في ان السياسة تختلف عن "الأغاني الفارسية"

في ان السياسة تختلف عن "الأغاني الفارسية"

لو أزيل اسم زعيمة تنظيم "مجاهدي خلق" الإيراني المعارض مريم رجوي عن "خطة النقاط العشر لمستقبل إيران"، التي طرحتها نيابة عن الحركة مؤخراً، لِما اعتبرته رؤية سياسية استراتيجية شاملة، لتيارها والعديد من القوى السياسية الإيرانية المعارضة المتحالفة معها. لو أزيل اسمها عن ذلك الإعلان، فإن تلك النقاط العشر ستغدو صالحة لأي دولة أخرى.

ففي ظل كل ما شهدته إيران داخليا خلال السنوات الماضية، ما المفيد في رؤية استراتيجية تقول أشياء من مثل "نعم لحكم الشعب"، و"العدل والنظام القضائي المستقل"، و"حماية الطبيعة وإعادة البيئة آمنة"، و"إيران غير ذرية"؟

المضمون السياسي حسب هذا الخطاب، يبدو خالياً من أي عمق أو وعي تاريخي بحقائق أوضاع إيران وماهية نظامها الحاكم وبنيته الداخلية وامتداده وعلاقاته الإقليمية، وأنماط الحكم ونوعية النظام السياسي داخلياً وخارجياً، وشبكة وشائجه مع المجتمع الإيراني، وكل شيء آخر مرتبط به. وتالياً خلو هذا الخطاب من الآليات المناسبة للتعامل وتفكيك كل هذه التفاصيل. حسب ما يجب أن تفعله أية قوة معارضة في العالم، أو أن يمارسه أي فاعل سياسي كان.

لا تخص هذه النوعية من البرامج المطروحة لمستقبل إيران هذا التنظيم السياسي الإيراني فحسب، وإن كان هو الأكثر زخماً وحضوراً، شعبياً داخل إيران، عبر مؤسساته الإعلامية والدعائية، أو حتى شبكة علاقاته الدولية. فمختلف القوى السياسية الإيرانية مصرة على الانزياح إلى تلك الرؤى التي تجمع المثالية الخطابية الفوقية مع كثير من التجريد السياسي، وتالياً الإصرار على تأجيل أي ملف أو قضية حساسة إلى حينٍ غير معلوم، مهما كانت درجة حيوية تلك المسائل أو مستويات حضورها ومسها بعصب النظام الحاكم.

ثمة إصرار على ذلك، وإن كان على حساب فقدان المصداقية والجاذبية. فالإيرانيون في الداخل يعرفون ويحسون حقيقة أوضاعهم أكثر من أي تنظيم سياسي، لأنهم يجربون تفاصيل قضاياهم العالقة من خلال تجاربهم اليومية. وهو أيضاً أمر لا يناسب القوى الإقليمية والدولية في الخارج، التي تعرف النظام الحاكم بذات الدرجة.

هذه القضايا، ومثلها أخرى كثيرة، وإن كانت قضايا مهمة للغاية في طبيعتها، لكنها ليست جوهر الخلاف مع النظام الحاكم، الذي يملك ترسانة كبرى من تلك الشعارات والخطابات المطابقة لما تطلقه المعارضة، والذي لا يمكن ضبطه ومحاسبته عليها بأي شكل. فهي فعلياً تكاد أن تكون خطابات غنائية تناسب مقدمات الدساتير، المتطابقة دون مصادفة، بين دساتير أكثر الدول ديمقراطية والأكثر استبداداً.

مختلف القوى السياسية الإيرانية مصرة على الانزياح إلى الرؤى التي تجمع المثالية الخطابية الفوقية مع كثير من التجريد السياسي، وتالياً الإصرار على تأجيل أي ملف أو قضية حساسة إلى حينٍ غير معلوم

بهذا المعنى، ترتكب قوى المعارضة الإيرانية الخطأ الفادح الذي جربته نظيراتها السورية، على سبيل المثال لا الحصر. التي حاولت على الدوام قول الأشياء دون مضامين حقيقية، تكشف جوهر الخلاف مع سلطة بلادها، وتأجيل كل ما قد يكون ثمة خلاف ما بشأنه. وتالياً فقدان الجاذبية من طرف، وخسران أي جدال ومفاوضات سياسية داخلية من طرف آخر، سواء مع القوى السياسية النظيرة، أو بين هذه القوى والمجتمع الإيراني. 


ففي إيران مثلاً، يجب على أية معارضة حقيقية لهذا النظام أن تُجيب على السؤال المتعلق بالبرنامج الخارجي لأي نظام إيراني: فهل إيران دولة ذات سيادة ضمن حدودها الدولية فحسب، أم كيان إمبراطوري نازع الى الهيمنة على محيطه على الدوام؟ هذا التفصيل الذي لم يكن حكراً على النظام الإيراني الحالي، بل سبقه إليه نظام الشاه محمد رضا بهلوي وأبيه من قبله، وما كان السلاطين القاجاريون أفضل حالا منهم. 


فالتحديث والقطيعة التاريخية التي من المفترض أن تتطلع هذه المعارضة الإيرانية إليها لأجل بلادها، من المفترض أن تحمل رؤية تنتشل هذه البلاد من جوهر ومنبع مأساتها الدائمة، ألا وهو التمدد إلى خارج حدودها والتدخل في شؤون جيرانها، عبر نهج سياسي يمت بالصلة إلى ممالك القرون الوسطى أكثر من أي كيان حديث. 
الأمر الآخر يتعلق بتعريف الكيان الإيراني لنفسه، لكن داخلياً. فتكوين إيران ككيان ذي هوية واحدة، سواء دينية طائفية أو عرقية قومية، لم يعد يشكل ممراً إلى أي دولة أو نظام سياسي مستقر وقابل للتحديث. فالدولة الإيرانية المنبعثة من كيان إمبراطوري تاريخي، كانت قائمة على الدوام على طيف من المجتمعات الطائفية والقومية المتنوعة، التي تملك وعيا سياسيا وثقافيا بذاتها، لا يمكن خلق الاستقرار والتعاقد الاجتماعي معها إلا بواحد من شكلين: إما القسر، وهو ما جربه هذا النظام ومن قبله أنظمة أخرى كثيرة، ولم يؤدِ إلا إلى بحر من الدماء. وإما التوافق والاعتراف، وتالياً ضرورة خلق كيان غير مركزي تماماً، مبني على أنواع من الفيدراليات وأشكال الحكم المحلية، يختص فيه المركز ببعض القضايا العابرة للهويات، مثل النقد والسياسة الخارجية والسيادة الوطنية على الحدود.
 

على أية معارضة حقيقية أن تُجيب على السؤال المتعلق بالبرنامج الخارجي لأي نظام إيراني: فهل إيران دولة ذات سيادة ضمن حدودها الدولية فحسب، أم كيان إمبراطوري نازع الى الهيمنة على محيطه على الدوام؟

على نفس المقياس، فإن "إيران غير ذرية"، لكن المالكة لترسانة ضخمة من الصواريخ البالستية والصناعات العسكرية والمتعاقدة مع كثير من الفصائل المسلحة في مختلف دول المنطقة، يكاد أن يكون شعارا دون أي معنى. لأن إيران لا يمكن أن تكون مطمئنة لأي طرف إقليمي أو دولي، وتالياً فاقدة لأية إمكانية لتلقي المساندة والدعم لعبور أشكال المحنة التي تحيط بها، طالما بقيت كياناً مستفزاً، سواء أكانت نووية أم لا.
يقف خلف كل هذه التفاصيل، ومثلها الكثير من الأشياء الأخرى، ذلك الاعتقاد الداخلي الذي من المفترض أن تحمله أية معارضة لكل نظام سياسي في العالم: هل هي جهة سياسية تحمل برنامجاً لإجراء تحولٍ في أساسيات الحياة؟ أم مجرد فرقة موسيقية تنتج أفضل الألحان، التي تُطرب الجميع، بما في ذلك النظام الذي تعارضه نفسه!
 
 

font change