أدونيس: العُلا أرضُ الجمال الخارق

تحدث إلى "المجلة" بعد زيارته السعودية

Oriana Fenwick

أدونيس: العُلا أرضُ الجمال الخارق

في المملكة العربية السعودية التي زارها الشاعر العربي الكبير أدونيس، وأقام فيها سلسلة من الندوات والأمسيات الشعرية في عدد من المدن السعودية، لقاء متجدّد بين أحد رموز الحداثة العربية وما يعتبره "جزءا عضويا من الأرض التي أنتمي إليها حضاريا"، على حدّ قوله لـ "المجلة". استقبال أدونيس الحافل والحاشد، من قبل مثقفين وشعراء ومهتمين وقراء، يدلّ على المكانة الكبيرة التي يحتلها في ذاكرتهم ووعيهم بوصفه أحد المجدّدين في القصيدة العربية، وفي الوقت نفسه صاحب النظرة الخاصة والعميقة للإرث العربي الشعري. خلال هذه الزيارة تسنى لأدونيس أيضا القيام بجولة في "العلا" التاريخية، حيث سجّل دهشته الشعرية والإنسانية العالية أمام هذا الأثر الحضاري.

انتماء حضاري

ماذا تعني لكَ هذه الزّيارة إلى المملكة العربية السعودية؟

عليّ أوّلاً أن أُذكِّر، خصوصاً أولئك الذين ينسون أو يتناسون، لسبب أو آخر، أنّني لا أُماهي بين الشعوب والأنظمة، أو بين الثّقافة والسّياسة. وأنّ الأرضَ التي زرتُها، مهما كانت أحوالُها، ماضِياً وحاضِراً ومستقبلاً، جزءٌ عضويّ من الأرض التي أنتمي إليها، حضاريّاً ــ طبيعةً وثقافةً، كينونيّاً وإنسانيّاً، وَحْياً ونُبُوَّةً، وأنّها امتدادٌ لجسديّة الأرض التي هي "أوّل أرضٍ مسَّ جلدي ترابُهاً"، كما يعبِّر شاعرٌ قديمٌ من أسلافي الشّعراء.

أذكّرُ أيضاً أنّني كنتُ "بعيداً" عنها، بقوّة ظلامٍ ليس منها، ويتناقض كلّيّاً مع جوهرها العميق المؤسِّس. هكذا كنت أشعر أنّ في كينونتي، وفي لغتي التي أُفصِحُ بها عن هذه الكينونة، نشأةً وحياةً ومَصيراً، شيئاً يسجنُ كينونتي نفسها. كيف لا أفرح إذاً، عندما أرى أنّ هذه الأرض بدأت تخرج من قيودها وسجونها، وبدأت تفتح أبوابَ الحرّيّة، وآفاقَ الضّوء ومعارِجَ الانعتاق، وأخذَتْ تُمَهِّد الطُّرُقَ لتحقيق هذا كلِّه؟ خصوصاً أنّ هذه الأرض أصلٌ أوّل بين الأصول العظيمة الأولى التي أضاءت العالم، وشاركت في بنائه ــ إنسانيّاً وحضاريّاً.

كيف لا أفرح إذا، عندما أرى أنّ هذه الأرض بدأت تخرج من قيودها وسجونها، وبدأت تفتح أبوابَ الحرّيّة، وآفاقَ الضّوء ومعارِجَ الانعتاق، وأخذَتْ تُمَهِّد الطُّرُقَ لتحقيق هذا كلِّه؟

نشوة عالية

كيف ترى إلى اللقاء بالوسط الثّقافيّ وإلى الحوار معه؟

كان هذا اللقاء جسراً يتلألأ ويتمَوَّج في نَشْوةٍ عاليةٍ من الاستبصار والتّأمُّل والتّساؤل.

والمَدار في هذا كلّه يتمثَّلُ، من ناحية، في ما طابَ لي أن أسمّيه بـ "القارّة العَموديّةً" لِما تكتنزُهُ من أسرارٍ وطاقاتٍ، تتمَثَّلُ، حضاريّاً في منطقة العُلا الساحرة، الخارقة، ــ حيث نرى إلى الصّخورــ الجبال نفسها، تتعانق، أو تتكاتَف، أو تتخاصَر كأنّها كائناتٌ حيّةٌ تتناثر على الأرض ويلتبِسُ علينا أمرُها: هل صعدت من التّراب إلى الفضاء، أم هبطت من الفضاء لكي تُعانِق التّراب وتتَأصّلَ  فيه!

من ناحيةٍ ثانية، يتمثَّلُ هذا المَدار في الأجيال الشّابّة، وبخاصّةٍ المرأة وعالَم الأنوثة.

 إنّها أجيالٌ آخِذَةٌ في افتتاح آفاقٍ جديدة، نَظَراً وعَمَلاً، وفي بناء ثقافةٍ جديدة، وتكوين عالَمٍ إنسانيٍّ جديد.

أدونيس متحدثا في الرياض عن إرث وحضارة المملكة العربية السعودية

إنّهم جميعاً، وبشكلٍ أخَصّ المرأة، ينابيع تتفجّر، وفضاءات عالية تتأسَّس، وجسورٌ جديدة لفهمٍ جديد، تُبنى بين الحاضر والماضي، وبين الذّات والآخر، وبين المَرئيّ واللامَرْئيّ، المَعلوم والمَجهول، كأنّما تُضيئهم في هذا كلّه، كلمة للفيلسوف الكبير الفارابي: "كلُّ مَوجودٍ في ذاتِهِ فذاتُهُ له، وكلُّ  موجودٍ في آلةٍ فذاتُهُ لغيره".

إنها أجيالٌ  تشكِّلُ عالَماً آخر، ليس شرقيّاً وليس غربيّاً. ليس استعادةً لِما مضى، وليس استعارةً من الأجنبيّ المستعمر.

عالَمٌ يسير في اتّجاه الاستقلال والفَرادة، لكن في انفتاحٍ على الآخر، شرقاً وغَرباً، نِدّاً لنِدٍّ، بالمعنى العميق الخلاّق، الذي يقوم على المُشارَكة، بخصوصيّاته وفَراداتِه، في بناء الإنسان والعالم، على المستوى الكونيّ، وفيما يتخَطّى التَّبَعيّةَ في مختلف أشكالها، خارجاً وداخِلاً.

 الأجيال الشابة في السعودية، وبشكلٍ أخَصّ المرأة، ينابيع تتفجّر، وفضاءات عالية تتأسَّس، وجسورٌ جديدة لفهمٍ جديد، تُبنى بين الحاضر والماضي، وبين الذّات والآخر، وبين المَرئيّ واللامَرْئيّ، المَعلوم والمَجهول

معنى الشعر

ما معنى أو مكان الشعر في هذا كلّه؟ 

الاحتفاء بالشعر هو في هذا كلّه إشارةٌ أو فاتحة:

إنّه، كما كان في الأصل، مع شعراء الجزيرة العربية الأوائل، احتفاءٌ بالكينونة ــ بالإنسان الذي خُلِقَ على صورة الخالِق.

الشّعرُ أصلٌ، ليس على الأرض وحدها، وإنّما هو كذلك، أصلٌ في التاريخ. إنّه أصلٌ مزدَوِجٌ: أفقيّ وعموديّ. لا في اتّجاهٍ واحد، وإنّما هو أصلٌ في الاتّجاهات المتعدِّدة، العالية، المتنوِّعة، الخلاّقة.

ونعرف جميعاً أنّ التّاريخَ الثّقافيّ في العالم العربيّ الإسلاميّ، يتمحوَر أساسيّاً على قطبين: الدّينيّ والشّعريّ.

وأنا شِبهُ واثِقٍ أنّ التّكامُلَ بين هذين القطبين آخِذٌ في التّأصُّل، وأنّ ثقافة الهيمنةَ الذّكوريّة تستيقظ وتَعي بأنّ عالم الأمومة ـــ الأنوثة، هو الأرض ــ المَهْدُ ــ الحاضِنة، وأنّ عالمَ الذّكورة لا يوجد في ذاته حقّاً، خارجَ كلّ آلةٍ أو آليّةٍ، إلاّ إذا كان ولادةً تتجدّد باستمرارٍ في أحضان الأنوثة ــ الأمومة.

font change

مقالات ذات صلة