غوته والإسلام

غوته والإسلام

في مثل هذه الأزمنة الصعبة التي تسودها الانفصالات والحروب العرقيّة والمذهبيّة والارتدادات وأنماط الكراهيّة بين كثير من الشعوب وأحيانا كثيرة ضمن الشعب الواحد؛ في أزمنة تراجع أفكار النهضة التي عرفها العالم، والمشرّعة على الانفتاح، والتلاقي بين البلدان والقارّات، نجد أن نعود إلى بعض القامات الأدبيّة والفكريّة والفلسفيّة، التي حاولت أن تمدّ الجسور التي انقطعت (كما نشهد اليوم)، والآفاق التي أوصدت بالعنف والإنكار والانغلاق، فنتذكّر قامة شِعريّة وفكريّة وأدبيّة سامقة، هي إلى رؤياها الإنسانيّة والثقافيّة، تجسّد هذه القِيَم، وتجعلنا نتوقّف عندها، لقيمتها الكبرى، ولِقِيَمها الإبداعيّة؛ فأوّل من نفتقده هو الشاعر والمسرحي والروائي والمفكّر الألماني غوته (1749 – 1832).

إنّه الشاعر "القارة"، رمز المثقف الشامل في تلك المرحلة البعيدة، رائد المغامرات الأدبيّة وغير الأدبيّة المتنوّعة حتى التباعد. لم يترك فنّا في زمانه لم يمارسه: شاعر غنائيّ، كاتب مسرحيّ ومُخرج، ومُنظّر، وكاتب رسائل ومُترجِم، وعالِم طبيعيّات، وفيلسوف وسياسي...

كل هذه الاهتمامات والهواجس أثمرت نحو 130 كتابا، وهو تراث ضخم ثريّ جعل غوته يعمّ تأثيره ألمانيا نحو 60 عاما، وجعل كلّ من جاء بعده، يتأثّر به كنيتشه ولرمانتوف وصولا إلى ماركس، عبر كثيرين سبقوه وتأثّروا به أو جايلوه مثل شكسبير وراسين وكورناي وجان جاك روسو وحافظ الشيرازي وغوته وبودلير.

وإذا كانت بداياته مجموعة ميلودراميّات سهلة إلا أنّه وعلى امتداد مسيرته بدا ناقض أشكال، ومكوّن تقاليد، داعيا إلى تعبير يطلع من الإحساس أو من المعيش وتحت تأثير روسو اقترب من الطبيعة اقترابه من القلب. فالحبّ والطبيعة عنده لم يعودا مجرّد كلمتين بلا معنى، بل صارا جزءا من الحياة ومن الجسد بل كأنّهما الكفّة الأخرى التي تتوازن والعقل. حتى في قصائده الفلسفيّة نجد أن الأفكار تتحوّل عنده طاقات شعوريّة، في صلب لغة حيّة قريبة وفي صلب تجربة تجد تفجرّها في إيقاعات جديدة، وهكذا نجد أن رومانطيقيّته مهّدت لرومانطيقيّات تحوّلت تيّارات ومدارس (هولدرلن، ومن ثمّ ريلكه وجورج تراكل)، ويمكن أن نتجاوز هذه المقاربات لنقرأ غوته الواقع تحت تأثير النص الشرقي وخصوصا الفارسي (مثل الشاعر حافظ الشيرازي). وقد اكتشف هذه العوالم الشرقية (الدين الإسلامي) والشِّعر العربي والصوفيّة العربيّة، والهندوسيّة، فاستمرّ في هذه الكنوز فحاكاها وتأثّرَ بها واستعار من عناوينها ومضامينها استعارته من لغتها. ويمكن القول إنها أخرجته من أسر الطبيعة لتتقدم مواضيع روحانيّة ودينية كالفنّ والصداقة والحبّ، والزُّهد، والموت، وتتجسّد هذه القصائد في "الديوان الشرقي (ترجمه إلى العربية في ثمانينات القرن الماضي عبدالرحمن بدوي).

إن التشريع في الغرب ناقص بالنسبة إلى التعاليم الإسلاميّة. وإننا أهل أوروبا بجميع مفاهيمنا لم نصل بعد إلى ما وصل إليه الإسلام وسوف لن يتقدّم عليه أحد. فإذا كان هذا هو الإسلام أفلا نكون كلّنا مسلمين؟ 

غوته

لكن هذه المقدّمة التي تناولت فيها دور غوته في ميادينه الأدبيّة والمسرحيّة، لا تتوقف عند ظاهرة ذات أهميّة كبرى في روحه وعقله وثقافته، وهي علاقته بالإسلام، والنبيّ محمد والقرآن. فهو على عكس كثيرين من الأدباء والشعراء والفلاسفة الذين نظروا إلى الإسلام نظرة سلبيّة أو ملتبسة، كالفيلسوف هيغل، انفتح بكلّ جوارحه على الثقافة العربيّة والإسلاميّة، يتجسّد في جزء منه في "الديوان الشرقي" لأنّ اهتمامه وحبّه لهاتَين الثقافتَين لم يقتصر على عمل واحد أو فصل واحد وإنّما على امتداد أعمال ومراحل فكريّة وعمريّة عديدة، ففي "الديوان الشرقي" يحمل لمسة إسلاميّة وفارسيّة. وتأثير الثقافة العربيّة جعل البعض يقول: ما كان غوته ليصل إلى ما وصل إليه لولا اطّلاعه على هذه الثقافة، وعلى القرآن، وحكايات "ألف ليلة وليلة" والمعلّقات الشعريّة (وكذلك الشِّعر الفارسي المتمثّل بحافظ الشيرازي).

وعن عمق إعجابه بالأدب العربي يقول: "ربما لم يحدث في أي لغة هذا القدر من الانسجام بين الروح والكلمة والخط مثلما حدث في اللغة العربيّة". وقد أُعجب أيضا بشاعر الفرس الأكبر الشيرازي، واعترف بفضله عليه. لكن لا يفوق إعجابه بالشيرازي سوى عشقه القرآن. يقول: "إن أسلوب القرآن كحلم ساحر مثير للدهشة. فالقرآن كتاب الكتب. وأنا كلّما قرأت القرآن، شعرت أنّ روحي تهتزّ داخل جسمي".ولما بلغ غوته السبعين أعلن أنه سوف يعتزم الاحتفال في خشوع بـ "ليلة القدر" التي أنزل الله فيها القرآن على النبيّ محمّد. أكثر من ذلك: لقد نظم غوته وهو في الثالثة والعشرين قصيدة رائعة مدح فيها النبيّ محمّد.. إذن انفتاحه على العالم وعلى الإسلام بدأ مبكرا وتعاظم مع تقدّمه في السن.

وفي الوقت الذي ينظر فيه كثير من الكتّاب والفلاسفة نظرة دونيّة إلى الشرق، بما فيه الإسلام والعرب، ها هو غوته يقول "إن التشريع في الغرب ناقص بالنسبة إلى التعاليم الإسلاميّة. وإننا أهل أوروبا بجميع مفاهيمنا لم نصل بعد إلى ما وصل إليه الإسلام وسوف لن يتقدّم عليه أحد. فإذا كان هذا هو الإسلام أفلا نكون كلّنا مسلمين؟".

وقال: "بحثت في التاريخ عن مثَل أعلى لهذا الإنسان، فوجدته في النبيّ محمد".

وقال غوته يخاطب الشاعر الفارسي الكبير حافظ الشيرازي "يا حافظ إن أغانيك لتبعث السكون، إنّني مهاجرٌ إليك والأجناس البشريّة المحطّمة بهم جميعا أرجوك أن تأخذنا في طريق الهجرة إلى المهاجر الأكبر محمد بن عبدالله".

إنّ هذا الحبّ الشديد للنبي محمد والإسلام جعل العديد يتساءل: هل اعتنق غوته الإسلام؟

لكن غوته المنسجم في اختياراته الفلسفيّة والدينيّة؛ متنوّع تنوّعا يدرك التناقض، في مجمل أعماله، لكن في هذا التناقض ما يوصف بالجدليّة بين الفنون والشِّعر والرواية. فهو لم يكن رومانطيقيّا بالمعنى المدرسي للعبارة، بل بتقديم الأساس والتجارب الذاتيّة وكذلك الطبيعيّة. ربّما بدا رومانطيقيّا ومبشّرا بها في روايته الرائعة "آلام فيرتر"؛ وكذلك في مسرحه، وقد شكّل مع شيلر الثنائي الأبرز في الدراما الألمانيّة على امتداد تلك المرحلة. ولم يكتفِ بنصوصه المسرحيّة، بل وضع مجموعة من الأفكار لنظريّة لها ومنذ 1771 تأثّر بشكسبير، ولهذا وضع نصّا تكريميّا له، مجسّدا رؤية "هاملت" و"ماكبث" في التخلّي عن القواعد الاعتسافية (خصوصا الأرسطية). فهو مارس المسرح من داخله، كاتبا ومخرجا ومنظّرا. وبداياته المسرحيّة باكورتها عمل تاريخي "غونز برليشنغن ذو القبضة الحديد" (1771) وهي تقليد صارخ لشكسبير.

  إنّه من كبار لن تتكرّر تجاربهم الإبداعيّة، ولا قيَمِهم الثريّة بالانفتاح، والتسامح، والأفكار الحيّة، التي تَعبُر القارّات والأزمنة، والأمكنة والظواهر بعقل سديد، وروح حيّة، وجهد معرفيّ يتآلف مع عاطفة عظيمة للإنسانيّة جمعاء


وفي الصياغة الأولى لمسرحيّته الكبرى "فاوست (1775 – 1787)" سبقه في تقديم موضوعها المسرحي الإنكليزي مالرو، يمضي غوته في اعتماد النصّ المفتوح وتقطيع اللوحات مُهملا وِحْدَتَي الزمان والمكان (الإغريقيتين) والأشكال غير الأكاديمية، بدءا بالأوزان ومرورا بإدراج الأغاني والتهريج والكوميديا والمناخات الكرنفالية؛ ولكن مبالغته في استخدامها هدّدت وحدة المسرحية وقوّتها.

لكنه ومن خلال تناقضاته يعود إلى حضن القواعد الأرسطيّة، التي أثّرت فيه حتى في مستوى أعماله، وبدا أنه متأثّر براسِين وكورناي، ثمّ يحاول تدمير المنحى في مسرحية "افيجنيه في توريس" محتذيا مناخ الكاتب الإغريق يوربيدس.

وتبقى مسرحيّة فاوست برغم تعدّد مسرحيّاته هي الأقوى التي كتبها في أجزاء على مدى خمس سنوات وانتهى من تأليفها قبل أيّام معدودة من وفاته. فحوّلها مسرحيّة ملحميّة، بدلا من أن تكون مجرّد مسرحيّة ناجحة، وهي كما قال عنها الشاعر الروسي بوشكين "ملحمة الأزمنة الحديثة".

إنّه من كبار لن تتكرّر تجاربهم الإبداعيّة، ولا قيَمِهم الثريّة بالانفتاح، والتسامح، والأفكار الحيّة، التي تَعبُر القارّات والأزمنة، والأمكنة والظواهر بعقل سديد، وروح حيّة، وجهد معرفيّ يتآلف مع عاطفة عظيمة للإنسانيّة جمعاء، بلا تعصّب، ولا كراهيّة، ولا تقوقُع! أي كل ما نعانيه اليوم في أكثر من قارّة ومن بلد.

font change