كيف صرنا نفرّ من أميركا بدلا من الفرار إليها؟

بات إرسال طفلك إلى المدرسة مجازفة كبرى

Nathalie Lees
Nathalie Lees

كيف صرنا نفرّ من أميركا بدلا من الفرار إليها؟

نشأت في أميركا على فكرة أنني لا ريب أعيش في "أفضل" بلاد العالم. وقد تولّد عندي هذا اليقين من خلال المنهاج المدرسي، وعقدي مقارنة بين المكان الذي كنت أعيش فيه والتغطية الإخبارية الخاصة بالشرق الأوسط (وهذه سمة معتادة في معظم المنازل العربية الأميركية).

حفلت طفولتي في الولايات المتحدة بذكريات رائعة عن ارتياد الشاطئ، وأخذ دروس في العزف على البيانو وفي الرقص، ومشاهدة أفضل الأفلام وارتياد أفضل المنتزهات الترفيهية.

قبل أن يغادر والدي بيروت في سن الخامسة والعشرين، كان قد خَبِر بدايات الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة والشاقة والتي استمرت 15 عاما. وكان يروي لي حين بلغت سن الرشد قصصا عن الفظائع التي شهدها، كإعدام الناس بالرصاص في وضح النهار.

AFP
وقفة احتجاجية على ضوء الشموع لضحايا إطلاق النار في مدرسة أكسفورد الثانوية في وسط مدينة أكسفورد بولاية ميشيغان في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2021.

زرت لبنان بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب الأهلية. وعلى الرغم من أنني كنت في التاسعة من عمري فقط، فإن ركام الأنقاض والقمامة في أماكن المباني ما زال يرتسم في مخيلتي على نحو جلي، أما ما تبقّى من تلك الأبنية فكان جميعها مشوّها بآثار القذائف والرصاص. لقد كانت تلك الزيارة بمثابة صدمة قوية وتناقض مدهش مع حياة الرغد والأمن التي كنت أعيشها في ولاية فلوريدا.

دأبنا، بعد تلك الزيارة، على زيارة لبنان كل بضع سنوات. وعلى الرغم من أنني كنت أستمتع دائما بزياراتي تلك، إلا أنني كنت حريصة على العودة إلى "أفضل" بلدان العالم.

أتذكر بوضوح كيف هزت المأساة أميركا بشدة وأطلقت النقاش حول السيطرة على ظاهرة تفشي السلاح في البلاد. ففي حين أن الجريمة كانت منتشرة على نطاق واسع في البلاد، كانت هذه هي أول مرة تشعر فيها "أميركا البيضاء" بعدم الأمان

مجزرة كولومباين والحرب على الإرهاب

كنت في السادسة عشرة عندما وقعت مذبحة مدرسة كولومباين الثانوية، تلك التي صدمت الأميريكيين، إذ رأوا كيف أردى طفلين في تلك المدرسة 12 طالبا وأحد المعلمين في كولورادو.

لكن سرعان ما طغت هجمات11 سبتمبر/أيلول التي حدثت بعد ذلك بعامين على هذا النقاش، وأعقبتها حرب جورج دبليو بوش على الإرهاب. وفجأة، سلّطت دائرة الضوء على "قومي" الذي أنحدر منه، وشعرت للمرة الأولى أنني عرضة للتدقيق لكوني أميركية من أصول عربية.

واصلت هذه الحوادث والحروب العالمية الكبرى تشكيل سنوات تكويني، وكنت أشعر أني بحاجة ماسة إلى التسلّح بالحقائق في محاولتي للدفاع عن "قومي" ضد خطاب الكراهية والتضليل والتمييز. فصممت على معرفة المزيد عن مسقط رأسي في الشرق الأوسط، وهذا بالضبط ما فعلته.

AFP
صلاة على ضحايا إطلاق النار في مدرسة كولومباين الثانوية بالقرب من نصب كولومباين التذكاري في 20 أبريل/ نيسان 2021 في ليتلتون، كولورادو.

فبعد حصولي على درجة الماجستير في دراسات الشرق الأوسط، بتّ توّاقة لإمضاء فترة من الزمن في المنطقة بهدف فهمها على نحو أفضل. وأفضَتْ زيارة مصيرية قمت بها إلى دبي في عام 2008 إلى تغيير حياتي، إذ حصلت على وظيفة في صحيفة لتغطية سياسات الشرق الأوسط.

حروب وإطلاق النار جماعي

بدأ الربيع العربي بعد بضع سنوات من وصولي إلى دبي، وفي حين ذخر العقد التالي بالحروب الملحمية والخسائر والمعاناة المأسوية، فقد كانت تلك المرحلة بالنسبة إليّ تجربة تعليمية لا تقدر بثمن وليس بوسع أي شهادة جامعية أن تعلمني إياها.

انصرم 15 عاما من الزمن سريعا على ذلك، وما زلت في دبي، وما زلت أغطي الأحداث المأساوية نفسها في منطقتنا، وآخرها الحرب في السودان.

لم تتغير حالة الشرق الأوسط كثيرا عما كنت أشاهده في الأخبار من أميركا عندما كنت طالبة جامعية، ولكن الذي تغيّر هو حال أميركا الذي بات من الصعب التعرّف عليه من الناحية العملية.

AFP
إضاءة الشموع خلال مظاهرة خارج مبنى الكابيتول الأميركي بمناسبة الذكرى العشرين لحرب العراق في 15 مارس 2023 في واشنطن العاصمة.

وفيما كنت أعيش في الإمارات العربية المتحدة وأغطي حروب المنطقة، غدا الأميركيون على نحو متزايد ضحايا لحرب أخرى: إطلاق نار جماعي، وحوادث القتل في المدارس، والعنف المسلح.

الأرقام مذهلة. فعدد الأشخاص الذين قتلوا في عمليات إطلاق نار جماعية في الولايات المتحدة يربو عن عدد الأيام التي انصرمت حتى الآن من عام 2023، بمتوسط حادثتين في اليوم. لقد أصبح الأمر في غاية السوء، إلى حد باتت معه حوادث إطلاق النار المأساوية تتلاشى من الأخبار بالسرعة التي تظهر بها.

 

عندما أرى الآباء والأمهات ينتحبون بعد أن فقدوا طفلا في حدث آخر من حوادث إطلاق النار في مدرسة أميركية، تحملني الذاكرة إلى قصص والدي حول الحرب الأهلية في لبنان حيث كان الخروج للحصول على البقالة بمثابة مجازفة بحياتك 

قدر محتوم؟

لقد بات إرسال طفلك إلى المدرسة في الولايات المتحدة بمثابة مجازفة، مشاهدة تدريبات السلامة التي تنظمها المدارس حول ما ينبغي القيام به في حال وقوع إطلاق نار مباشر في الحرم أمر يثير الحزن ويشوش العقل. وفي غضون ذلك، يصرّ السياسيون الأميركيون على غضّ  الطرف عن أمة تعاني ألما دفينا، وهم يخشون غضب لوبي السلاح. 

هل هذا هو نفس البلد الذي ترعرعت فيه؟ هل هذا أفضل ما يمكن أن تقدمه أميركا؟ هل حقا هي "أفضل" دولة في العالم؟

وقياسا على طفولتي التي نشأت فيها في أميركا، لا أستطيع أن أتخيل نفسي أعود إلى هناك وأرسل طفليَّ الصغيرين إلى المدرسة في وقت لا أعرف ما إذا كانا سيعودان حقا.

ويا لها من سخرية أن يكون والدي هرب من الشرق الأوسط إلى أميركا لضمان تنشئة أطفاله بأمان، وأنا الآن مصممة على تربية أطفالي في الإمارات العربية المتحدة حيث لا أخاف من إرسال أولادي إلى المدرسة.

في الوقت الذي أراقب فيه عن بُعد وبحزن حوادث مأساوية تجري في "أفضل بلدان العالم" يلحّ عليّ سؤال: هل عنف الأسلحة هو قدر أميركا المحتوم، مثله تماما كمثل ميل الشرق الأوسط للحرب؟

font change

مقالات ذات صلة