السودان ليس استثناء: "عسكر على مين؟"

العسكر ما بين السلطة والثروة

السودان ليس استثناء: "عسكر على مين؟"

يبدو أن المنطقة في حالة خصومة شديدة مع الاستقرار، فلا يكاد ينطفئ حريق في مكان حتى يندلع في مكان آخر.

يرغب البعض في إلقاء كامل المسؤولية على التدخلات الخارجية، في جمهوريات هشة، غنية بالموارد وشعبها فقير. لكن إذا كان جانب من المسؤولية يقع على الخارج، إلا أن أسباب اندلاع هذه الحرائق هي داخلية في الدرجة الأولى.

السودان كغيره من جمهوريات الانقلابات العسكرية في العالم العربي، لم يكد يحصل على استقلاله عام 1956 حتى عصفت به الانقلابات العسكرية، وبدأت مسيرة العسكر والسياسة التي لم تنجح في بناء دولة حديثة في أي مكان.

تسببت لعنة الانقلابات العسكرية في اندلاع الحروب والمآسي في هذا البلد الذي يشتهر أهله بطيبتهم، ولكن لا رادع أمام العسكر متى ما وضعوا نصب أعينهم السلطة وما يجنونه من منافع منها. هكذا هي الحال في سوريا والعراق، وهكذا كانت الحال في ليبيا والجزائر والجمهوريات العربية التي يكاد لبنان يكون شبه الاستثناء فيها.

يرغب البعض في إلقاء كامل المسؤولية على التدخلات الخارجية، في جمهوريات هشة، غنية بالموارد وشعبها فقير، لكن إذا كان جانب من المسؤولية يقع على الخارج، إلا أن أسباب اندلاع هذه الحرائق هي داخلية في الدرجة الأولى. 

بدأت الاحتجاجات الشعبية العارمة في السودان في نهاية 2018 بسبب الأزمة الاقتصادية، فردّت عليها القوى الأمنية بالغاز والنار. وفي أبريل/نيسان 2019، اعتصم المتظاهرون أمام مقر الجيش في الخرطوم، وبعد أيام أطاح الجيشُ الرئيسَ عمر البشير واحتجزه، فيما واصل المتظاهرون الاعتصام للمطالبة بتسليم المدنيين السلطة. وانتهى حكم البشير الذي حكم البلاد لنحو 30 عاما في الشهر  نفسه.

توصلت القوى المدنية المؤيدة للانتفاضة إلى اتفاق لتقاسم السلطة مع الجيش خلال فترة انتقالية تفضي إلى انتخابات في اغسطس/آب، وتم في وقت لاحق تعيين عبد الله حمدوك، الاقتصادي والمسؤول السابق في الأمم المتحدة، رئيسا للوزراء، ولكن ما هي إلا شهور قليلة حتى اعتقلت قوات الأمن حمدوك والعديد من القيادات المدنية، وأعلن قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، عبر التلفزيون الرسمي، حالة الطوارئ بعد حل السلطات الانتقالية وإقالة عدد كبير من أعضاء الحكومة والأعضاء المدنيين في مجلس السيادة المسؤول عن قيادة المرحلة الانتقالية.

السودان كغيره من جمهوريات الانقلابات العسكرية في العالم العربي، لم يكد يحصل على استقلاله عام 1956 حتى عصفت به الانقلابات العسكرية، وبدأت مسيرة العسكر والسياسة التي لم تنجح في بناء دولة حديثة في أي مكان.

 

وبعد ضعط دولي ودعوة مجلس الأمن إلى إعادة تأليف "حكومة انتقالية يقودها مدنيون"، شكل البرهان مجلس سيادة انتقاليا جديدا يترأسه هو، واحتفظ الفريق أول محمد حمدان دقلو (حميدتي)، قائد "قوة الدعم السريع" شبه العسكرية، بمنصبه نائبا لرئيس المجلس. استمرت التظاهرات إلى أن أعلن التوصل إلى اتفاق بين العسكر وحمدوك أعيد بموجبه تعيينه رئيسا للوزراء، لكنه ما لبث أن استقال مع استمرار الاحتجاجات وسقوط المزيد من القتلى.

في نهاية العام الماضي، وقّع البرهان وحميدتي مع عدد من القوى المدنية، الاتفاق الإطاري تمهيدا لتشكيل سلطة مدنية انتقالية، لكن العسكر وقف مجددا عائقا أمام تنفيذ الاتفاق بسبب خلافات حول ما إذا كان الجيش سيخضع للسلطة المدنية وحول خطط دمج "قوات الدعم السريع" في القوات المسلحة.

وما هي إلا أيام حتى تحول الخلاف إلى صراع مسلح، بين الجيش بقيادة البرهان و"قوات الدعم" بقيادة حميدتي، يدفع ثمنه المدنيون في السودان في كل لحظة، ويزداد الوضع الإنساني سوءا بسبب صراع الرجلين على السلطة.

وكما هي العادة، فالعسكر قادرون على كتابة مجلدات ليقولوا إن الحرب فُرضت عليهم وإن هدفهم الأول والأخير هو مصلحة البلاد والعباد، علما أن مَن يدفع ثمن مغامرات العسكر وطمعهم في جمهوريات الانقلابات العسكرية هي البلاد وعبادها.

اقرأ أيضا: أدباء ومثقفون: نعيش حصاد "الغولة السودانية"

تحول الخلاف بين البرهان وحميدتي إلى صراع مسلح، بين الجيش و"قوات الدعم"، يدفع ثمنه المدنيون في السودان في كل لحظة، ويزداد الوضع الإنساني سوءا بسبب صراع الرجلين على السلطة. 

بدأ حميدتي حياته كتاجر إبل ليصبح زعيماً لجماعة "الجنجويد" المسلحة التي سحقت المعارضة المتمردة في دارفور بإيعاز من البشير، من ثم أصبح ضابطا برتبة فريق أول في السودان، والرجل الثاني في الدولة. فكيف يمكن لمن شارك في مجازر دارفور، التي راح ضحيتها أكثر من 300 ألف مدني، أن يكون شريكا في التحول الديموقراطي المدني في البلاد؟

كيف يمكن لميليشيا مسلحة أن تقبل الاندماج بالجيش وتكون تحت إمرة الجيش، وهي التي كانت تسرح وتمرح على مدى أعوام دون رقيب أو حسيب، وخصوصا مع الثروات الهائلة التي يملكها السودان وتحديدا من الذهب، الذي تحول إلى ثروة يملكها حميدتي بينما يعاني السوداني من الفقر والحاجة؟

وكيف يمكن أن يصدق السودانيون أن حميدتي نفسه يدافع عن الديموقراطية والدولة، وهو الذي يرفض الخضوع لمنطق الدولة؟

كيف يمكن لمن شارك في مجازر دارفور، التي راح ضحيتها أكثر من 300 ألف مدني، أن يكون شريكا في التحول الديموقراطي المدني في البلاد؟ كيف يمكن لميليشيا مسلحة أن تقبل الاندماج بالجيش؟ لكن هذا لا يعني أن البرهان هو من يقاتل من أجل الديموقراطية، فالقتال في السودان هو صراع على السلطة ومنافعها.

ولكن هذا لا يعني أن البرهان هو من يقاتل من أجل الديموقراطية، فالقتال في السودان هو صراع على السلطة ومنافعها، وقتال من أجل غنائم خيرات السودان من ذهب وموانئ وغيرها، ولكن يبقى انتصار الجيش على الميليشيا خطوة أولى في سبيل خلاص السودان، علما بأن تحقيق ذلك لا يبدو قريبا.

لا تعفي مسؤولية العسكر عن خراب السودان، التيارات السياسية والأحزاب من المسؤولية، وبعضها يتغنى بأنها أحزاب عريقة. ففي بلد متنوع إثنيا وعرقيا ودينيا مثل السودان، وجدت الأحزاب السياسية ضالتها في العسكر للوصول إلى السلطة، حيث عملت الأحزاب على استخدامهم في صراعاتها السياسية بعضها ضذ بعض، حتى جاء وقت خرج فيه العسكر من أكمام السياسيين ليلعبوا لعبتهم الخاصة، بعدما ذاقوا حلاوة السلطة. وربما كان مثل حسن الترابي الذي وظف عمر البشير لإطاحة خصومه خير دليل على ذلك، حيث كان الترابي أول ضحايا البشير بعدما تنعم الأخير برغد السلطة البائسة في الخرطوم.

فمن أخرج الجيش من ثكنه؟ ومن غيّر وجهة السلاح؟ وكيف صارت مهمة الجيوش في جمهوريات عربية أن تحارب الشعب؟ بعد أعوام وأعوام، لا يزال صدى سؤال الصحافي الشهيد سمير قصير يتردد في جميع أرجاء المنطقة "عسكر على مين؟".

font change