الانفجار السوداني والتطبيع العربي مع سوريا

سوريا مسألة جيوسياسية أكثر من أي وقت مضى

الانفجار السوداني والتطبيع العربي مع سوريا

الأحداث الأخيرة في السودان، تحديد إضافي للهوامش السورية. خلال العقد الأخير، جرى تداول كثير من السيناريوهات العربية والعالمية لمآلات سوريا، واختبار جراحات كثيرة لجروح السوريين. انهار خيار بعد الآخر، وتعمق جرح بعد آخر.

طُويت سيناريوهات "الانتقال السلمي" السلس بعباءة الساحات والهتافات في 2011. وانهارت رهانات التغيير من "داخل النظام" ومن "الرأس" أو "الانقلاب العسكري الأبيض" في 2012. واحترقت صفحة "النموذج العراقي" بتدخل أميركي مباشر، وخسر المراهنون على "السيناريو الليبي" بقيادة أميركية من الخلف بعد انهياره في مسقطه، وتراجع الرئيس باراك أوباما عن الخيار العسكري نهاية 2013.

أعاد التدخل العسكري الروسي في 2015، لدمشق الأطراف الخارجة من بين أصابعها، وبقيت الأمصار السورية متشظية في جيوب سيطرة، وانحدرت البلاد إلى "دويلات" صغيرة فيها جيوش أجنبية ومناطق حظر جوي ونفوذ جغرافي بدعم خارجي. فيها عسكر ومدنيون، فيها مركز وأطراف، فيها جيش مركزي وميليشيات محلية أو مستوردة، فيها حكومة معترف بها أممياً وإدارات مقبولة محلياً، فيها نازحون، وخرج منها لاجئون. هنا خراب ودمار وظلام ومعاناة، وهناك "أثرياء حرب" وحياة طبيعية.

وسط الانسداد، في الأروقة الدبلوماسية هناك من تجرأ وطرح خياراً رغبوياً قد لا يكون واقعيا، بنسخ سيناريو "سودنة سوريا"

ووسط الانسداد، في الأروقة الدبلوماسية هناك من تجرأ وطرح خياراً رغبوياً قد لا يكون واقعياً، بنسخ سيناريو "سودنة سوريا"، أي تشكيل مجلس سيادي يضم العسكر من جيش وميليشيات، والمدنيين ومن وراءهم ورعاتهم، لإدارة مرحلة انتقالية تهيئ لانتخابات، والولوج إلى حكم مدني، يجمع البلاد والعباد.

في الساعات الأخيرة، طُعن هذا الحل المشتهى من البعض والمرفوض من آخرين، على وقع الصدامات والغارات والضربات في الشوارع السودانية. الرهان وصل إلى جدار، كان وصل إليه "النموذج التونسي" ونماذج أخرى، تفاعلت الأحداث فيها بحكم تطورات داخلية وحسابات جيوسياسية.

لا شك أن النهاية السودانية، تعزز بالنسبة إلى سوريا خياراً كان موجوداً في الأصل على الطاولة العربية، وهو الانفتاح على دمشق وتعزيز "الدولة السورية"، لأسباب داخلية وخارجية. كل المؤشرات والمعلومات تشير إلى قناعة رسمية بضرورة عودة سوريا إلى المحيط العربي، سواء عبر استئناف العلاقات الثنائية أو العودة إلى الجامعة العربية. الخلاف حول سرعة حصول ذلك وشروط تحقيقه.

هذا ما كشفته الاتصالات العربية الأخيرة، وكان آخرها الاجتماع الوزاري لمجلس التعاون الخليجي ومصر والأردن والعراق في جدة ليل الجمعة- السبت، استعداداً للقمة العربية المقررة في السعودية الشهر المقبل.

قطار التطبيع العربي انطلق في مرحلة جديدة. وجهته معروفة. محطاته محددة. الخلاف حول السرعة وما يحمله القطار من مسافرين واحتياجات عربية وسورية

قطار التطبيع العربي انطلق في مرحلة جديدة. وجهته معروفة. محطاته محددة. الخلاف حول السرعة وما يحمله القطار من مسافرين واحتياجات عربية وسورية. هناك قبول عربي بالأمر الواقع في سوريا. النظام موجود. الحكومة موجودة. جيوسياسيا، يعتبر البعض، تقويتها ضرورية كي تكون قادرة على الحد من التموضع العسكري الإيراني وتشكيل "جبهة شمالية" أمام المد التركي. تعزيز المؤسسات السورية، مهم لاستعادة السيطرة ووقف سيطرة الميليشيات والإرهابيين وضبط الحدود وتفكيك شبكات المخدرات تهريبا وتصنيعا.

أما القرار الدولي 2254، فلم يعد هناك حديث عربي عن بند "الانتقال السياسي" فيه، إلا في سياق الإيحاء بالاهتمام بالوساطة الأممية والحل السياسي.

المطروح فقط، توفير الظروف الضرورية لعودة اللاجئين من الخارج والنازحين في الداخل إلى بيوتهم وتوفير لوازم البنية التحتية للعودة، والدعم والمساعدات الإنسانية للمحتاجين. هذه هي العناصر المطلوبة عربيا في القرار 2254.

هل يقدم العرب "إغراءات مسبقة" كي تنفذ دمشق المطلوب منها، أم تقوم دمشق بتنفيذ "شروط مسبقة"، كي ينتقل التطبيع العربي من ثنائي إلى جماعي؟

هل يقدم العرب "إغراءات مسبقة" كي تنفذ دمشق المطلوب منها، أم تقوم دمشق بتنفيذ "شروط مسبقة"، كي ينتقل التطبيع العربي من ثنائي إلى جماعي؟

هذا هو السؤال العربي. ليس هناك جواب موحد عليه. لذلك، فإن الأمر أُحيل إلى مزيد من "المشاورات العربية" إلى حين إنضاج الظروف أو نضوجها. وحتى ذلك الحين، فإن المسار المطروح هو التطبيع الثنائي مع استمرار المساعي الجماعية. كل دولة تطور علاقاتها مع دمشق. حالياً، هذا المسار مريح للدول العربية. يعفيها حتى من ضرورات "ماء الوجه" ويعطي كل دولة فرصة كي تحصل من دمشق على ما هو مهم لمصالحها. كما أنه مريح لدمشق حيث يعفيها من تقديم تنازلات حتى لو كانت شكلية، ويعطيها فرصة كل تلعب بين التنافسات العربية.

هذا المسار، يسمح لدمشق كي تلعب بين مسارين: التطبيع العربي والتقارب التركي، كما أنها تلعب بين الحليفين الروسي والإيراني. لذلك، لم تكن صدفة، أنه بالتزامن مع تصاعد خطوات التطبيع العربية، تشددت دمشق في شروطها إزاء انتقال الاتصالات مع أنقرة من البعد الأمني إلى المستوى السياسي والموافقة على عقد اجتماع وزاري سوري- تركي– روسي– إيراني في موسكو، في الثاني من مايو/أيار، رغم ضغوط موسكو. هذا ما تريده دول عربية، على الأقل هذا هو فهم دمشق ورهانها.

من حسنات هذا المسار، أنه يبحر في هوامش الضغوطات الغربية، ذلك أن العقوبات الأميركية والأوروبية والبريطانية لا تزال قائمة

 

من حسنات هذا المسار، أنه يبحر في هوامش الضغوطات الغربية، ذلك أن العقوبات الأميركية والأوروبية والبريطانية لا تزال قائمة. كما أن سيف "قانون قيصر" لا يزال مسلطا على المؤسسات الخاصة والحكومية. ولا تزال الغارات الإسرائيلية تلاحق الأصول العسكرية الإيرانية، بل إنها تصاعدت في الأيام الأخيرة، كما أن تبادل القصف الإيراني– الأميركي تصاعد وبشكل مباشر، على وقع التطبيع العربي والتفاهمات الإقليمية. وكأن "حرب الظل" بين إيران وكل من أميركا وإسرائيل، باتت مواجهة مباشرة بالأدوات العسكرية والتصريحات الإعلامية الرسمية.

قد يصح القول، إن "قوة" دمشق في ضعفها، في حال تسامحت الكلمات مع معناها الحقيقي لمنطوق حروفها. موسكو وطهران حليفتان، تكافح أو تتشاطر دمشق للإبحار بينهما. طهران وتل أبيب تتحاربان في الأجواء والأراضي السورية. أيضا وبدرجة أقل، أميركا وروسيا تتصادمان وتتفاهمان على ضفاف نهر الفرات. أنقرة وموسكو تربطان سوريا بأوكرانيا، كما هو حال الشراكة بين إيران وروسيا. العرب أيضا يربطون هجومهم التطبيعي على دمشق، بتفاهمات أو منافسات مع إيران وتركيا، ومع روسيا وأميركا.

سوريا مسألة جيوسياسية أكثر من أي وقت مضى. أما السوريون، فهم قضية منسية.

font change