هل تستطيع الوحدة الغربية النجاة في عالم جديد متعدد الأقطاب؟

حرب أوكرانيا بدّدت أي أوهام بأن النظام العالمي لا يزال موجودا

AFP
AFP

هل تستطيع الوحدة الغربية النجاة في عالم جديد متعدد الأقطاب؟

أعلن فلاديمير بوتين في خطابه السنوي بمناسبة يوم النصر في موسكو هذا العام أن العالم يمر بـ"نقطة تحول". وكان يوجه تصريحاته إلى مواطنيه، ويروج للمزاعم المعتادة بأن روسيا تواجه هجوما من الغرب لتبرير غزو موسكو لأوكرانيا. ومع ذلك، كانت تصريحاته تحمل وجها من الحقيقة. لكن وجه الحقيقة لا يتعلق بالغرب الذي يخطط دائما لإسقاط روسيا، فحتى لو قبلنا بأن الغرب يحمل درجة من العداء تجاه روسيا قبل حرب أوكرانيا، فإن هذا يعد تمددًا. ولكن وجه الحقيقة يتعلق بالعالم، أو بالأحرى، يتعلق بالنظام الدولي، الذي يواجه نقطة تحول؛ إذ يمكن الجزم بأن غزو أوكرانيا وآثاره قد جاءت لتؤكد ما كان يدعيه كثيرون منذ فترة طويلة بأن: عصر الهيمنة الأميركية الأحادية قد انتهى، ونحن نعيش الآن في عالم متعدد الأقطاب.

AFP
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلقي خطابه في "عيد النصر" في موسكو في 9 مايو

يمثل خطاب بوتين نوعا من انعكاس لخطاب مختلف حول النظام الدولي، كان جورج دبليو بوش قد أدلى به في سبتمبر/أيلول 1990. فلقد دعا في حديثه الموجه إلى الكونغرس حول غزو العراق للكويت إلى "نظام عالمي جديد" يستند إلى التعاون الدولي والسلام وسيادة القانون. وكانت الولايات المتحدة قادرة بالفعل على الهيمنة على العالم، حيث انتهى تنافسها مع الاتحاد السوفياتي مع سياسة الشفافية وإعادة البناء التي تبناها غورباتشوف، تلك السياسة التي ستشهد أيضا انهيار الاتحاد السوفياتي عمّا قريب. ولكن خطاب بوش أكد أن الولايات المتحدة ستسعى لاستخدام هذه القوة لإعادة صياغة العالم في رؤية ليبرالية.

وسيتبع تحرير الكويت بعد فترة وجيزة، وكذلك سلسلة من التدخلات العالمية والجهود المتضافرة لتشجيع الدول الشيوعية السابقة على تبني نظام دولي رأسمالي ليبرالي قائم على القواعد بقيادة واشنطن. وتبع ذلك تحرير الكويت، وسلسلة من التدخلات العالمية، وجهود متحدة لتشجيع الدول الشيوعية السابقة على اعتناق نظام رأسمالي ليبرالي تقوده واشنطن.

لكن حرب أوكرانيا بدّدت أي أوهام بأن مثل هذا النظام العالمي لا يزال موجودًا. إذ إنه كان آخذا في الانهيار لسنوات، ولكن غزو روسيا لأوكرانيا والذي حدث عام 2022 أوضح بجلاء أن حقبة التعاون الدولي والسلام وسيادة القانون قد أكل الزمان عليها وشرب منذ أمد بعيد. وكان عزاء واشنطن وحلفائها الوحيد أن الحرب عملت على توحيد الغرب. في حين أن الحلفاء غير الغربيين رفضوا في الغالب الانحياز إلى أي طرف في المواجهة مع روسيا، وتجاوزت الولايات المتحدة وأوروبا ودول "غربية" أخرى التوترات السابقة التي كانت قد خلّفتها رئاسة دونالد ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كي تتوحد بخصوص أوكرانيا. لكن إلى متى ستستمر حالة التوحد هذه؟ وفي حين أن حرب أوكرانيا قد تكون عامل وِحدةٍ في الوقت الحالي، فإن تعددية القطبية تميل إلى بث روح التفرقة أكثر من بثها لروح التوحيد، وحتى في قضية أوكرانيا نفسها، كانت هناك توترات كامنة تحت سطح التحالف الغربي.

غزو أوكرانيا وآثاره قد جاءت لتؤكد ما كان يدعيه كثيرون منذ فترة طويلة بأن "عصر الهيمنة الأميركية الأحادية قد انتهى، ونحن نعيش الآن في عالم متعدد الأقطاب"


التعددية القطبية ليست حديثة العهد وكانت في واقع الأمر النمط السائد في النظام الدولي على مدار معظم التاريخ. فحتى نهاية الحرب العالمية الثانية كانت تعددية القطبية العالمية هي الشكل الطبيعي.

العالم متعدد الأقطاب

ولم تتركز السلطة، سواء كانت عسكرية أم اقتصادية، في يدي دولة واحدة أو دولتين فقط، بل إنها كانت موزعة بين كثير من اللاعبين الدوليين البارزين. ففي بعض الأحيان، كانت دولة واحدة طموحة تسعى للهيمنة على دول أخرى، وعلى وجه الخصوص في أوروبا، كحال فرنسا تحت حكم نابليون أو حكم لويس الرابع عشر، أو ألمانيا تحت حكم النازيين، ولكن كان لدى الآخرين ما يكفي من الثروة والقوة العسكرية لتجمعها لإلحاق الهزيمة بها أو ردعها. أما على المستوى العالمي، فعلى الرغم من حقيقة أن قوة محلية واحدة قد تسيطر على مناطق، كالصين في شرق آسيا، أو الولايات المتحدة في الأميركتين، إلا أنها تفتقر إلى الموارد لتبسط هذه السيطرة على العالم بأسره.

تغير هذا النظام الذي استمر لعدة عصور خلال الحرب الباردة، حيث سيطر لاعبان دوليان فقط على السياسة العالمية. وللمرة الأولى في التاريخ، أصبح النظام العالمي "ثنائي القطبية"، حيث اكتسبت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي قوة أكبر من معظم الدول الأخرى مجتمعة. وتمكنتا بفضل إنشاء تحالفين دفاعيين منافسين- حلف شمال الأطلسي، وحلف وارسو- من توجيه معظم دول العالم القوية إلى معسكريهما، وكان القليل الذين خرجوا من هذين المعسكرين، كالصين وحركة عدم الانحياز في العالم الثالث، يفتقرون إلى الموارد لتحدي أيٍ منهما.

AFP
الرئيس الاميركي جو بايدن والرئيس الاوكراني فولوديمير زيلينسكي اثناء اجتماعهما في هيروشيما في 21 مايو

ومع ذلك، فإن هذا النظام هو الذي كان آيلا إلى الانتهاء عندما ألقى جورج بوش الأب خطابه المسمى "النظام العالمي الجديد". وقد خلّف التراجع في قوة الاتحاد السوفياتي الولايات المتحدة قوة من دون منازع، وبدأ صانعو السياسة في واشنطن يتحدثون عن "لحظة أحادية القطبية". كانت الولايات المتحدة تنفق على الدفاع أكثر من بقية دول العالم مجتمعة، ووُضعت أُسس لقواعد دولية جديدة تمنح الولايات المتحدة نطاقا عالميا حقيقيا، وتوسع حلف الناتو لاستيعاب كثير من دول حلف وارسو السابقة.

 

ويمكن القول إن الهيمنة ولدت الثقة المفرطة، الأمر الذي أدى إلى غزو العراق الكارثي عام 2003. ووضع هذا الصراع- والذي من سخرية القدر أن من نفذه هو بوش الابن- بداية النهاية لأحادية القطبية. ولقد أدى ذلك الصراع إلى عدم رغبة من الجمهور الأميركي وعدم رغبة الزعماء اللاحقين كالرئيسين أوباما وترامب في نشر عدد كبير من "الجنود على الأرض" في الخارج، وكشف حدود قوة أميركا لأعدائها. ومع تزايد هذا كانت التحولات العالمية: انهيار الاقتصاد عام 2008 وتحول القوة الاقتصادية إلى آسيا، وارتفاع الصين، وزيادة النشاط العسكري لروسيا. 
 

التعددية القطبية ليست حديثة العهد وكانت في واقع الأمر النمط السائد في النظام الدولي على مدار معظم التاريخ


حدث تراجع الهيمنة الفردية وعودة الهيمنة المتعددة تدريجيا، لكن حرب أوكرانيا أظهرت ذلك بشكل صارخ. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لا تزال تمتلك أقوى جيش في العالم، وتنفق على الدفاع أكثر من الدول العشر الأخرى التي تليها في القوة العسكرية مجتمعة، إلا أن ذلك لم يعد كافيا لردع كل الآخرين عن تحدي هيمنتها.

أوكرانيا والتعددية القطبية

ويعتبر التحول في القوة الاقتصادية أكثر أهمية من القوة العسكرية التي تبدي الدول ترددا في استخدامها. فلقد أدى التنوع المتزايد للاقتصاد العالمي، وبروز الصين كقوة اقتصادية عالمية إلى اتخاذ روسيا موقف عدم التردد في مواجهة العقوبات الغربية، وغزو أوكرانيا. فلقد عنى النمو المتزايد للاقتصاد العالمي غير الغربي أنه إذا استطاعت موسكو أن تُبقي بكين في صفها، فإن اقتصاد بوتين سيصيبه الأذى، لكنه لن يتدمر بسبب الانتقام الاقتصادي الغربي.

AFP
رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك مع زيلينسكي بعد اجتماعهما في بلدة شيكير في 15 مايو

وقد تزايدت أهمية القوى الأخرى غير الغربية والمتوسطة القوة بنفس القدر؛ حيث رفضت البرازيل، والهند، وجنوب أفريقيا، ودول الخليج، كالمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وقطر الانضمام إلى العقوبات التي يفرضها الغرب على روسيا، على الرغم من كونهم حلفاء للولايات المتحدة. وهذا هو نتاج ومُعزِّز للعالم المتعدد القطبية. وكان يتعين على هؤلاء الحلفاء العالميين للولايات المتحدة الخضوع لضغط كبير للانضمام إلى العقوبات الدولية ضد عدو واشنطن. وفي العالم الأحادي القطب، وحتى في العالم ثنائي القطبية في فترة الحرب الباردة.

وثبت ذلك، على سبيل المثال، في انضمامهم إلى نظام عقوبات الأمم المتحدة بقيادة الولايات المتحدة ضد العراق في تسعينات القرن الماضي. لكنهم اليوم لم يفعلوا الشيء نفسه مع روسيا، ويصرون بدلاً من ذلك على تبني موقف الحياد.

ومن ناحية أخرى، يدل هذا على القوة التي اكتسبوها في السنوات الأخيرة، إذ إن العالم أصبح متعدد الأقطاب. وعلى الرغم من أن جيوش تلك الدول لا تزال متحالفة دبلوماسيا مع الولايات المتحدة، فقد تم تنويعها والبحث عن مصادر مختلفة للأسلحة، بما في ذلك من روسيا والصين لتجنب الاعتماد المفرط على واشنطن. كما ازدهرت اقتصادات تلك الدول، الأمر الذي منحها استقلالية اقتصادية أكبر مما كان عليه الأمر في الماضي تجاه الغرب. ومن ناحية أخرى، فإن نمو الصين وعلى نحوٍ أقل نمو روسيا، يعني أن هذه الدول لديها حلفاء بدلا من القوى العظمى يمكنها اللجوء إليهم بدلاً من واشنطن. ولم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تحث حلفاءها على السير في الصف في وقت يمكنهم الاقتراب من بكين أو موسكو. وهذا يوفر قدرا أوسع من الحرية في السعي وراء مصالحها الخاصة مقارنة بالعصر أحادي القطب أو ثنائي القطب. 
 

رغم أن الولايات المتحدة لا تزال تمتلك أقوى جيش في العالم، وتنفق على الدفاع أكثر من الدول العشر الأخرى التي تليها في القوة العسكرية مجتمعة، إلا أن ذلك لم يعد كافيا لردع كل الآخرين عن تحدي هيمنتها

أظهر غزو أوكرانيا حدود تأثير الولايات المتحدة في العالم المتعدد الأقطاب الجديد، لكنه زاد من تماسك التحالف الغربي؛ إذ انضمت 46 دولة إلى نظام العقوبات المفروضة على روسيا، بما في ذلك أستراليا، ونيوزيلندا، وكندا، واليابان، وتايوان، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، إضافة إلى معظم الدول الأوروبية والولايات المتحدة. 
التوترات الغربية

ولم يكن هذا التماسك مضمونا، نظرا للتوترات التي نشأت داخل الكتلة الغربية في السنوات القليلة الماضية، ولا سيما الانقسامات بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبين الولايات المتحدة وكثير من حلفائها تحت رئاسة دونالد ترامب النكدة. وفي واقع الأمر، صرح جو بايدن لاحقا بأنه يعتقد بأن بوتين قلل من تقدير العزم الغربي على دعم أوكرانيا عندما خطط لغزوه، لكن هذا التقدير الخاطئ كان مرده على الأرجح مراقبة الصدامات الغربية الأخيرة. إضافة إلى الوحدة التي أظهرها الغرب في عقوباته على روسيا، كان ثمة استعدادات غربية لإرسال مساعدات عسكرية واقتصادية حيوية إلى كييف، الأمر الذي أتاح لها الاستمرار في الحرب.

Reuters
صاروخ ينطلق من قاعدته في شرق اوكرانيا

ومع ذلك، لم تتبن جميع الدول الغربية سياسة الدعم الكامل لأوكرانيا؛ إذ حرصت المجر على التعبير عن انتقاداتها للسياسة الغربية. فرفضت إرسال أي معدات عسكرية وعرقلت مؤخرا آخر دفعة من المساعدات العسكرية التي تم إرسالها عبر مرفق السلام الأوروبي التابع للاتحاد الأوروبي. كما انتقدت بودابست بشدة العقوبات المفروضة على موسكو، لكنها أيدتها على مضض. وأبدت تركيا حذرًا أكبر. فعلى الرغم من امتلاكها ثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، إلا أنها رفضت الانضمام إلى الآخرين في الحلف الأطلسي في إدانة روسيا، واختارت تبني موقف الحياد في حرب أوكرانيا.

وهذه الحالات هي القيم المتطرفة التي نشأت عن تعدد الأقطاب. فرئيس وزراء المجر، فيكتور أوربان، مقرب من بوتين، وبالتالي هو متردد في تأييد الحملة الغربية ضده. تلك الحالة كانت مستحيلة خلال فترة القطبية الثنائية في الحرب الباردة أو فترة أحادية القطبية التي تلتها، إذ لم تكن الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة لتقبل بإقامة مثل هذه العلاقات الوثيقة مع أعداء واشنطن خلال الثنائية القطبية أثناء الحرب الباردة أو أحادية القطب التي أعقبتها.

 

لكن في العالم متعدد الأقطاب، تكون التحالفات أكثر ميوعة ومرونة، الأمر الذي يسمح للدول بتملق كثير من القوى العالمية في آن معا. وبنفس الطريقة التي لا ترى فيها دول الخليج تناقضا في أن تكون قريبة من واشنطن وفي الوقت نفسه تنضم إلى مبادرة الحزام والطريق الصينية وترحب باللاجئين من روسيا، تعتقد المجر أنه يجب أن تكون عضوًا في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي وأن تتمتع بعلاقات وثيقة مع موسكو. وعلى غرار ذلك، لا ترى تركيا أي تناقض في كونها عضوا في الناتو، في حين ترفض الانضمام إلى العقوبات الأميركية المناهضة لروسيا. فبينما كانت تركيا في فترة الحرب الباردة ثنائية القطبية تخشى الاتحاد السوفياتي وتتحالف مع الولايات المتحدة لتجنب قيام موسكو باستيعابها، فإن تعدد الأقطاب اليوم لا يسبب مثل هذه المخاوف لأنقرة؛ إذ يمكنها أن تكون قريبة من كل من روسيا والولايات المتحدة، دون الشعور بالحاجة إلى الانحياز لأحد الطرفين. 
 

أظهر غزو أوكرانيا حدود تأثير الولايات المتحدة في العالم المتعدد الأقطاب الجديد، لكنه زاد من تماسك التحالف الغربي؛ إذ انضمت 46 دولة إلى نظام العقوبات المفروضة على روسيا


ومع ذلك، ففي حين أن المجر وتركيا قد تكونان متطرفتين فيما يتعلق بأوكرانيا، فإن النظام متعدد الأقطاب قد يؤدي إلى مزيد من الانقسامات في التحالف الغربي في المستقبل.

نذير بأشياء مقبلة؟

وفي حين أن عددا قليلاً فقط من الدول تربطها علاقات وثيقة بروسيا، الأمر الذي جعلها تشك في سياسة الغرب تجاه أوكرانيا، فإن الصين هي القضية الأكثر مدعاة للانقسام. فلقد وقعت معظم دول أوروبا الشرقية، إضافة إلى إيطاليا، والنمسا، ولوكسمبورغ، والبرتغال على مبادرة الحزام والطريق الصينية. ويتناقض هذا على نحو صارخ مع موقف دول أوروبا الغربية، وبريطانيا، والولايات المتحدة على وجه الخصوص، التي تحث على اتباع نهج أكثر عدائية تجاه النمو الاقتصادي الصيني. ومرة أخرى، تتأتى هذه التطورات عن التعددية القطبية، فالموقعون الغربيون على مبادرة الحزام والطريق الصينية لم يروا الصين تهديدا بالطريقة التي كانوا سيرونها بالتأكيد خلال فترة الحرب الباردة. 

وعلى الرغم من أن هذه التوترات قد تجنب الانقسامات القائمة في الوقت الحالي، إلا أنها ستثبت صعوبة في السيطرة عليها إذا تصاعدت مواجهة واشنطن مع بكين، بشأن تايوان أو قضايا أخرى. وعلى نحو مشابه، قد تؤدي السياسات الاقتصادية المتباينة إلى انقسام الحلفاء؛ إذ تستجيب إدارة بايدن لصعود الصين الذي أحدثته التعددية القطبية بتبنيها لسياسة الحمائية الزائفة التي أثارت قلق الاتحاد الأوروبي. فوفقا للخطط الجديدة، تسعى الولايات المتحدة إلى إعادة توطين إنتاج بعض السلع كبطاريات السيارات الكهربائية التي تُصنع بشكل رئيس في الصين حاليا. ومع ذلك، يشعر الاتحاد الأوروبي بالقلق من أن خطط بايدن ستفيد في النهاية الشركات الأميركية وتستبعد المصنعين الأوروبيين. وهذا بعيد جدًا عن العولمة الحرة للسوق التي كانت سائدة في الفترة الأحادية القطبية، حيث كانت الولايات المتحدة تقود الحملة لإسقاط حواجز التجارة العالمية، ويمكن أن يمهد الطريق لحروب تجارية منخفضة المستوى بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. 

ولا تعني هذه التوترات انهيار التحالف الغربي في وقت وشيك؛ حيث نجا ذلك التحالف من الخلافات التي نشأت في فترة الحرب الباردة، كتقليص فرنسا لدورها في حلف شمال الأطلسي أو تبني ألمانيا الغربية لسياسة الشرق (Ostpolitik). وكذلك نجا من الخلافات في فترة أحادية القطبية، كالانقسامات التي نشأت حول حرب العراق عام 2003. ومع ذلك، في العصر ثنائي القطبية، لم يكن هناك شك في أن فرنسا أو ألمانيا الغربية ستغادران التحالف الغربي للانضمام إلى حلف وارسو، في حين أنه في العصر أحادي القطبية لم يكن ثمة منافس قوي للانضمام إليه. وما يجعل العصر متعدد الأقطاب أكثر تهديدا للتحالف الغربي هو أنه لا يقسم العالم إلى معسكرات واضحة، بل إلى عالم من الدول المستقلة، والتي يمكنها الدخول والخروج من التحالفات المرنة عندما يلائمها ذلك. 


وحتى حينه، تم تحفيز عدد كاف من الدول الغربية عند غزو روسيا لأوكرانيا على الوقوف معا ضد موسكو. ولكن قد لا يكون هذا هو الحال في الأزمات المستقبلية. وفي المرة المقبلة، قد يكون هناك دول أكثر من المجر وتركيا تتبنى موقف المعارضة. وفي حين أن واشنطن وبروكسل وغيرهما ستعمل بلا شك بجد للحفاظ على الوحدة، فإن طبيعة التعددية القطبية ستجعل من الصعب على "الكتلة الغربية" الموحدة البقاء على قيد الحياة.

font change