سبعون عاما... مملكة بين اقتصادين

واقع الاقتصاد البريطاني يوم تتويج الملك تشارلز الثالث

سبعون عاما... مملكة بين اقتصادين

سبعون خريفا بين تتويج وآخر، بدأت كما انتهت، تلملم فيها المملكة المتحدة أزماتها الاقتصادية في أعقاب حروب شاركت فيها أو فُرضت عليها. سبعة عقود من حكم الملكة المحبوبة اليزابيث الثانية، الأطول في تاريخ المملكة، شهدت فيها بريطانيا فترات الازدهار والكساد، وصدمات النفط، والحروب التجارية، وسطوع فجر التخصيصية والقطاع الخاص مع حقبة مارغريت ثاتشر المزدهرة، واضطراب العملة، والأزمات المالية، والانضمام الى الاتحاد الاوروبي ومن ثمّ الانسحاب منه، "بريكست"، لكنها لم تزعزع مكانة المملكة المتحدة كقوة عالمية صلبة لها قرارها ومرجعيتها، إذ حافظت على ثباتها في عالم شهد ويشهد تغييرات هائلة في الخرائط والسياسة والاقتصاد وصولا اليوم الى الذكاء الاصطناعي.

يأتي تتويج الملك تشارلز الثالث في وقت تعاني المملكة المتحدة، كغيرها من الدول الأوروبية، من تداعيات حرب أوكرانيا، وقبلها جائحة كوفيد-19، حيث كان طريق التعافي طويلا وبطيئا، تمخض عنهما ثمن باهظ ومعدلات تضخم مرتفعة تخطت العشرة في المئة، الأعلى منذ أربعة عقود، وأكلاف معيشية غير مألوفة دفعت البريطانيين الى الفقر والمعاناة والاضرابات العمالية المتواصلة وتدني مستوى الخدمات الصحية والتعليمية خصوصا.

وبعد أسوأ أزمة مالية مرت بها بريطانيا عام 2008 حين انخفض النمو الاقتصادي الى أدنى مستوى له منذ 250 عاما، لا يبدو جليا حتى اللحظة الأثر الإيجابي لخروج البلاد من الاتحاد الأوروبي، "بريكست"، فاقتصاد المملكة، ثاني أكبر اقتصاد في أوروبا بعد ألمانيا، أضحى يكافح لمواكبة فرنسا وإيطاليا.

لم تقل حماسة البريطانيين والمتابعين في العالم أجمع لمواكبة حفل التتويج الاسطوري، على الرغم من التقشف الطاحن الذي تعيشه غالبية البريطانيين والذي يجبر عددا متزايدا منهم على الاعتماد على بنوك الطعام لتغطية نفقاتهم.

أعباء ملكية

على الرغم من ذلك كله، لم تقل حماسة البريطانيين والمتابعين في العالم أجمع لمواكبة حفل التتويج الاسطوري امس، والمشاركة في الاحتفالات اليوم وغدا، ولا من كون الملك تشارلز أقل شعبية من والدته. إلا أن القصر الملكي لم يسلم من الانتقادات بسبب الفاتورة الباهظة لحفل التتويج (قد تصل الى 100 مليون جنيه استرليني) في ظل التقشف الطاحن الذي تعيشه غالبية البريطانيين والذي يجبر عددا متزايدا منهم على الاعتماد على بنوك الطعام لتغطية نفقاتهم. 

لكن في المقابل، تشير التقديرات الى حصول الاقتصاد على دفع ايجابي في المناسبة السعيدة عموما على المدى طويل الأجل، وقد يتخطى آنيا مليار جنيه إسترليني خلال عطلة نهاية الأسبوع الجاري بحسب الرقم المتداول، تقابلها تقديرات ارتفاع تكلفة الاقتصاد البريطاني بأكثر من مليار دولار تمثل خسارة في الانتاج عن كل يوم عطلة رسمية بحسب "برايس ووترهاوس كوبرز". وذكرت صحيفة الـ "دايلي ميرور" أن المستهلكين سينفقون نحو 1,76 مليار جنيه اضافية خلال العطلة (87 جنيه لكل فرد).

 كذلك، تطال الملكية البريطانية انتقادات حول الأعباء التي تكبدها للاقتصاد البريطاني، في مقابل مردرد محدود، وكانت دراسة أجرتها شركة "براند فاينانس" للاستشارات عام 2017 قدرت فيها مساهمة العائلة المالكة في الناتج المحلي الإجمالي بـ1,7 مليار دولار سنويا، ما يجعل الملك تشارلز يضع في حسابه خطة لتقليص حجم مصاريف العائلة المالكة وحاشيتها، على مدى الأشهر والسنوات المقبلة، وفقا لأندرو روبرتس، المؤرخ والأستاذ في "كينغز كوليدج"، خفضا للتكاليف ومراعاة لواقع البلاد الاقتصادي.

بريطانيا تصارع تضخما من رقمين، واضطرابات عمالية متواصلة واسعة النطاق، وتحتسب انكماش اقتصادها بين فصل وآخر وإغلاق وآخر، ووفقا لصندوق النقد الدولي، من المتوقع أن يتقلص الناتج المحلي الإجمالي في المملكة المتحدة بنسبة 0,3 في المئة في 2023

ملك البيئة 

لربما تحمل الحقبة الملكية الحالية شبها بين اليوم والأمس. فعندما اعتلت الملكة إليزابيث الثانية العرش عام 1952، كانت المملكة المتحدة تداوي جراحها من آثار الحرب العالمية الثانية، وكان التضخم مرتفعا في ظل الطفرة في أسعار السلع العالمية آنذاك، فيما كانت المنظومة الغذائية متعثرة، تخضع فيها عناصر رئيسية كاللحوم ومنتجات الألبان، للتقنين الموروث من زمن الحرب. ما يشهده البريطانيون اليوم من ارتفاع فاتورة الطاقة والنقل والاستشفاء والضرائب وقلة العمالة، وغلاء قاس في أسعار السلع الأساسية، ربما لا يقل وطأة عن زمن الحروب، فتضخم الأسعار اليوم يصل الى نحو 20 في المئة عما كان عليه في العام المنصرم، وتكاد وجبة الفطور الانكليزي البسيطة تصبح من الرفاهيات!

وفي وقت كانت رائحة حرق الفحم الحجري تعم بريطانيا من المصانع والقطارات لتوليد الطاقة والتدفئة حيث كان نحو ربع مليون عامل يعملون في المناجم، ها هي بريطانيا، التي تخلت، من أجل بيئة أفضل، عن الفحم لصالح النفط والطاقة المتجددة على مدى عقود، تعود لإحياء مناجمها في وجه وقف روسيا إمداداتها النفطية واستحداثها أزمة طاقة خطيرة. وهذا تحد كبير أمام الملك الجديد المعروف برعايته المطلقة لقضايا المناخ وحماية البيئة.

الأرقام ما بين الملكة والملك

لا شك أن الملك تشارلز الثالث ورث اقتصادا صعبا، تقل فيه أهمية الصناعة زهاء ثلث ما كانت عليه عام 1952، والتي كانت بدورها تمثل نحو ثلث الناتج المحلي، وتهاوى فيه الجنيه الاسترليني الى أدنى مستوياته العام المنصرم ملامسا الدولار قبل أن يستعيد بعضا من تفوقه، ويرث وضعا اجتماعيا معقدا يضعه أمام مسؤولية لعب دور ما في بث الطمأنينة والثقة في الكيان البريطاني على غرار ما كانت تمثله والدته في السنوات السبعين المنصرمة. 

إلا أن ما أعقب تتويج الملكة الشابة إليزابيث الثانية في مطلع خمسينات القرن الماضي، لا يشبه تماما واقع المملكة المتحدة مع تتويج الملك الكهل (73 عاما)، فمن مملكة فتية نحو نصف سكانها تحت سن الثلاثين (نحو 22 مليون نسمة من أصل نحو 50 مليونا، عدد السكان آنذاك)، بات هؤلاء يشكلون نحو 35 في المئة فقط (زهاء 24 مليونا من مجموع 68 مليون نسمة)، والعدد في تراجع مستمر، يواكبه ارتفاع في متوسط العمر مع تحسن تقنيات الرعاية الصحية والتغذية وتقدم الطب والمنتجات الصيدلانية، ما يعني ارتفاع تكلفة الفاتورة الاجتماعية والصحية والتقاعد للمواطن البريطاني، وانخفاض الانتاجية ومزيد من الضغوط الاقتصادية الدولية. 

غدا مساء تنتهي الفرحة الكبرى والاحتفالات الاسطورية، لكن يبقى الأمل في أن تمتد ارتدادات نفحة الثقة التي أشاعها حفل تتويج الملك تشارلز الثالث لأكثر من عطلة أسبوع واحدة!

اليوم أضحت بريطانيا أكثر ليبيرالية على كل المستويات ولا سيما على مستوى عمل المرأة التي باتت تشكل نحو نصف القوة العاملة، مقارنة بالثلث فقط في أوائل خمسينات القرن الماضي، وكذلك على مستوى الحريات الشخصية والجنسية. وصارت سوق الأوراق المالية أكثر انفتاحا إذ انتقلت من التركيز على الشركات المحلية في الخمسينات، لتصبح أكثر من 80 في المئة من الأسهم المتداولة لشركات متعددة الجنسيات.

قد تكون المملكة المتحدة اليوم أكثر انفتاحا على الأديان والأعراق، وأغنى بكثير مما كانت عليه في الخمسينات، إذ تضاعف الناتج المحلي الإجمالي للفرد أكثر من أربعة أضعاف بالقيمة الحقيقية، وأضحى توزيع الثروات أكثر عدلا من السابق حيث كان واحد في المئة من الأثرياء يمتلكون ما يقرب من نصف الثروات، فيما تمثل هذه النسبة حاليا نحو 20 في المئة.

لكننا اليوم نرى بريطانيا تصارع تضخما من رقمين، واضطرابات عمالية متواصلة واسعة النطاق، وتحتسب انكماش اقتصادها بين فصل وآخر وإغلاق وآخر. فوفقا لصندوق النقد الدولي، من المتوقع أن يتقلص الناتج المحلي الإجمالي في المملكة بنسبة 0,3 في المئة في السنة الجارية، مسجلاً أسوأ أداء لاقتصاد يصنف بأنه متقدم ورئيسي في العالم! 

صحيح أن إيرادات الضرائب اليوم أعلى مما كانت عليه عام 1953، إلا أنها قاصرة عن تغطية تكاليف باهظة، منها تكاليف الرعاية الصحية والتوظيف والأجور العادلة لبعض القطاعات. ومع تحول سوق العقارات خلال السبعين عاما الماضية وتضاعف الأسعار نحو 130 مرة، لم يعد شراء منزل في بريطانيا بالسهولة التي كان عليها. وكأن البريطانيين يدركون نوعا ما أن الأمور تغيرت وقد لا تكون على ما يرام في المستقبل القريب ما دامت أسعار الفائدة آخذة في الارتفاع...

غدا مساء تنتهي الفرحة الكبرى والاحتفالات الاسطورية، لكن يبقى الأمل في أن تمتد ارتدادات نفحة الثقة التي أشاعها حفل تتويج الملك تشارلز الثالث لأكثر من عطلة أسبوع واحدة!

font change