إقتصاد العراق: ديكتاتورية الفساد

مصير الأرقام والثروات بعد عقدين على الغزو

ديانا استيفانيا روبيو
ديانا استيفانيا روبيو

إقتصاد العراق: ديكتاتورية الفساد

بعد عشرين عاما على غزو العراق، تقرع التقارير الدولية أجراس الإنذار، محذِّرةً من وضع اقتصادي واجتماعي قاتم في العراق، بالتزامن مع تدهور مستوى الخدمات الأساسية في مجالات الصحة والتعليم والكهرباء وفرص العمل، واضمحلال الزراعة والصناعة ودور القطاع الخاص. الباحث في الأرقام لا يرى سوى عقدين من الاثباتات على هول الكارثة التي ألمت بالبلاد.

خلص تقرير للبنك الدولي تحت عنوان "مراجعة الإنفاق العام للتنمية البشرية في العراق"، في مايو/أيار من عام 2021 إلى أن "الاقتصاد العراقي لا يزال هشا، خصوصا في ظل شبكة محسوبية ومحاصصة تستفيد من عائدات النفط، بدلا من استخدامها في تحسين البنية التحتية وجودة التعليم"، وذلك على الرغم من ثروات البلاد ومن أن الموارد المحققة على مدى جيلين تقدَّر بمئات المليارات من الدولارات أنتجتها الطفرات في أسعار النفط خلال السنوات المنصرمة، أبرزها في عام 2008، عندما بلغ سعر برميل النفط 147 دولارا.

اقتصاد ريعي

يعتمد العراق على عائدات النفط في إدارة الاقتصاد، مما استهلك البنى التحتية للانتاج، وأبقى سياسة الانفاق ريعية بعيدة عن التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فقد أنفقت مئات المليارات من الدولارات منذ 2003 على آلاف المشاريع لم ينفذ منها إلا بضعة عشرات فيما معظمها ليس له أساس ولا وجود على أرض الواقع. وتوضح أرقام صندوق النقد الدولي تذبذب النمو خلال سنوات ما بعد الغزو الأميركي، وهو واقع تعكسه الاضطرابات التي شهدها العراق وأبقت اقتصاده في مهب الأخطار الأمنية، بحيث يُنظر إليه على أنه بؤرة لتمويل الارهاب، ولاستفحال الفساد، ولاتساع قاعدة الاقتصاد الاسود، في مقابل ترهل الجهاز الاداري وغياب الدولة الجامعة.

ديانا استيفانيا روبيو

فمن انكماش 11,3 في المئة للناتج المحلي الاجمالي عام 2020، بحسب تقرير البنك الدولي عن العراق في أبريل/نيسان 2022، عاد النمو ليسجل ارتفاعا قياسيا بلغ 7,7 في المئة عام 2021، وليواصل ارتفاعه إلى 9,3 في المئة في 2022، محققا بالقيمة نحو 283 مليار دولار وفقا لصندوق النقد، فيما تشير التوقعات الى تباطؤ النمو في السنوات المقبلة. في المقابل ارتفعت الاحتياطات من النقد الاجنبي لدى البنك المركزي العراقي في مارس/آذار 2023 الماضي، إلى نحو 100 مليار دولار، وهو أعلى مستوى منذ عام 1960، مقارنة بـ 60 مليار دولار في 2021. إلا أن ارتفاع الاحتياط النقدي، لا يعكس حقيقة الاقتصاد العراقي المتأثر بارتفاع أسعار النفط على خلفية الغزو الروسي لأوكرانيا الذي دفع الأسعار الى 100 دولار للبرميل، في العام المنصرم، بعد التعافي من جائحة كوفيد- 19، علما أن لا اهتمام جديا بالبنى التحتية وتنويع الدخل الوطني، فيما البطالة مستفحلة وخط الفقر مرتفع ليطاول نحو 25 في المئة من السكان البالغ عددهم 42,2 مليون نسمة في 2022 بحسب وزارة التخطيط العراقية.

توضح أرقام صندوق النقد الدولي تذبذب النمو خلال سنوات ما بعد الغزو الأميركي، وهو واقع تعكسه الاضطرابات التي شهدها العراق وأبقت اقتصاده في مهب الأخطار الأمنية، بحيث يُنظر إليه على أنه بؤرة لتمويل الارهاب، ولاستفحال الفساد، ولاتساع قاعدة الاقتصاد الاسود

وتتوزع عشرات المليارات من الدولارات سنويا على أتباع التحالف الحاكم لمصالح حزبية وشخصية ضيقة، فيما تبقى الفئات الفقيرة والمهمشة التي ازدادت أعدادها، تعاني من ظروف عيش بالغة الصعوبة.

الثروة المنهوبة

يسعى العراق، وهو ثاني أكبر منتج للنفط في منظمة "أوبك"، الى زيادة صادراته النفطية مع تقلب أسعار النفط، حيث يتوقع إيرادات تقدر بنحو 90 مليار دولار في السنة الجارية، من تصدير نحو 3,5 مليون برميل يوميا، منها 400 ألف برميل منتج في إقليم كردستان، (أربعة ملايين برميل يوميا بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي)، بموجب سعر الصرف الجديد للعملة عند 1300 دينار للدولار الواحد الذي بدأ تطبيقه في فبراير/شباط الماضي. وكانت الإيرادات سجلت 115 مليار دولار في 2022.
ولدى شركة تصدير النفط العراقية (سومو) خطة لزيادة معدل التصدير اليومي للنفط بمقدار 250 ألف برميل يوميا في النصف الثاني من السنة الجارية بحسب أحد المسؤولين في الشركة. وتحصل الدولة على عائدات شهرية تتراوح ما بين 9 و11 مليار دولار وفقا لتقارير وزارة النفط الأخيرة. 

تبرز أهمية الثروة النفطية في احتواء العراق على احتياطي نفطي مؤكد يبلغ نحو 145 مليار برميل ويمثل نحو 9 في المئة من الاحتياطي العالمي الإجمالي، ونحو ثلاثة أضعاف الاحتياطي النفطي الأميركي، كما يحتوي على احتياطي غير مؤكد يقدّر بحدود 360 مليار برميل. 

وتقدّر أموال العراق من عائدات النفط منذ 2003 بنحو تريليون دولار، كما جاء على لسان الرئيس العراقي السابق برهم صالح في سبتمبر/أيلول 2021. 

ديانا استيفانيا روبيو

وكانت بعد غزو العراق وقّعت مجموعة عقود مع شركات طاقة دولية، أبرزها أميركية وبريطانية، مدتها 20 عاما، اعتبرت اكبر عقود في تاريخ صناعة الطاقة العالمية، اذ غطت نصف احتياطات العراق، في وقت تعالت أصوات من واشنطن تؤيد استيلاء الولايات المتحدة على عائدات النفط العراقي معتبرة أن النفط هو غنيمة الحرب بالنسبة إليها، هي التي انطلقت خطة احتلالها للعراق من مقاولة النفط الكبرى، كما قال نائب وزير الدفاع آنذاك بول وولفوفيتز: "بالطبع نحن نقاتل من أجل النفط. نحن لم نذهب الى هناك من أجل التين".

ولا تزال الولايات المتحدة مستمرة في سيطرتها على الأموال من النفط، وفي استخدامها كوسيلة للابتزاز، حيث تذهب هذه الأموال إلى حساب تم فتحه باسم البنك المركزي العراقي في نيويورك منذ مايو/أيار 2003 عوضا من ذهابها إلى الخزانة العراقية. وتسلّم الخزانة الأميركية شحنات الأوراق النقدية في شكل حصص انتهى بها المطاف في جيوب إيران وحلفائها الخاضعين للعقوبات الأميركية، مما دفع الولايات المتحدة الى تقليص هذه الحصص من 250 مليون دولار في اليوم إلى 150 أو حتى 20 أو 30 مليون دولار في يناير/كانون الثاني الماضي، تبعا للطلب التجاري.

بالطبع نحن نقاتل من أجل النفط. نحن لم نذهب الى هناك من أجل التين.

وزير الدفاع الاميركي السابق بول وولفوفيتز

موازنة ثلاثية

 يكافح العراق للخروج من نفوذ ايران الذي يسخّر العراق لمصالحه سياسيا وتجاريا ونفطيا لتخفيف حدة العقوبات على طهران. وكان القرار الأميركي الأخير خفض تزويد العراق بالدولار النقدي بمثابة فرصة لسد منافذ الهدر والتوجه إلى تحقيق مصالح العراق والعودة الى الإفادة من موارد البلاد.

ولاحت بشائر عملية خلال الفترة الماضية مع موافقة الحكومة العراقية على موازنة لثلاث سنوات من 2023 الى 2025، في حدث نادر، أعقب مرحلة شكلت فيها الموازنة عائقا أمام تسيير أعمال الدولة ومثارا للخلافات السياسية، وطغت فيها سياسة الانفلات المالي وتشظي الاقتصاد في موازنات لم تقر وحسابات ختامية مؤجلة. إلا أن الموازنة "الثلاثية" على أهميتها، ورغم اعتبار أنها توفر رؤية لمستقبل العراق المالي، لم تختلف عن سابقاتها لجهة إيلاء الانفاق الاستثماري والتنموي الحصة المطلوبة استجابة للمطالب الشعبية، ولا سيما من فئة الشباب الذي يعاني من البطالة بنسبة كبيرة فاقت الـ 27 في المئة بحسب مسح رسمي بالتعاون مع منظمة العمل الدولية في 2021.

واقع القطاع الخاص

من التطورات الايجابية أخيرا، إعلان إطلاق "صندوق العراق للتنمية" الذي سيوجه إلى القطاع الخاص المستمر في التراجع طوال السنين التي أعقبت الغزو، ويستهدف انشاء وتجهيز ثمانية آلاف مدرسة، بعدما خلص تقرير للبنك الدولي عام 2021 الى أن "مستويات التعليم في العراق من بين أدنى المستويات في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا". 

وبعدما كان القطاع الزراعي يعدّ سلة غذاء المنطقة، أضحى العراق على شفير انعدام الأمن الغذائي نتيجة للحروب المتعاقبة والجفاف (70 في المئة من موارد البلاد المائية من الخارج)، وكان العراق يحقق اكتفاء ذاتيا زراعيا خصوصا من المنتجات الأساسية، ولا سيما أيام الحصار، لكنه اليوم يستورد كل شيء تقريبا حيث يقرب الانتاج الزراعي من الصفر. كانت الصناعة تشكل نحو 13 في المئة من الناتج المحلي قبل 2003، وهي اليوم لا تتجاوز 2 في المئة. 
ويقدّر وجود 50 ألف مشروع صناعي شبه متوقف عن الانتاج، يمكن أن توفر فرص عمل للشباب في القطاع الخاص، الذين غالبا ما يبحثون عن العمل في وظائف الدولة الحكومية.

ولم يسلم القطاع المصرفي من الانحدار الاقتصادي على مدى العقدين المنصرمين. ففضلا عن بقائه بعيدا عن مواكبة التطورات التكنولوجية وتسهيل الخدمات للمواطنين مما دفعهم الى تفضيل التعامل بالمال النقدي (الكاش)، بكل ما يفضي إليه ذلك من تبعات، أمعن الفساد في إضعاف القطاع وتهميشه وتحويله الى دكاكين تتسابق على الأرباح الفاحشة التي يوفرها مزاد العملة في البنك المركزي دون أي دور فاعل تنموي في الاقتصاد العراقي. 
وتتحدث تقارير عن هيمنة المصارف الإيرانية على القطاع المالي العراقي وسط تراجع دور المصارف العراقية، إذ تمتلك إيران أكثر من عشرة  مصارف في العراق تعمل بشكل مستقل، يجري استغلالها لتهريب الأموال من العراق إلى طهران كمتنفس من العقوبات.

فساد مؤسساتي 

تدّعي الحكومة الحالية أن أولى أولوياتها "مكافحة الفساد" الذي وصفه رئيسها محمد شياع السوداني بـ"تهديد خطير للدولة العراقية، أخطر من كل التهديدات التي مرت على العراق طيلة الفترة الماضية".
في إفادة لها أمام مجلس الأمن الدولي، شددت مبعوثة الأمم المتحدة في العراق، جنين بلاسخارت، على أن "الفساد سمة أساسية في الاقتصاد السياسي في العراق، وهو جزء من المعاملات اليومية، ولست أنا من يقول هذا فقط، إن ذلك أمر معترف به". يدعم تصريحات بلاسخارت، تراجع مرتبة العراق بشكل دائم في "مؤشر مدركات الفساد" الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، محتلا المرتبة 157 في 2022 بينما كان يحتل المرتبة 113 في 2003 إبان الغزو.

ديانا استيفانيا روبيو

ووفقا لأرقام رسمية، نشرت عام 2020، فإن سوء الإدارة في العراق كان السبب وراء اختفاء أكثر من 400 مليار يورو خلال قرابة 20 عاما، ذهب ثلثها الى خارج البلاد، بحسب تقرير لوكالة الصحافة الفرنسية. وفي تقديرات أخرى للمركز العراقي للدراسات الاستراتيجية، تسبب الفساد وسوء الإدارة وهيمنة الجماعات المرتبطة بإيران على مفاصل الاقتصاد العراقي بضياع نحو 600 مليار دولار منذ العام 2003. ولا تقف السرقات عند هذا الحد إذ تشمل الوزراء ووكلاءهم وأحزاب السلطة والفصائل المسلحة التي تفرض إتاوات مالية كبيرة على الجميع، وعقود تسليح الجيش لوزارة الدفاع وغيرها من الوزارات.

في تقريرها السنوي لعام 2021، كشفت "هيئة النزاهة الاتحادية" عن تورط أكثر من 11 ألف مسؤول حكومي في قضايا فساد، بينهم 54 وزيرا، وجهت إليهم أكثر من 15 ألف تهمة. 

من أبرز وجوه سوء الإدارة، تفشي ظاهرة المشاريع والتوظيفات الوهمية، إذ تشير التقديرات الى وجود 9 آلاف مشروع وهمي في العراق بقيمة تصل إلى نحو 200 مليار دولار، في حين تستنزف التعيينات الحكومية المتضخمة التي وصلت الى ما يقارب 6 ملايين موظف، وإضافة إلى 4 ملايين متقاعد موازنة الدولة، عدا عن كونها أفرزت ظاهرة الموظفين الوهميين من أشخاص مقربين من أحزاب السلطة يحصلون على رواتب تنزع من الموازنات أموالاً طائلة. أضف الى ما تقدم، سيطرة الميليشيات التابعة لـ"الحشد الشعبي" على المنافذ الحدودية وتزوير رسوم التعرفة الجمركية وغيرها. 

في الختام العراق الى أين؟
تعجز لغة الأرقام عند هذا الواقع المرير، ويرى الخبراء أن العراق عند مفترق طرق، فإما الإصلاح والبناء أو أن البلد ذاهب الى الهاوية.
 

font change

مقالات ذات صلة