لبنان الانفصام والانقسام

لبنان الانفصام والانقسام

بيروت التي تجولتُ في شوارعها متفقدا أهلي وناسي بعد غياب، وجدتُها منحنية الظهر تعاني سكرات التكيف المجنون مع الآلام المبرحة، كالعادة، رافضة أن تنكسر، على رغم هول الضربات المتتالية التي تتلقاها منذ نحو نصف قرن.

كل شيء فيها ينبئ بالشروخ والأعطاب والكدمات وبعمق الانفصام والانقسام بين اللبنانيين؛ من الرواتب المجزأة والليرة المهيضة الجناح، الى زحمة المقاهي والسوبر ماركت ومحال الحلويات والمولات، مرورا بالطرق المزدحمة بالسيارات، على رغم ملامسة سعر صفيحة البنزين المليوني ليرة، وليس انتهاء بالانقسام في شأن اللاجئين أو النازحين السوريين موضوع الساعة، الذي يتفنن اللبنانيون في إلقاء تبعاته على "الآخرين"، كالعادة أيضا، متناسين مساهمتهم "الباهرة" والفاعلة جدا فيه، ومسؤوليتهم التاريخية في هذه القضية بالذات، كما سابقاتها، بسبب تقاعس الحكام وربما لإفادتهم منها، كلٌّ على طريقته.

من السذاجة بمكان النظر الى الشأنين الاقتصادي والاجتماعي في البلاد من زاوية المشاهد الخادعة لمقاهي المدينة وحاناتها ومطاعمها التي تحيّر المقيمين والزائرين

الانفصام اللبناني تراه في وسائل الاعلام، وأكثر بشاعة في وسائل التواصل الاجتماعي بين مواطنين غاضبين، وآخرين حاقدين، وأناس لا يستحون، تعشش في أدمغتهم أمراض "الشو أوف" -الاستعراض الفارغ- والحماقة التي لا لقاح لها. تراه في المستشفى حيث يتجلى المسلخ البشري في أبشع صوره، وترى هذا الانفصام في المختبرات الطبية والصيدلانية، وفي المقاهي المتلاصقة والطرق والشوارع المتجاورة في آن واحد. وها هو الاستشفاء حكر على الميسورين فقط باعتراف رئيس نقابة أصحاب المستشفيات، الذي يؤكد ان ما يصل إلى نصف اللبنانيين لا يتطببون أصلا!

السذاجة والسماجة الاقتصادية في لبنان

من السذاجة بمكان النظر الى الشأنين الاقتصادي والاجتماعي في البلاد من زاوية المشاهد الخادعة لمقاهي المدينة وحاناتها ومطاعمها التي تحيّر المقيمين والزائرين، ولعل في مشهد الازدحام الخانق للمسافرين في مطار بيروت في الأمس، وهم يعودون متجهمي الوجوه عابسين غير مبتسمين الى مختلف بلدان لجوئهم ونزوحهم بعد عطلة الأعياد (الفصح والفطر)، ما يفسر بعض هذه المظاهر، على الرغم من الأزمة الاقتصادية والمعيشية غير المسبوقة بأنواعها المختلفة والمركبة في لبنان! لكن مهلا، يؤكد المقيمون الصامدون ان "التطبيع الاقتصادي والمعيشي والطبقي" الذي يعيشه اللبنانيون، صار قاب قوسين أو أدنى من اكتمال دورته الاقتصادية الكاملة بالأموال النقدية "الكاش" أو بحسابات "الفريش الدولار" (أي تلك التي فتحت بالدولار في المصارف حديثا غير الحسابات العالقة والمستنزفة منذ أكتوبر/تشرين الأول 2019)، فيما "هياكل مصرفية" تنتظر أجلها، ويطلق عليها صحافيون وخبراء "مصارف الزومبي"، ومواطنون يثابرون على التكيف مع الذلّ والألم والجوع والقهر، قسم منهم ينجح ومنهم من يقضي نحبه وهو يكافح ويحاول!

من السذاجة أيضا تناول الوضع الاقتصادي وأزماته المثلثة، ماليةً عامة ونقدا ونظاما مصرفيا، ومعه ودائع الناس المسروقة، من الزاوية الاقتصادية الصرف، أو بالأرقام التي لم يعد لها أي معنى في لبنان، البلد الذي لطالما كان الرقم فيه وجهة نظر.

من السماجة، الاستماع إلى رهط ممن يُسمَّون خبراء اقتصاديين، يرغون ويزبدون على الشاشات في تحليلات ونظريات مستوردة لا تتصل بالوقائع السياسية والأمنية والمالية والإجتماعية، في وقت بات جل الشعب اللبناني صرافا متجولا بين المتاجر ومحطات الوقود، ولا مفر له من دفع جزية الكهرباء الشهرية لصاحب المولد (المندوب السامي للزعيم في منطقته و/أو الميليشيا في إشراف منسق للحزب الحاكم).

من العبث الركون الى أي تحليل، فيما المواطن مقسوم بين راتب بالليرة، مسنود بما يسمى "منصة صيرفة"، فيما مدخرات جنى عمره مصادَرة، أو مرفود بمدخول بالدولار من أبنائه واقربائه في المغتربات، أو محظوظ تمكن من العثور على مدخول خارجي بالدولار.

قبل هذه الفئات، هناك محظيو زعماء الطوائف السعداء ولا سيما قوم "حزب الله" ومواليه وأبواقه من "أهل الممانعة" وأصحاب الرواتب والمداخيل المستقرة بعملة "الشيطان الأكبر" والكبتاغون، في وقت ذهبت أدراج الرياح كل دعوات انتاج النعناع والفجل على الشرفات وتصديره شرقا. أضف الى ذلك كله، ما يخبرك به السائق والجارة بتعجب أو ثناء، بأن كل عنصر في الجيش اللبناني وقوى الامن الداخلي تصله معونة شهرية بنحو مئة دولار من الولايات المتحدة وبالتعاون مع برنامج الامم المتحدة الانمائي، أي ما يمثل أضعافا مضاعفة لراتبه بالليرة، علما بأن دوام العاملين في الوزارات والادارات الرسمية لم يعد يتجاوز فعليا ثلاثة أيام في الاسبوع.

الانفصام اللبناني تراه في وسائل الاعلام، وأكثر بشاعة في وسائل التواصل الاجتماعي بين مواطنين غاضبين، وآخرين حاقدين، وأناس لا يستحون، تعشش في أدمغتهم أمراض "الشو أوف" -الاستعراض الفارغ- والحماقة التي لا لقاح لها

الكتلة النقدية بين السودان ولبنان

في غياب الأرقام والاحصاءات والدورة الاقتصادية الطبيعية أصلا، ليس من المستبعد أن تكون نسبة الكتلة النقدية المتداولة خارج النظام المصرفي قد أصبحت على مستوى تنافس فيه مثيلتها في السودان حتى ما قبل اندلاع الصراع الحالي قبل أسبوعين، أي أكثر من 90 في المئة.


المشهد سوريالي بامتياز؛ الدولار الواحد يساوي مئة ألف ليرة لبنانية، وهي أعلى فئة نقدية ورقية متوافرة حاليا، أسعار المحروقات والرغيف والدواء وفواتير الاستشفاء... كلها تنبئ بأن طباعة الورقتين النقديتين من فئتي الخمسمئة ألف ليرة والمليون ليرة صارت قريبة، مع ما يعنيه ذلك من تفاقم للتضخم وانتفاخ للكتلة النقدية بنحو مئة تريليون ليرة، ارتفاعا من ستة تريليونات فقط قبل انهيار كل شيء في اكتوبر/تشرين الأول 2019.

"الدولرة" الكاملة مطبقة، في وقت يسابق لبنان زيمبابوي في معدلات التضخم، وتفيد آخر أرقام الاحصاء المركزي اللبناني بأن مؤشر الغلاء وارتفاع الأسعار بلغ 264 في المئة في مارس/آذار الماضي كمعدل سنوي. وفي أسوأ تفاصيل المؤشر، ارتفع بند الصحة بنسبة 374 في المئة، مما يعكس ربما المعدلات المرتفعة للوفيات أخيرا. التسعير في السوبر ماركت ومحطات المحروقات يتم بالدولار، بتغطية رسمية من وزارة الاقتصاد في "لبنان الممانع"، ولا تقل جزية الكهرباء لأصحاب المولدات عن مئة دولار شهريا لكل 5 أمبير فقط بمعدل 15 ساعة تغذية توزع على مدار اليوم.

المصارف تزيد تحصيناتها الحديدية الشاهقة وتسوّر فروعها، التي تقفل وتتراجع باضطراد لمصلحة المرابين والدكاكين وتجار الشنطة و"القرض الحسن". تفتح وتعمل بين إضراب وآخر بحسب إيقاع الأحكام القضائية في حق بعضها، والدعاوى القضائية الأوروبية المرفوعة عليها وعلى حاكم مصرف لبنان المركزي، ناهيك بموجات تحطيم واجهاتها ونوافذ صرافاتها الآلية من يائسين مندفعين أو مدفوعين.

تحذير أوروبي أخير وخطير

في منتصف السنة الرابعة على بدء واحدة من ثلاث أسوأ أزمات اقتصادية عرفتها البشرية منذ القرن التاسع عشر، وبعد مضي سنة بالتمام والكمال على الاتفاق المبدئي الذي لم ينفذ مع صندوق النقد الدولي في أبريل/ نيسان 2022 المنصرم، وبعد تحذيرات متصاعدة للصندوق والبنك الدوليين وجهات دولية أخرى، ها هم سفراء فرنسا وألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا واليابان والاتحاد الأوروبي في بيروت، يصدرون قبل أيام تحذيراً مشتركاً من مغبة تأخير الاصلاحات ومن الأخطار المحدقة بالاقتصاد واللبنانيين، الأمر الذي يقتضي تحركا سريعا وحاسما وإلا "سيغرق لبنان في أزمة لا تنتهي"، مع تذكيرهم بأن "الأزمة اللبنانية هي إحدى أسوأ الأزمات في التاريخ المعاصر".

لكن لا شيء يؤمل من القلق الدولي، فالتهرب من الحلول سمة مجلس النواب والحكومة وكل الفاعلين واصحاب القرار الفعليين في البلد، اي "حزب الله"، بحجج خرافية شتى لم تعرف كل أزمات اقتصادات الدول مثيلا لها، ومنها اليوم انتظار انتخاب رئاسة الجمهورية اللبنانية التي لن تقدم ولن تؤخر الا في ضمان أن تبقى المناصب المارونية في البلاد للطائفة، ولشخصيات موالية للطبقة الحاكمة، ومنها منصب حاكم مصرف لبنان الذي سيشغر في يوليو/تموز المقبل.

لا ريب أن التاريخ الاقتصادي اللبناني والعالمي سيسجل أن ما حصل في لبنان من نهب منظم لجميع اللبنانيين، وما تلاه من حفر في جروح الأزمة واستنفاد أموال المودعين وما تبقى من احتياط الدولار والعملات الأجنبية لدى المصرف المركزي، وانعدام الشعور بالمسؤولية الوطنية منذ ثلاث سنوات وستة أشهر، هو من أبشع الجرائم الجماعية المتسلسة والمتمادية.

... إنها "تباشير" آخر الأزمنة، تُدَقّ أجراسها المنذرة وتُسمَع في كل مكان، لكن لا أحد يهبّ ليستجيب. فعلى من تقرأ مزاميرك يا داود؟

font change