الفانتازيا تصطدم بالواقع في 3 مجموعات قصصية جديدة

عوالم تتسم بالغرابة وتطرح أسئلة راهنة

الفانتازيا تصطدم بالواقع في 3 مجموعات قصصية جديدة

القاهرة: لا تزال القصة القصيرة في العالم العربي ترواح مكانها بين الاهتمام والتركيز عليها حينا، وإهمالها وتجاهل دورها أحيانا أخرى، لكن الملاحظ بين هذا وذاك أن ثمة اهتماما بالغا يبدو في ذلك العدد من المجموعات القصصية التي تصدر كل عام، وتتصدّر أرفف المكتبات ومواقع القراءة، رغم كل ما يقال عن اتجاه القرّاء إلى الرواية. والملاحظ أيضا أن هناك عددا من كتّاب القصة القصيرة لا يزالون يرون فيها النوع الأدبي الأكثر تعبيرا وقدرة على تصوير الشخصيات والمجتمع، وطرح رؤيتهم للعالم، وهم إذ يفعلون ذلك يمزجون باقتدار وبراعة بين الطرح الواقعي المباشر وبين الاستفادة من إمكانات الفانتازيا وعالمها الثري.

يستعيد محمد رفيع عددا من الأساطير المعروفة، مثل أساطير آلهة الفراعنة إيزيس وأزوريس وآمون وغيرها، ويعيد قراءتها وتقديمها بشكل أدبي مختلف، منطلقا من معطيات الأسطورة المعروفة إلى خيالٍ فانتازي رحبٍ

أساطير لم تحدث

في تقديم مجموعته القصصية "أساطير لم تحدث بعد"، يفضّ القاصّ المصري محمد رفيع الاشتباك الحاصل دوما بين القصة القصيرة وغيرها من الأنواع الأدبية فيقول:

"اكتشفتُ أن القصة القصيرة ابنة القصيدة والرواية معا، أخذتْ مِن الرواية شخوصَها وسردها وحبكتها، وأخذتْ مِن القصيدة رؤيتَها الكليّة المقطّرة، كثافتها، حساسيتها اللغوية، اشتقاقاتِها. في القصة والقصيدة لا تستطيع أن تحذف حرفا، في القصة والرواية لا تستطيع أن تحذف حدثا".

ينطلق رفيع في مجموعته  هذه من محاولة قراءة أدبية لعدد من الظواهر العلمية التي تشغل العالم، مازجا بين الواقعي الذي نعيشه ونعرف تفاصيله وبين العالم الفانتازي الذي ينسج تفاصيله من خلال هذه القصص. في الجزء الأول من قصص المجموعة يقرأ أزمة كوفيد (كورونا) ووقعها على العالم في أولى قصص المجموعة "اختناق مروري نحو السماء" حيث نتعرف على "آدم" مهندس الاتصالات الذي يسعى لتحليل بكاء المواليد الجدد، لإيمانه أن هناك شفرة خاصة يمكن معرفتها تكون بمثابة رسائل السماء إلى أهل الأرض، لا سيما مع تزايد أعداد الوفيات، لكنّ تلك الفكرة لا تجد لها صدى بين أهل آدم وأصدقائه، ويؤسس هنا محمد رفيع أيضا عبر قصص المجموعة مستوى آخر لفكرة عزلة العالم عن المجتمع الذي يعيش فيه، وهي الفكرة التي ستتضح أكثر مع قصة "نظرية كل شيء" التي يطرح فيها الدكتور آدم (وهو بطل عدد من قصص المجموعة) فكرته عن تعامل الكرة الأرضية مع الحوادث المحيطة بها، ليفترض أن "الكرة الأرضية نفسها كائن حي" وأن كل ما يحدث عليها إنما هو طريقتها في الاعتراض على تصرفات البشر!  يستفيد محمد رفيع أيضا من وسائل التواصل الحديثة ويفترض وجود عالم افتراضي بالكامل يتمكن الناس أن يجتمعوا خلاله ليشاهدوا اجتماعا علميا هاما يبث من مكان ويتابعه كل سكان الأرض في الوقت نفسه.

في الجزء الثاني من القصص "أساطير ربما حدثت" يستعيد الكاتب عددا من الأساطير المعروفة، مثل أساطير آلهة الفراعنة إيزيس وأزوريس وآمون وغيرها، ويعيد قراءتها وتقديمها بشكل أدبي مختلف، منطلقا من معطيات الأسطورة المعروفة  إلى خيالٍ فانتازي رحبٍ لا حدود له، نقرأ من قصة "أحبك في أجساد الآخرين":   

‫"هل تظن أن آدم آمون أعاد الأسطورة معكوسة؟ وجمع جسد بهية التي هي باهي؟ لا لم يحدث هذا؛ فبعض أعضاء باهي زُرِعت في أجساد أطفال آخرين، ولم يستطع آدم شراءها ولا حتى سِرقتها، وظَل المحراب ناقصا لا يكتمل إلا بدموع آدم آمون وزوجته، وصار الجسد موزعا بين محراب البيت، وبين أجساد أطفالٍ شتى، وآدم لم يعد كما كان، انخطف كأعضاء باهي، انكسر كشعاع ضوءٍ كان مزهوا، صار المحراب الذي زيّنه وقدّسه محراب ألمٍ وجوع، غطى على قداسته ذلك النقص الذي يعتريه، صار المحراب محرابين، محراب يقف في البيت كتميمة للفشل، كنصب تذكاري للخيبة، ومحراب آخر في البلاد موزع في أجساد أطفال الوطن، والمحرابان لا يلتقيان".

يركز ضياء جبيلي على تفاصيل أخرى يمزج فيها الواقعي بالفانتازي، وينطلق من خلالها إلى رصد علاقة الإنسان بما حوله من جهة، وعلاقة الكاتب بشكل خاص أيضا بعالمه

نمر بورخيس

وإذا كانت الأساطير والنظريات العلمية وإعادة صياغتها أدبيا الشغل الشاغل لمحمد رفيع في مجموعته، فإن الكاتب العراقي ضياء جبيلي يركز في مجموعته القصصية "النمر الذي يدعي أنه بورخيس" على تفاصيل أخرى يمزج فيها الواقعي بالفانتازي، وينطلق من خلالها إلى رصد علاقة الإنسان بما حوله من جهة، وعلاقة الكاتب بشكل خاص أيضا بعالمه، فنجده يستحضر الجمادات سواء كانت قديمة من الطبيعة أو مستحدثة من اختراع الإنسان كالأجهزة والآلات والدمى، ويقدم من خلالها رؤيته الفانتازية المغايرة، نقرأ في قصة "عش الزوجية":  

"كنت ما أزال أعاني من فرط التخيل، وهي حالة متعبة لا أعرف إن كانت ناتجة عن مرض نفسي ، عندما قررت الارتباط بحبيبتي رسميا، بعد طول انتظار دام لسنوات.أكثر عبارة سمعتها في تلك الأثناء وعانيت منها هي «عش الزوجية»، ومع أن الأمر كان متعلقا بالأغصان، بدأت الفكرة تأخذ بعدا آخر، لا شأن له بعالم الطيور وأعشاشها، فرحت أتخيلني قندسا يجمع الأغصان، قبل أن يتحول هذا الخيال إلى واقع. لا يعني هذا أني صرت قندسا بالفعل، لا يحدث ذلك إلا في القصص، إنما شرعت بالتقاط الأغصان في كل مكان أجدها فيه، حتى جمعت منها كمية كببرة قمت بتكديسها في الحديقة".

ويستحضر جبيلي شخصية الكاتب/الأديب وعلاقاته بكتابات الآخرين وعوالمهم، فيحضر ماركيز وكالفينو وغوغول ويقيم حوارا  أدبيا متخيلا بين عدد من كتاب روسيا، بل وتعجبه اللعبة فيتحدث بشكل فيه مع الفانتازيا قدر من الطرافة في قصة مثل "حيوانات المكتبة" التي يرصد فيها "الحيوانات" التي تحضر في عناوين بعض الكتب:

"الكتب تعض ..فعلا، كيف للكتب أن تفعل ذلك؟ عدت لأسأل نفسي، وأنا في طريقي إلى المنزل. فكرت أنها الفئران حقا، هي من فعل هذا. لكنها ليست الفئران التي نعرف، ولكي أتأكد أكثر، عدت إلى الكتاب العضّاض، الذي سبق وأن قضم إبهامي قدميّ، فذُهلت حينما اكتشفتُ أنها رواية لجون شتاينبك عنوانها 'الفئران والرجال'.

ونجده في قصصٍ أخرى يركز على "الأمهات" جاعلا من تفاصيل حياتهن عالما خاصا، فيتحدث عن صمتهن وروائحتهن وإيمانهن بالغيب، وكيف يشكلن حياة أبنائهن ويؤثرن فيهم، لا سيما فيما يبثثنه إليهن من حكايات تنمي ملكة الخيال، ذلك الخيال الذي يعتبره جبيلي في قصة أخرى "كائن حي" يحتاج إلى تغذية كي ينمو ويكبر، وما تلك القصص سوى غذاء مثالي للفكر والعقل لكي ينمو الخيال ويستطيع المرء من خلاله أن يتغلب على صعاب حياته.

 هكذا يتمثّل ضياء جبيلي عوالم الفانتازيا، ليدور بنا حول أكثر من فكرة وطريقة، وهو الأمر الذي نجده في الكثير من مجموعاته القصصية، إذ هو مشغول دوما بهذا الجمع الثري بين الواقعي والفانتازي، والملاحظ أن كل هذه العوالم تحضر  في قصصه كأنها أمر طبيعي ومعتاد!

يتجاوز أحمد عبدالمنعم رمضان فكرة الحديث عن الغابة وحيواناتها، إلى التركيز على حالة الاغتراب والبعد عن هذا العالم سواء كان غابة أو مدينة، فهو لا ينتمي إليه، إنما هو تائه، بكل ما يحيل إليه ذلك "الضياع" من حيرة وتردد وقلق

قطط وكلاب

وإذا كان جبيلي يستحضر عوالم الحيوانات من كتب الآخرين ورواياتهم، ويستنطقها بتلك الطريقة المتميزة، فإن الكاتب المصري أحمد عبد المنعم رمضان يفاجئ القارئ بحضور الحيوانات أيضا في مجموعته "قطط تعوي وكلاب تموء" وذلك من خلال قصص تعود بنا إلى عالم واقعي بسيط يرصد فيها بطل القصة ما حوله، ويسعى بحثا عن وظيفة جديدة، ولكنه يفاجأ بدعوته إلى حفلة يحضرها الأسود! 

يقسم رمضان المجموعة جزأين، الأول "حيوانات المدينة" الذي يبدو رصدا حيا لتلك التغيرات التي يلاحظها بطل القصة، وهو في أغلب القصص البطل نفسه وإن اختلف عمره أحيانا وعمله في أحيان أخرى، ولكن لا يفوته في كل مرة أن يصبغ هذا البطل بصفاته الواقعية جدا، سواء في الإشارة إلى علاقته "الطبيعية" بالآخرين، أو حضور أسماء الأماكن مثلا "طلعت حرب" وغيرها، أو كونه يحبّ فلسفته في الحب ويفرضها على قارئه، كل ذلك في ظني حتى يتمثل القارئ حالته تماما، ليكتشف ويفاجأ بعد ذلك بهذه التغيرات، ولعل التحول الذي يأتي في الجزء الثاني من المجموعة يؤكد تلك النظرة ويعمد إلى تهيئة القارئ لتلك الأجواء إذ يأتي العنوان المختلف عن هذه الأجواء في "تائه في الغابة".

في هذا الجزء يتجاوز الكاتب فكرة الحديث عن الغابة وحيواناتها، إلى التركيز على حالة الاغتراب والبعد عن هذا العالم سواء كان غابة أو مدينة، فهو لا ينتمي إليه، إنما هو تائه، بكل ما يحيل إليه ذلك "الضياع" من حيرة وتردد وقلق، ويكون أبرز مثال عليه، وأكثرها وضوحا في التعبير قصة "حادث قتل جماعي" حيث يتبادل الناس الاتهامات حول مصير المقتول فيما هو ينزف دما! ولا حاجة هنا إلى استعادة الإشارة إلى الغابة، فالوحشية في رسم المشهد وتفاصيله كافية جدا، لذا أيضا فلا غرابة أن يحضر "درس التشريح" الذي يعرّف فيه الطبيب القلب للتلاميذ ببساطة وشفافية، فيما يخشى بطل القصة أن يفتضح أمره:

 "هذا هو القلب يا سادة… والقلب عضو مهم إلى حد ما ولكنه ليس حيويا كما يظن البعض، فمن الممكن أن نعيش بدونه… هناك عمليات تجرى لإزالته في بعض الحالات، وذلك إنقاذا لحياة المريض، والبعض يولد دونه كعيب خلقي، ولكنه ليس عيبا خطيرا أو ربما ليس عيبا أصلا، فالحياة دونه غالبا ما تكون على ما يرام… كما أن بعض المراكز الكبرى والسلطات تشترط في موظفيها عدم وجود القلب، حتى ازدادت نسبة اللاقلبيين في الفترة الأخيرة".

هكذا تنوّعت طرائق التعامل مع الواقع وأحداثه وتعدّدت مع كتّاب القصة القصيرة، ما بين محاولة التأويل الأدبي للأحداث والأساطير العلمية إلى السعي لاكتشاف علاقات خاصة بين الإنسان وما حوله، إلى رصد التغيرات والتقلبات التي تحدث في عالم اليوم والتي تقرب بين الإنسان والحيوان بشكلٍ ما، كل ذلك في إطار عام يجمع الواقعي بالفانتازي، والحقيقي بالمتخيّل، تتعدد الطرائق وتختلف الأساليب وتبقى للقصة القصيرة قدرتها وفعاليتها في بناء عوالم مختلفة والتعبير عن واقع المجتمع والناس من خلال كتّاب استطاعوا أن يستفيدوا بكل إمكانات هذا النوع الفني الفريد، وأن يصوغوا من خلاله رؤيتهم الفريدة للعالم.

  • "أساطير لم تحدث بعد"، .محمد رفيع، دار روافد 2022.
  • "النمر الذي يدعي أنه بورخيس"، ضياء جبيلي، منشورات نابو 2020، وصلت للقائمة القصيرة في جائزة الملتقى ـ الكويت 2023.
  • "قطط تعوي وكلاب تموء"، أحمد عبد المنعم رمضان، دار الشروق 2023.
font change

مقالات ذات صلة