إشكاليات المقاومة المسلحة وحروبها الصاروخية!

تغول إسرائيلي.. وعجز فلسطيني إلا من التصريحات.. وثبات في المعادلات

AFP
AFP
صواريخ "القبة الحديدية" الاسرائيلية في مواجهة صواريخ اطلقت من غزة ليلة 10 مايو

إشكاليات المقاومة المسلحة وحروبها الصاروخية!

تأتي جولة الصراع الحالية بين إسرائيل والفلسطينيين استمرارا للجولات السابقة، فيما يطلق عليه "الحرب بين الحروب" والتي باتت غزة، بشكل خاص، تتعرض لها منذ انسحاب إسرائيل الأحادي منها (2005)، للتخفّف من العبء السياسي والأمني والاقتصادي الناجم عن السيطرة على مليوني فلسطيني في بقعة صغيرة وفقيرة بالموارد، وأيضا، لفكّ الارتباط بينها وبين الضفة، وإضعاف فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة (1967).

وما يفترض إدراكه أن ذلك الانسحاب كان مجرد إعادة انتشار على حدود قطاع غزة، مع انتهاج إسرائيل لسياسة قوامها فرض الحصار عليه وتوجيه الضربات الوحشية والمدمرة له، بين فترة وأخرى، وكل ذلك لإضعافه، وإخضاعه.

وقد يجدر التذكير هنا بأن إسرائيل تنتهج سياسة القوة لإخضاع الفلسطينيين وتكريس احتلالها لأراضيهم، فمنذ العام 2006 (تسلم محمود عباس القيادة والسلطة) حتى العام 2022، لقي 7500 فلسطيني حتفهم بالرصاص والقصف الإسرائيلي في الضفة وغزة والقدس (بمعدل 470 شخصا كل سنة)، في حين لقي 371 إسرائيليا مصرعهم (بمعدل 23 شخصا كل سنة)، أي إن النسبة في الخسائر البشرية بين الطرفين هي بواقع إسرائيلي واحد مقابل كل 21 فلسطينيا.

أيضا، شهد العام الماضي، إبان حكومة بينيت لابيد مصرع 230 فلسطينيا، في حين قتلت إسرائيل 140 فلسطينيا، في ظل الحكومة الحالية (نتنياهوـ سموتريتش- بن غفير)، وذلك منذ تشكيلها، مطلع هذا العام، حتى الآن، أي في أقل من خمسة أشهر.

انسحاب إسرائيل من غزة كان مجرد إعادة انتشار على حدود القطاع، مع انتهاج سياسة قوامها فرض الحصار عليه وتوجيه الضربات الوحشية والمدمرة له، بين فترة وأخرى، وكل ذلك لإضعافه، وإخضاعه

إزاء هذا التغوّل الإسرائيلي، يبدو أن القيادة الفلسطينية، وهي قيادة المنظمة والسلطة و"فتح"، لا تملك شيئا، سوى التوجه نحو الأطراف الدولية الفاعلة، ونحو مجلس الأمن الدولي للضغط على إسرائيل لوقف حربها ضد الفلسطينيين وطلب فرض الحماية الدولية على الأراضي الفلسطينية، رغم معرفتها باستحالة ذلك (منذ 75 عاما).
أما الفصائل الفلسطينية، لا سيما تلك التي تمتلك قوة عسكرية وصاروخية في غزة، كحركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، فهي تقوم بإطلاق الصواريخ، مع إصدار تصريحات وخطابات نارية، تهدد فيها بإيلام إسرائيل وبأنها ستفرض عليها الالتزام بـ"قواعد اشتباك" وتفيد بأنها حققت نوعا من "ردع متبادل" معها، مع تأكيدها على معادلة "وحدة الساحات" (بين الضفة وغزة)، وعدم تمكين إسرائيل من الاستفراد بطرف. إلا أن أيا من ذلك لم يثبت، أو لم ينتج عنه شيء جديد يغير المعادلات، ولا في أي مرة، في الحروب المتعددة السابقة.

AFP
فتاة فلسطينية قرب انقاض مبنى قصفته الطائرات الاسرائيلية في بيت لاهيا ليلة 11 مايو

وفي نقاش ما يجري قد يفيد التأكيد بداية بأن مشكلة الشعب الفلسطيني لا تكمن في شرعية مقاومته ولا قدرته على مواصلة ذلك، وإنما في افتقاده لرؤية سياسية جامعة وواضحة ولقيادة سياسية تتمتع بالصدقية والمسؤولية، وضمن ذلك افتقاد حركته الوطنية، التي عمرها 58 عاما، لاستراتيجية كفاحية ممكنة ومناسبة ومستدامة، وتخضع للفحص والمساءلة، ويمكن استثمارها.

ورغم كل ما تقدم، فإن الفلسطينيين يواصلون كفاحهم المعقد والمضني والمكلف، لكن فقط بإيمانهم بقضيتهم وباستعدادهم للتضحية وبروح العناد عندهم، ما يفسر ضعف قدرتهم على الاستثمار في كل ذلك، وعدم التناسب بين التضحيات والإنجازات.
 

مشكلة الشعب الفلسطيني لا تكمن في شرعية مقاومته ولا قدرته على مواصلة ذلك، وإنما في افتقاده لرؤية سياسية جامعة وواضحة ولقيادة سياسية تتمتع بالصدقية والمسؤولية

طبعا ثمة مشكلة أخرى هنا، وهي أن الفصائل الفلسطينية أضفت قدسية على الكفاح المسلح، أولا، لتغطية واقع سيادة العفوية والتجريبية في تجربتها. 

وثانيا، لأن الكفاح المسلح، بالشكل الذي تديره، يتطلب التضحيات، من دون الخضوع لأي اعتبارات في شأن قدسية حياة البشر. وثالثا، لأنها نأت في تجربتها السياسية عن تقاليد النقد والمساءلة والمحاسبة. ورابعا، لأن هذا الشكل من الكفاح هو الذي مكّن الفصائل الفلسطينية المعاصرة من استقطاب الفلسطينيين، بعد النكبة (1948)، وتاليا فرض ذاتها كأمر واقع باعتبارها ممثلا لهم.

في غضون ذلك، حجبت التقاليد الفصائلية السائدة، أو أغفلت، عدة جوانب مؤسّسة لأي تجربة كفاحية، سيما إذا كانت تعتمد الكفاح المسلح كشكل رئيس أو حصري لها. أولها، الاعتماد على الإمكانيات الذاتية للشعب، ما يعني بداهة عدم تحميله مستويات نضالية أو تبعات فوق قدرته على التحمّل، إذ إن الاعتماد على الخارج يشجع على اللامبالاة إزاء هذا المعيار. ثانيها، ديمومة الشكل الكفاحي، بغضّ النظر عن مستوياته، إذ إن ذلك هو الذي يضمن استمرار طاقة الشعب الكفاحية، والاقتصاد بها. وثالثها، تمكنه من استنزاف مجتمع العدو، لا تمكين العدو، أو التسهيل له، استنزاف المجتمع الذي يفترض أن المقاومة تتمثل أهدافه أو تدافع عنه؛ وهو ما حصل غالبا في التجربة الفلسطينية في كل المراحل، في الخارج وفي الداخل.

هكذا، في ظل هيمنة الفصائل على المشهد السياسي الفلسطيني، من كونها تمتلك الموارد ووسائل القوة والهيمنة، وفي ظل توق الشعب الفلسطيني للرد على اعتداءات إسرائيل وغطرستها، وسيادة قيم التضحية والكرامة لديه، يسهل تغييب الدروس المستفادة من التجربة الفلسطينية الطويلة والمريرة والمضنية، عند كل عملية، أو عند إطلاق أي صاروخ، كأن العمل الوطني الفلسطيني، أو الكفاح المسلح الفلسطيني، بدأ للتو، وليس قبل قرابة ستة عقود.

لنلاحظ، مثلا، أن أكثر مرحلة احتدم فيها الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي كانت في مرحلة الانتفاضة الثانية (2000- 2004)، ففي تلك الفترة قتل 1060 إسرائيليا (مقابل حوالي 5000 فلسطيني)، وهو أعلى عدد في الخسائر البشرية تكبدته إسرائيل منذ قيامها (باستثناء فترة الحروب الإسرائيلية العربية)، وأكثر فترة قلّ فيها الفارق في الخسائر البشرية بينها وبين الفلسطينيين، إذ النسبة كانت 1- 4. بيد أن النتيجة كانت أن إسرائيل شنّت حربين مدمرتين على الفلسطينيين (2002-2003) استعادت فيهما السيطرة على الضفة، ودمرت بناها التحتية، وقطّعت أوصالها بالنقاط الاستيطانية والحواجز والجدار الفاصل، أما غزة فانسحبت منها إسرائيل (2005) للتخلص من عبئها، بفرض الحصار عليها، وتحويلها إلى سجن كبير، وكحقل رماية لصواريخها، وتحويلها إلى مشكلة للفلسطينيين، كما قدمنا. 

أيضا، ثمة ثمن باهظ للحروب الإسرائيلية ضد غزة، والتي انتهجت فيها الفصائل الحرب الصاروخية، إذ كانت الخسائر البشرية الفلسطينية عالية جدا، فثمة 1436 في الحرب الأولى (أواخر 2008) مقابل 13 إسرائيليا. و155 في الحرب الثانية (أواخر 2012) مقابل 3 إسرائيليين. و2174 في الحرب الثالثة (صيف 2014) مقابل 70 إسرائيليا. و243 في الحرب الرابعة (صيف 2021) مقابل 12 إسرائيليا. و44 في الحرب الخامسة (صيف 2022) دون أي خسارة إسرائيلية، ما يوضح الفارق الكبير لصالح إسرائيل، ففي الحرب الأولى حوالي 1/100، والثانية 1/50، والثالثة كانت 1/30، والرابعة 1/20، والخامسة 0 مقابل 44.

بيد أن الملاحظة الأساسية تفيد بأن عدد الإسرائيليين الذين قتلوا في القطاع منذ احتلاله إلى الانسحاب منه (1967-2005)، طوال 38 عاماً، بلغ 230 إسرائيليا ("هآرتس"، 23/8/2005)، أي ستة أشخاص في العام الواحد، وأكثر من نصف هؤلاء قتل إبان الانتفاضة الثانية، (من أصل 1060 إسرائيليا قتلوا في الضفة وفي مناطق 48). 

ما تقدم يفيد، أولا، أن كلفة الكفاح المسلح في التجربة الفلسطينية باهظة جدا، وليس لها استمرارية، ولم تمكّن من استثمار التضحيات والبطولات فيها. ثانيا، أن إسرائيل تكّبدت خسائر بشرية، ومعنوية، من عمليات فدائية متفرقة، نفذها شباب أفراد، غير تابعين لفصائل، فاقت خسائرها من عمليات القصف الصاروخي، وهو ما يذكّر بعملية "وادي الحرامية" (بين نابلس ورام الله- مارس/آذار 2002)، التي نفذها ثائر حماد، ببندقية بدائية واستطاع وقتها قتل 11 إسرائيلياً، وبعملية خيري علقم في مستوطنة النبي يعقوب قرب القدس، ونجم عنها مصرع 7 إسرائيليين (26/1/2023)، وفوق كل ذلك يمكن ملاحظة أن ذلك النوع من العمليات لم يتح لإسرائيل إطلاق آلتها العسكرية للبطش بالفلسطينيين.

AFP
فلسطينيون في تشييع القيادي علي غالي وشقيقه محمود في خان يونس في 11 مايو

 

المغزى من ذلك أن إسرائيل تتفوق على الفلسطينيين، ليس فقط في المجال العسكري، وإنما أيضا في قدرتها على امتصاص الأشكال الكفاحية التي ينتهجونها في كل مرحلة، واستيعابها، وتحويلها إلى عبء عليهم، وأيضا من خلال قدرتها على عدم تمكينهم من استثمارها، أو تحويلها إلى إنجازات سياسية، بالتساوق مع الواقعين العربي والدولي، في حين يواصل الفلسطينيون طريقهم، كالمعتاد.
 

كلفة الكفاح المسلح في التجربة الفلسطينية باهظة جدا، وليس لها استمرارية، ولم تمكّن من استثمار التضحيات والبطولات فيها

يمكن أن نضيف إلى كل ذلك انتهاء الكفاح المسلح في الخارج، وتحول العمل الوطني الفلسطيني إلى الداخل، إلى سلطة، ونحو حرب صاروخية (من غزة) للتعويض عن ضعف العمل المسلح في الأراضي المحتلة، وبروز ظاهرة الفدائيين الأفراد المستقلين بعد ضمور الفصائل، ونتيجة قصور في ثقافة أو تقاليد المقاومة الشعبية، بحصرها في العمل المسلح.

يستنتج من ذلك أن الفلسطينيين معنيون بنزع القداسة عن الكفاح المسلح، وإخضاعه للنقد والمساءلة، وتاليا تحديد استراتيجية كفاحية تأخذ في اعتبارها قدرات الشعب على التحمل، وديمومة كفاحه، واختيار شكل المقاومة الممكن والأنسب والأجدى، بحسب الإمكانات والمعطيات، وضمنها الاستثمار في التناقضات الإسرائيلية، وليس توحيد الإسرائيليين حول أقصى اليمين المتطرف. 

بيد إن أهم شيء يُفترض بالفلسطينيين إدراكه هو طبيعة الظرف السياسي، الدولي والمحلي، فما الذي تملكه الفصائل في حال قيام إسرائيل، مع حكومة فاشية متطرفة، بمحاولة لاقتلاع فلسطينيين من هذه المنطقة أو تلك، في القدس أو الجليل أو الخليل، أو أي مكان آخر؟ وهل ثمة حصانة للفلسطينيين إزاء أي خطة "ترانسفير" جديدة، مع معايشتنا لتشريد ملايين السوريين، وملايين الأوكران، من بلدهم أمام سمع العالم وبصره؟ ولعل ما حدث في بلدات فلسطينيي 48 (في مايو 2021) الذين تعرضوا لاعتداءات الإسرائيليين على بيوتهم وممتلكاتهم، بعد القصف الصاروخي من غزة، على خلفية هبة الدفاع عن حي "الشيخ جراح" توضح، وتحذر، من مثل هذه المسارات أو المناخات أو ردود الفعل، علما أن ذلك القصف أجهض الهبّة الشعبية التي عمت فلسطين من النهر إلى البحر وقتها.

AFP
"القبة الحديدية" تعترض صواريخ أطلقت من غزة ليلة 10 مايو


في غضون ذلك، من المهم ملاحظة أن تجربة الكفاح المسلح الفلسطيني، في الخارج، آتت أكلها، وأدت الغرض منها إلى منتصف السبعينات، إذ استنهضت شعب فلسطين، وفرضت الاعتراف العربي والدولي بمنظمة التحرير وبشعب فلسطين وحقوقه، أما بعد ذلك فقد استُهلكت وفقدت وظيفتها، بدليل أنه لم تتم إضافة أي إنجاز جديد فيما بعد؛ إلى حين اندلاع الانتفاضة الأولى (1987). 

 

والقصد أن الفلسطينيين لم يكونوا في أرضهم، وأن الصراع العربي ضد إسرائيل اختفى، وأن إمكانياتهم وحدهم في مواجهة عسكرية مع إسرائيل لا تفي بالغرض.

والخلاصة، يفترض بالفلسطينيين أن يكونوا أكثر حذرا، في هذه الظروف، لإمكان استغلال عدوهم أي عملية غير محسوبة للقيام بردة فعل كبيرة، تخدم استراتيجيته بتشتيتهم وإضعاف مقومات صمودهم في أرضهم، وتاليا استعادة المقاومة لشكلها الشعبي وفقا لإمكانياتها وظروفها، إذ الحرب شغلة إسرائيل في حين أن المقاومة هي شغلة الفلسطينيين.

طبعا الحديث هنا يتعلق باستراتيجيات الكيانات السياسية، المفتقدة، أو القاصرة، في التجربة الفلسطينية الغنية والمديدة والصعبة، أما ظاهرة العمل الفدائي الفردي، فعدا كونها نتاج العفوية والفراغ السياسي وعجز الفصائل، فهي ردة فعل طبيعية على اعتداءات الجيش الإسرائيلي والمستوطنين، ونتاج الإيمان بالحق والعدالة لشباب يمتلكون روح الشجاعة والتضحية للدفاع عن شعبهم. 


 

font change