نقاش أخلاقي في ذكرى نكبة فلسطين

يتلاشى حل الدولتين من تفكير الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء

Getty Images
Getty Images

نقاش أخلاقي في ذكرى نكبة فلسطين

بينما يحيي الفلسطينيون الذكرى الخامسة والسبعين لنكبتهم، لم يفقدوا الأمل بعد في وجود دولة لهم طال انتظارها. فما زال بعضهم متشبثا بالأمل على الرغم من أنهم لا يرون سببا واحدا للتفاؤل، فبناء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة مستمر رغما عنهم، والاحتلال ما زال يراوح مكانه بعد أكثر من نصف قرن من "الوضع المؤقت".

ويتزامن التقلص المطرد في مساحة الأرض الفلسطينية التي يقيم الفلسطينيون عليها سلطتهم الوطنية مع تلاشى حل الدولتين من تفكير الفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، بينما لا يكاد أحد يتذكر اتفاقيات أوسلو بعد 30 عاما من توقيعها في حديقة البيت الأبيض بواشنطن، بهدف صنع السلام بين الطرفين والتمهيد لإقامة دولة فلسطينية.

وطوال العقود الخمسة المنصرمة، منذ بدء احتلال الضفة في 1967، ظلت تصريحات الإدارات الأميركية المتعاقبة تعلو وتخفت، بشأن ضرورة وقف إسرائيل الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة، ولكن دون جدوى. فقد كانت الولايات المتحدة أول دولة تعترف بإسرائيل كدولة مستقلة في 14 مايو 1948، ومنذ ذلك الحين، أصبحت إسرائيل، ولا تزال، أهم شريك لأميركا في الشرق الأوسط، والتزمت بتحقيق اتفاق سلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

 بناء المستوطنات في الضفة الغربية المحتلة مستمر رغما عن الفلسطينيين، والاحتلال ما زال يراوح مكانه بعد أكثر من نصف قرن من "الوضع المؤقت"

اقرأ أيضا: التاريخ المخفي في الرواية الرسمية عن النكبة الفلسطينية

ويُظهر أحدث استطلاع للرأي، أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في رام الله بالاشتراك مع البرنامج الدولي لحل النزاعات والوساطة في جامعة تل أبيب، أن غالبية الفلسطينيين والإسرائيليين يعارضون اليوم حل الدولتين، بل إن قلة منهم تؤيد العيش في دولة واحدة تتمتع بحقوق متساوية، فيما يرى أغلبهم (61%من الفلسطينيين و65 % من اليهود الإسرائيليين) أن انتفاضة جديدة تلوح في الأفق.

Getty Images
صورة أرشيفية لمتظاهر يرفع لافتة للتنديد بوعد بلفور الذي مهد لقيام دولة إسرائيل عام 1948 على 78 في المئة من ارض فلسطين 

 

ويستوطن حوالي 720 ألف إسرائيلي الضفة الغربية المحتلة، ويعيشون في أكثر من 300 مستوطنة وبؤرة استيطانية عشوائية غير مرخصة وفقا لآخر احصاءات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. وتعتبر تلك المستوطنات غير قانونية وفقا للقوانين الدولية ذات الصلة، وتعد عقبة رئيسية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي.

وأضفت إسرائيل صفة "رسمية" لمستوطناتها في الضفة الغربية على الرغم من عدم شرعيتها نظرا لأن الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، أرض محتلة وفقا للقانون الدولي، وأقيمت بؤر استيطانية بدون ترخيص من السلطات الإسرائيلية، ولكن إسرائيل أعلنت في أكثر من مرة اعتزامها إضفاء الشرعية على بعض منها.

Getty Images

وترفض وزارة الخارجية الإسرائيلية، على موقعها الإلكتروني، أي محاولة لتصوير المستوطنات على أنها نوع من الاستعمار لأرض أجنبية ذات سيادة، وتصف تلك المواقف على أن لها دوافع سياسية وتكتيك للخداع.

وفي رواية أخرى، يردّ حقوقيون فلسطينيون وإسرائيليون على الخارجية الإسرائيلية بأن الطموح الصهيوني، الذي يهدف إلى قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، قد سبق عام 1948، الشهير في التاريخ العربي بعام النكبة، عندما شُرد ما يقرب من 800 ألف فلسطيني من ديارهم، وفُرغت المدن الفلسطينية من سكانها، وأنشئت دولة إسرائيل عندما قررت المملكة المتحدة إقامتها على أنقاض فلسطين التاريخية. وبالنسبة لهم، فإن النكبة لا تزال مستمرة إلى يومنا هذا، متجسدة في التوسع الاستيطاني والانتهاكات الحقوقية، التي دفعت منظمات حقوقية دولية، كمنظمة العفو الدولية، إلى اتهام إسرائيل بتطبيق جريمة فصل عنصري بحق الفلسطينيين.

وفي رواية أخرى، يردّ حقوقيون فلسطينيون وإسرائيليون على الخارجية الإسرائيلية بأن الطموح الصهيوني، الذي يهدف إلى قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، قد سبق عام 1948، الشهير في التاريخ العربي بعام النكبة، عندما شُرد ما يقرب من 800 ألف فلسطيني من ديارهم

ثمن النجاح وقيمته

تحتفل إسرائيل في عيد ميلادها الخامس والسبعين بقصص نجاح في مجالات الصحة، والتعليم، والتكنولوجيا والاقتصاد، جعلتها في مصاف الدول المتقدمة خلال العقود الماضية، إذ تحتل مرتبة عالمية بارزة في مجال الرعاية الصحية، وقدمت نموذجا تكنولوجيا فائق التطور، وأحرزت تفوقا هائلا في البحث العلمي، جعلها في المرتبة الخامسة عالميا في جودة التعليم وحصول مواطنيها على درجة جامعية.

وحققت إسرائيل نموا اقتصاديا كبيرا العام الماضي، إذ سجل معدل الناتج الإجمالي المحلي 6.5%، متقدمة على بعض الدول الأوروبية، وفقا لبيانات مستقاة من صندوق النقد الدولي.

اقرأ أيضا: طبقات اللجوء الفلسطيني

يقول الفلسطينيون إن هذا النجاح يستوجب مسؤولية أخلاقية من إسرائيل، نظرا لأن منظمات حقوقية دولية وإسرائيلية تحملها تلك المسؤولية منذ عام 1948، إذ يحلم بعضهم بالعودة إلى قراهم ومدنهم القديمة، بينما يعيش آخرون كلاجئين في مخيمات تابعة للأمم المتحدة، والأراضي الفلسطينية المحتلة، وفي جيوب منفصلة بسبب حواجز تفتيش عسكرية إسرائيلية، تفصل بلدات ومدنا في الضفة الغربية عن بعضها البعض، وجدار فصل، تسميه إسرائيل بالسياج الأمني "المؤقت" أيضا، تلك الإجراءات التي تسببت في أزمة إنسانية للفلسطينيين.

وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خلُص تقرير لجنة التحقيق الدولية المستقلّة التابعة للأمم المتحدّة المعنية بالأرض الفلسطينية المحتلّة، بما في ذلك القدس الشرقية، وإسرائيل، إلى أن سياسات الحكومة الإسرائيلية أدّت إلى آثارٍ خطيرة ومتعددة الأوجه على كل جوانب حياة الفلسطينيين.

وأشار التقرير إلى أن هناك "أسبابا معقولة" تدعو للاستنتاج أن الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية بات غير قانونيًا بموجب القانون الدولي نظرًا لاستمراره وسياسات الحكومة الإسرائيلية للضم بحكم الأمر الواقع.

وأشار إلى أنه غالبا تتم مصادرة الأراضي لأغراضٍ عسكرية وبعدها تستخدم لبناء المستوطنات.

واستنتجت لجنة التحقيق أنه تقع على إسرائيل، إثر استمرارها باحتلال الأرض بمفعول القوّة، مسؤوليّات دولية ولا تزال مسؤولة عن انتهاك حقوق الفلسطنيين فرادةً وجماعةً.

ويذهب مؤرخون فلسطينيون وإسرائيليون إلى القول بأن إسرائيل يجب أن تكفر عن "خطيئتها الأصلية"، كالمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي، مدير المركزالأوروبي للدراسات الفلسطينية بجامعة إكستير البريطانية، ومؤلف كتاب "التطهير العرقي لفلسطين"، كما تعالت الدعوات لتعويض الفلسطينيين الذين دفعوا ثمنا باهظا لوجود إسرائيل وازدهارها.

لكن يبدو أن تلك الدعوات متخيلة، أو من قبيل الإحياء الرومانسي للنكبة، لأنها لا تمت للواقع السياسي الإسرائيلي بصلة، ففي إسرائيل اليوم حكومة تعد الأكثر يمينية وتطرفا في تاريخها، وتشكلت في ديسمبر/كانون الأول، 2022، وتتألف من وزراء يمثلون التيار الديني الحريدي، وحركة "الصهيونية الدينية" القومية، والمعروفين بمواقف وتصريحات عنصرية تجاه العرب والفلسطينيين. بل إن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، والذي يتولى أيضا مسؤولية الإشراف على المستوطنات، عرض مؤخرا أثناء كلمة له في مؤتمر بباريس "خريطة إسرائيل الكبرى"، وشملت الأردن وأجزاءا من لبنان وسوريا، منكرا وجود الفلسطينيين واعتبرهم "مجرد اختراع".

ومن الواضح أن سموتريتش ورفاقه يدعون إلى دولة يهودية خالصة ويعارضون ترسيم حدود لدولة فلسطينية ذات سيادة بجوار إسرائيل، ناهيك عن الحديث عن مصير القدس المتنازع عليها. وتعد هذه الأصوات والمواقف تصعيدا إسرائيليا رسميا، وتحولا لافتا عن إستراتيجيات روجت لها الحكومات السابقة، "لإدارة أو تقليص الصراع" من خلال تقديم حوافز اقتصادية للفلسطينيين. ومع ذلك، ينظر الفلسطينيون إلى تلك الإستراتيجيات على أنها تمويه لإخفاء وإدامة الاحتلال، بل لتجاهل القضية الفلسطينية برمتها ولكسر الحاجز النفسي مع إسرائيل في العالم العربي.

يذهب مؤرخون فلسطينيون وإسرائيليون إلى القول بأن إسرائيل يجب أن تكفر عن "خطيئتها الأصلية"، كالمؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي، مدير المركزالأوروبي للدراسات الفلسطينية بجامعة إكستير البريطانية

Gettty Images
متظاهرون ضد الاحتلال الإسرائيلي يحملون أحرفًا من كلمة "فصل عنصري" باللغة الإنجليزية، وبجانب لافتة عليها صورة ثيودور هرتزل، مؤسس الحركة الصهيونية خلال مظاهرة في تل أبيب ضد تشريعات حكومية متعلقة بالمنظومة القضائية

 

الديمقراطية الحقيقية لإسرائيل لن تكتمل إلا عندما تولد فلسطين من جديد. وحتى ذلك الحين، سيظل الحديث عن التعايش في دولتين أو حتى دولة ثنائية القومية، حيث تُبنى مآذن المساجد جنبًا إلى جنب مع المعابد اليهودية، بمثابة كليشيه مكرر يتماشى مع التصريحات الرسمية المألوفة من هنا وهناك

وفي الوقت الحاضر، تغطي المستوطنات حوالي 10٪ من الضفة الغربية، وتسيطر بلدياتها على مساحات شاسعة مفتوحة لم تتصل بعد رسميا أو عشوائيا بأي مستوطنة، أو بؤرة استيطانية وبذلك يصل إجمالي المساحة الخاضعة للسيطرة المباشرة للمستوطنات إلى 40٪ من الضفة الغربية ، بحسب مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة (بتسيلم). (سترتفع النسبة ارتفاعا كبيرا إذا أخذنا في الاعتبار المساحات الواسعة من الأراضي التي ضمتها إسرائيل عام 1948).

أما بالنسبة لـ "تكلفة الاحتلال"، فيطرح الباحث الاقتصادي الإسرائيلي شير هيفير فرضية مثيرة للاهتمام في كتابه "الاقتصاد السياسي للاحتلال الإسرائيلي". ويقول (في الصفحة رقم 60) إنه لو لم يكن هناك احتلال عسكري للأراضي الفلسطينية (المحتلة بعد حرب 1967)، كان بإمكان الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة تخصيص الموازنات الضخمة المخصصة لتنمية وبناء المستوطنات وتعزيز المواقع العسكرية ونقاط التفتيش والإجراءات الأمنية، وبناء جدار الفصل، لقطاعات أخرى في إسرائيل.

وفي الآونة الأخيرة، أفادت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن وزير الأمن الوطني إيتمار بن غفير يخطط لإنشاء قوة أمنية جديدة في القدس من حوالي 2000 ضابط وجندي، والتي قد تكلف خزانة إسرائيل ودافعي الضرائب مليار شيكل (282 مليون دولار).

 ويرأس بن غفير حزب "القوة اليهودية" المتطرف، وأدين في السابق بتهمة العنصرية، وكان قد أصدر تعليماته للشرطة الإسرائيلية في يناير الماضي بنزع الأعلام الفلسطينية من الأماكن العامة في إسرائيل، قائلا إن التلويح بالعلم الفلسطيني "عمل يدعم الإرهاب". وهذا بالنسبة للفلسطينيين مثال آخر لسياسة فرض الأمر الواقع عليهم وإخضاعهم.

وتتزامن ذكرى نكبة فلسطين واحتفال إسرائيل بنشأتها هذا العام، مع تظاهرات حاشدة وغير مسبوقة ضد تشريعات تحد من سلطة القضاء وتقوض الديمقراطية، وترسي "ديكتاتورية قضائية"، وقد أظهرت الحركة الاحتجاجية الآخذة في الاتساع، انقساما كبيرا في المجتمع الإسرائيلي، جعل البعض يتحدث عن وجود "دولتين إسرائيليتين"، واحدة لأتباع التيار العلماني، وأخرى لأتباع التيار الديني وأنصار بينيامين نتانياهو، الأطول بقاء في السلطة كرئيس للوزراء في تاريخ إسرائيل.

وفي حركة الاحتجاج الإسرائيلية أصوات قليلة من الإسرائيليين الذين شاركوا في تظاهرات تل أبيب والقدس الغربية، حاملين علم فلسطين، تستنكر اضطهاد الفلسطينيين، وتسلط الضوء مجددا على ما يصفونه بالسبب الرئيس الذي يهدد الديمقراطية في إسرائيل، وهو استمرار الاحتلال الإسرائيلي.

تقول تلك الفئة القليلة إنه مع احتفال إسرائيل  بذكرى قيامها هذا العام في أبريل/نيسان الماضي، وفقا للتقويم العبري، فإن الديمقراطية الحقيقية لإسرائيل لن تكتمل إلا عندما تولد فلسطين من جديد. وحتى ذلك الحين، سيظل الحديث عن التعايش في دولتين أو حتى دولة ثنائية القومية، حيث تُبنى مآذن المساجد جنبًا إلى جنب مع المعابد اليهودية، بمثابة كليشيه مكرر يتماشى مع التصريحات الرسمية المألوفة من هنا وهناك.

font change

مقالات ذات صلة