولم يكن شكّه مصطنعا كشك ديكارت، بل كان نتيجة لتناقضات أهل عصره وحياته، والتقليد الأعمى للاعتقادات والقيم الجامدة المتكلسة. مذاهب متصارعة فيما بينها، كل واحد منها يدّعي خطأ خصمه، بل كُفر خصمه، فإما أن تكون هذه المذاهب باطلة كلها وإما أن يكون أحدها صحيح والباقي باطلا. وإذا كان الحق واحدا فما أدراه أيها يكون؟
وبعد إبراز الغزالي لهذه الشكوك ذكر أن هذه المفاهيم خطرت بباله وتركت انطباعا في ذهنه، وأنه بحث عن العلاج فلم يجد علاجا، لأنه لا يمكن دحض الشكوك إلا بإثبات، ولا يمكن بناء الدليل إلا من خلال الجمع بين مبادئ المعرفة الأولى. إذا لم يتم تقديم هذه، فمن المستحيل ترتيب إثبات. هذا المرض تحدّى كل علاج واستمر بالغزالي قرابة شهرين، اعتنق خلالها منهج الشكوكية، وإن لم يكن في الكلام أو التعبير.
هذا ما قاد خطواته صوب الاستقلال الفكري عن الأشاعرة والحنابلة وغيرهم، بالشك بالموروث، ولذا كتب: "إن الشكوك هي الموصلة للحقائق، فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بات في العمى والضلال". إنه ذاته الشـك المنهجي، ليس فقط عند ديكارت، بل نراه رأي العين عند كثيرين من الفلاسفة ورجال الدين المتفلسفين.
دفع الشك الفلسفي كل من الغزالي، وديكارت من بعده، إلى السعي نحو استقلال عقلي، معتمدين على وعيهما بضرورة وجود حقيقة واحدة مطلقة، يمكن الوصول إليها وتبنيها والدفاع عنها. ويبدأ الشك من شهادة الحواس المشكوك فيها، لأن التجربة تبين أن المعطيات الحسية قد تسقط في الأوهام، ثم يسير صوب مركز الوعي أو الذات، حيث يجد الإنسان جذور كل يقين نابعة من ذاته، ثم يصل المؤمن الشاك في النهاية إلى نقطة الانتصار على هذا الشك.كل هذا اجتمع لكي يقود الغزالي إلى طريق أهل التصوف، ولكي يصبح من أعظم رموزهم في كل العصور. لقد اختار طريق القلب.