مصر: خفض التصنيف يضغط لتحرير الجنيه؟

نظرة سلبية إلى آفاق الدين السيادي المصري وزيادة أخطار التمويل الخارجي

Getty Images
Getty Images

مصر: خفض التصنيف يضغط لتحرير الجنيه؟

لا تزال مصر تواجه أزمة حادة بسبب النقص في العملات الأجنبية، في ظل سيولة بالدولار يقتصر تداولها خارج نطاق المصارف الحكومية، وعلى خلفية سجالات عنيفة تدور رحاها في الدوائر الاقتصادية والأسواق بعد صدور ثلاثة تقارير من وكالات التصنيف الائتماني العالمية الرئيسية بخفض نظرتها المستقبلية إلى مصر من مستقرة إلى سلبية، سواء في ما يتعلق بآفاق الدين السيادي المصري أو بزيادة أخطار التمويل الخارجي.

وحذرت كل من "ستاندرد أند بورز" و"موديز" و"فيتش" للتصنيف الائتماني من أخطار عدم قدرة البلاد على تلبية احتياجاتها التمويلية الخارجية، بما يعكس استمرار القيود في نظام سعر صرف الجنيه المصري، الأمر الذي أعاق تدفق العملات الأجنبية وفق "فيتش".

توقعت "ستاندرد أند بورز" في تقريرها قبل أيام أن يصل سعر الدولار في مصر إلى 40 جنيهاً، وحذرت من تأخر الممولين في مد يد العون إلى مصر، بسبب تأخر تطبيق الإصلاحات المرتبطة ببرنامج قرض صندوق النقد الدولي التي جرى إعلانها نهاية العام المنصرم، وما يترتب على ذلك من آثار مثل زيادة معدلات الفائدة وتراكم الديون وتفاقم أعباء الواردات وارتفاع معدل التضخم. يأتي ذلك في ضوء تعرض الاقتصاد المصري إلى ضغوط خارجية صعبة، أهمها تداعيات الحرب الروسية على أوكرانيا وما نجم عنها من تأثيرات اقتصادية سلبية عالمية.

يعدّ التصنيف الائتماني مؤشراً يقيّم الجدارة الائتمانية للدول والشركات، وهو يؤثر سلبا أو إيجابا في ثقة المستثمرين في الجهة المعنية بالتصنيف، كونه يظهر مدى قدرتها على الوفاء بالديون. وتأتي أهمية تصنيفات مصر كونها صادرة من المؤسسات الأميركية الثلاث المهيمنة على التصنيفات الائتمانية في العالم، ما سينعكس سلبا على قرارات الاستثمار.

يلمح كثير من المتابعين إلى ممارسة وكالات التصنيف الائتماني ضغوطا على المؤسسات المصرية نحو تعويم كامل للجنيه المصري في مقابل الدولار

في مقابل هذه التصنيفات، أكد رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي التزام بلاده تسديد ديونها والاستمرار في تنفيذ برنامج الطروحات الحكومية خلال الشهرين المقبلين بقيمة لا تقل عن ملياري دولار من خلال شركات محددة جرى الانتهاء من التفاوض في شأنها وأخرى جار التفاوض عليها، فضلا عن طرح 10 شركات تابعة للجيش في البورصة. وأشار إلى أن الحكومة ستطبق حزمة إجراءات مالية ونقدية وهيكلية للتعامل مع المخاوف المتعلقة بارتفاع الاحتياجات التمويلية بالعملات الأجنبية للاقتصاد المصري، وهي التي دفعت المؤسسات الدولية للتصنيفات الائتمانية إلى تعديل النظرة المستقبلية للاقتصاد المصري، من مستقرة إلى سلبية. تحتاج مصر، وفق "ستاندرد أند بورز"، إلى تمويل كبير يبلغ بحسب تقديراتها نحو 17 مليار دولار خلال السنة المالية الجارية و20 مليار دولار خلال السنة المالية المقبلة 2023-2024.

Shutterstock

وحرّرت مصر سعر عملتها المحلية ثلاث مرات بين مارس/آذار 2022 ويناير/كانون الثاني الماضي 2023، ما دفع سعر الجنيه المصري إلى الانخفاض بأكثر من 95 في المئة. على الرغم من ذلك، لا تزال البلاد تواجه نقصا في النقد الأجنبي، ولا سيما في ظل صعوبات ارتفاع معدل التضخم وتكلفة الاقتراض المحلي وعدم وجود سعر مرن للعملات، مع سعي الدولة الحثيث إلى جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والتدفقات الخارجية إلى سوق الدين المحلية.

تحتاج مصر، وفق "ستاندرد أند بورز"، إلى تمويل كبير يبلغ بحسب تقديراتها نحو 17 مليار دولار خلال السنة المالية الجارية و20 مليار دولار خلال السنة المالية المقبلة 2023-2024.

في المبدأ، تتأثر النظرة المستقبلية إلى المصارف المصرية تبعا للتصنيف الائتماني للدولة صعودا أو هبوطا، لكن بحسب الخبير الاقتصادي هاني توفيق، "فلا جديد، ولا خوف بالتالي حاليا على أموال المصريين في البنوك"، لكن التصنيفات "تذكر بحتمية البدء فوراً في إصلاح المنظومة الاقتصادية للدولة بالكامل". واعتبر عضو اللجنة العليا للبورصة المصرية سابقا والخبير الاقتصادي مدحت نافع خفض تصنيف المصارف الثلاثة "إجراءً روتينياً يأتي دائما عقب أي تغير في تصنيف الجدارة الائتمانية للدولة نفسها".

وقال نافع لـ"المجلة": "كان متوقعا تحول النظرة إلى سلبية بالنسبة إلى الاقتصاد"، ورجح أن يكون السبب "حالة عدم اليقين في ما يتعلق بسعر صرف الجنيه المصري، ولا سيما التباطؤ الذي أشار إليه صندوق النقد في أكثر من تصريح في ما يتعلق بالإجراءات المطلوبة لتخارج الدولة من النشاط الاقتصادي وتحديداً من خلال برنامج طرح الأصول المملوكة للدولة". وشدد نافع على أهمية تطبيق بعض الإجراءات الأخرى التي تراها مؤسسات التمويل الدولية ضرورية بما فيها مزيد من الخفض لسعر الجنيه المصري، مشيراً إلى أن الأزمة التي تسيطر حالياً على البلاد سببها "أننا لا نعرف ما هو أدنى مستوى يمكن أن ينخفض إليه الجنيه، في ظل الندرة الحالية للدولار التي لا يُتوقَّع أن تنتهي قريبا".

وألمح نافع إلى أن الأثر السلبي سيكون في برنامج الطروحات، والأكثر سلبية ليس في التقييم الائتماني بل في ظهور سعر صرف موازٍ في السوق الموازية للدولار. لم تكن توقعات نافعواضحة في شأن تحرير سعر الصرف، إذ قال: "عادة لا يقدم المستثمر الأجنبي على الاستثمار بالدولار إلاّ إذ توافرت لديه معلومات واضحة عن سعر الصرف الذي سيعتمد من أجل تقييم الأصول، وكلما انخفض الجنيه في مقابل العملات الأجنبية، يكون ذلك في صالح المستثمر الأجنبي". 

ونبه الخبير الاقتصادي إلى أن "ستاندرد أند بورز" وغيرها من وكالات التصنيف تلجأ إلى النظرة السلبية حين تتوقع أن تتجه المراجعة المقبلة للتصنيف الائتماني إلى مزيد من الأخطار، ما يتطلب خفضا إضافيا إذا لم تحدث تغيرات إيجابية، مرجحا أن يكون التصنيف المقبل أدنى من التصنيف الحالي، وذلك لاستمرار حالة عدم اليقين في الأسواق، وألمح إلى تأخر الدفعة الثانية من قرض صندوق النقد المتفق عليه مع الحكومة المصرية لتلك الأسباب.

وأشار نافع إلى أن قرار "ستاندرد أند بورز" يعود إلى عدم إنجاز الحكومة مطالب الصندوق خلال الفترة بين يناير/كانون الثاني ومارس/آذار الماضي، وهي فترة قصيرة، متوقعا عدول وكالة التصنيف عن نظرتها قبل يوليو/تموز المقبل، بمجرد قيام الحكومة المصرية بتنفيذ ما تعهد به مدبولي. وكانت الحكومة أعلنت من قبل نيتها بيع حصص حكومية في 32 شركة، بين أول الفصل الأول من السنة الجارية ونهاية الفصل الأول من عام 2024.

وأُعلِن خلال الفترة الماضية طرح أسهم شركتين تابعتين للقوات المسلحة، هما "وطنية" و"صافي"، ويجري حاليا تجهيز أكثر من عشر شركات أخرى تابعة للقوات المسلحة للطرح من خلال برنامج الطروحات المخصص لشركات ومصارف، ويشمل طرح أسهم في البورصة ولمستثمرين استراتيجيين. وستعين جهة استشارية دولية لمساعدة الحكومة المصرية في إتمام عمليات البيع، جنبا إلى جنب مع مصارف الاستثمار.

وتنتظر مصر إعلان صندوق النقد المراجعة الفصلية التي كان من المفترض الكشف عنها أواخر مارس/آذار الماضي، ويبدو أن الصندوق ينتظر مزيدا من وضوح الرؤية على صعيد برنامج الإصلاحات الاقتصادية التي وعدت بها مصر ضمن الاتفاق الأخير مع الصندوق، وتشمل تحريرا شاملا للجنيه وبيع حصص في مصارف وشركات ومؤسسات مملوكة من الدولة إلى مستثمرين استراتيجيين أو طرح جزء منها في البورصة، لتشجيع مزيد من الاستثمار وتعزيز مساهمة القطاع الخاص. إلا أن هذه الإصلاحات تؤثر في شكل كبير في حياة أغلبية المصريين بسبب جنون الأسعار الذي يخفض قدراتهم الشرائية ويقلل استهلاكهم، ومن ثم يؤدي إلى انخفاض المبيعات والإنتاج وارتفاع معدلات الفقر.

Shutterstock

الجنيه وعتبة الأربعين

تحوّلت أنظار بعض المصريين إلى السبائك والجنيهات الذهبية باعتبارها ملجأ لحفظ القيمة، وفى الوقت نفسه لمواجهة تفاقم معدل التضخم، مع وصول سعر صرف الدولار في السوق الموازية إلى ما بين 35 و39 جنيها، بينما يستقر في السوق الرسمية عند 31 جنيها، ويزيد في العقود الآجلة على 42 جنيها. وكشف أحد أكبر المصارف الأميركية، "غولدمان ساكس إنترناشيونال"، في تقريرله بعنوان "آفاق منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: أخطار السوق الموازية للجنيه المصري"، أن الإصرار على عدم الانتقال إلى سعر صرف مرن للجنيه أمام باقي العملات الأجنبية سيؤدي إلى زيادة التشوهات وأخطار قيام اقتصاد غير مستدام بسبب استمرار وجود سوق عملات أجنبية موازية لتداول العملة بالسعر غير الرسمي.

من أبرز الأخطار التي تناولها التقرير تحويل تدفقات العملات الأجنبية بعيدا من السوق الرسمية إلى السوق الموازية بما يشمل تحويلات المصريين العاملين في الخارج الذين يمثلون نحو ثلث تدفقات الحساب الجاري، والتي تراجعت بنسبة 23 في المئة خلال الأشهر الستة من السنة المالية الجارية 2022-2023 لتسجل نحو 12 مليار دولار. ويشجع استمرار السوق غير الرسمية للعملة على ممارسات مضرة بالاقتصاد، مثل الإفراط في الواردات وانخفاض الصادرات، وتراجع الاستثمار الأجنبي والمحلي، وهذا يعني ضياع ميزة محتملة تتمثل في الحفاظ على عملة قوية نسبياً.

 

يواجه التبادل التجاري بين مصر والسودان حاليا أزمات كبيرة، إذ تعد السودان بوابة لنفاذ الصادرات المصرية إلى أسواق دول حوض النيل وشرق أفريقيا. ومع استمرار الحرب وانعدام الأمن سيتأثر حجم التبادل التجاري بين البلدين

مشاكل جديدة بعد الصراع في السودان

فاقم اندلاع الصراع في السودان بين قوات الجيش و"الدعم السريع"، الضغوط على الاقتصاد، وباتت تلوح في الأفق بوادر تبعات اقتصادية كبيرة على مصر والدول المجاورة، وهو ما حذرت منه "موديز"، متوقعة تراجعا ائتمانيا على الدول المجاورة، ينعكس سلبا على الاقتصاد المصري ليضيف مشاكل جديدة.

ويواجه التبادل التجاري بين مصر والسودان حاليا أزمات كبيرة، إذ تعد السودان بوابة لنفاذ الصادرات المصرية إلى أسواق دول حوض النيل وشرق أفريقيا. ومع استمرار الحرب وانعدام الأمن سيتأثر حجم التبادل التجاري بين البلدين، الذي سجّل ارتفاعا بنسبة 18,2 في المئة العام الماضي، وصولا إلى 1,434 مليار دولار في مقابل 1,212 مليار دولار عام 2021. ويُقدَّر حجم التبادل التجاري بين مصر وأسواق القارة الأفريقية بنحو 2,12 مليار دولار خلال الفصل الأول من السنة الجارية، وبلغت قيمة الصادرات المصرية إلى القارة 1,61 مليار دولار في الفترة نفسها، وفق الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات.

خفض قيمة العملة أنعش السياحة

في حين يعتبر كثير من المستثمرين السياحيين أن انخفاض الجنيه ينعش السياحة الوافدة إلى مصر وفى الوقت نفسه يمثل حلا لزيادة الحصيلة الدولارية، تعول الحكومة المصرية على هذا القطاع وتسعى إلى زيادة عدد الزائرين إلى 30 مليون شخص سنويا. وقدرت الحكومة أن يكون عام 2023 الأفضل سياحيا في مصر، وتمثل عائدات السياحة نحو 12 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ونحو 15 في المئة من إيرادات مصر من العملات الأجنبية، وتُعَد ثالث أكبر مصدر للدخل الأجنبي بعد الصادرات وتحويلات المصريين العاملين في الخارج.

قفزت إيرادات السياحة في الأشهر الستة من السنة المالية الجارية 2022-2023 لتصل إلى 7,3 مليارات دولار، بزيادة نسبتها 25 في المئة، مقارنة بـ5,8 مليارات دولار في الفترة نفسها من السنة المالية المنصرمة، ما يؤكد وجود فرصة كبيرة لجذب مزيد من السياح لتخفيف جزء من الضغوط المفروضة على الاقتصاد المصري.

font change

مقالات ذات صلة