اقتصاد الجزائر بين المراوحة... والممانعة

موازنة بـ 100 مليار دولار، منها 23 مليارا للنفقات العسكرية

Ewan White
Ewan White

اقتصاد الجزائر بين المراوحة... والممانعة

أثار غياب الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن قمة الجامعة العربية في دورتها الثانية والثلاثين في جدة، تساؤلات وفرضيات عن أسباب عدم مشاركته، وهو الذي كان متحمسا للحضور لفك العزلة عن بلاده.

وكان تعديل حكومي في الجزائر أخيرا، أثار ردود فعل متباينة وتساؤلات عديدة حول الأسباب والدوافع التي جعلت الرئيس تبون يُغير 11 من وزرائه بشكل مفاجئ داخل قطاعات مهمة وحساسة تنطوي على رهانات كبيرة، في وقت ينصب النقاش حول طريقة معالجة الصعوبات الاقتصادية والاجتماعية بعد تحسن الإيرادات المالية، بفضل ارتفاع أسعار النفط والغاز، والحرب الروسية على أوكرانيا. هذا التعديل الحكومي هو السابع من نوعه منذ وصول الفريق الجديد (المدني والعسكري) إلى الحكم، بعد الإطاحة بالرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة عام 2019 في حراك شعبي، وتكاثرت الأسئلة عن دواعي التعديل الوزاري وعلاقته بتباين أجنحة داخل النظام، على الرغم من أن وسائل الإعلام الرسمية كانت تتحدث عن إنجازات اقتصادية واجتماعية داخلية غير مسبوقة على حد قولها.

لذلك، اهتمت القنصليات الأوروبية في الجزائر بالتعديل الحكومي الذي تم التمهيد له بإبعاد مسؤولين، في مقدمهم وزير الخارجية رمتان لعمامرة، الذي لم يشارك في اجتماعات ولقاءات مع شخصيات أجنبية، من بينهم مفوض الاتحاد الأوروبي في السياسة الخارجية جوزف بوريل، ورئيسة المجلس الفيديرالي الروسي، فالنتينا ماتفيينكو. وقال محللون إن تغيير وزراء الخارجية والمالية والتجارة له علاقة بالصعوبات التي تواجه الجزائر في علاقاتها مع بعض الدول العربية والأفريقية وحتى الأوروبية، كما له علاقة أيضا بفشل الحكومة في تزويد الأسواق ما يكفي من السلع والمواد الغذائية والاستهلاكية، على الرغم من ارتفاع مداخيل الخزينة بنحو 30 في المئة، نتيجة زيادة أسعار النفط في السوق العالمية.

ديانا استيفانا روبيو

وكانت إيرادات الجزائر من النفط والغاز تراجعت إلى 23 مليار دولار عام 2020 زمن جائحة كوفيد-19 قبل أن ترتفع إلى نحو 50 مليار دولار العام الماضي، بحسب تقديرات دولية. وتوقع البنك الدولي أن يتراجع الدخل الفردي من 4427 دولارا عام 2022، إلى 4094 دولارا عام 2024، نتيجة تراجع محتمل لأسعار الطاقة وضعف قدرات التصدير، بسبب ارتفاع الاستهلاك الداخلي. حيث سينخفض حجم صادرات الطاقة إلى 22 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي المقدر بـ187مليار دولار، وهو ما سيؤدي إلى تآكل الاحتياط النقدي الأجنبي من واردات السلع في منتصف 2023، وقد يتراجع أكثر السنة المقبلة. وتراجعت صادرات الجزائر من الطاقة 26 في المئة في نهاية العام المنصرم بعد أن كانت ارتفعت 59 في المئة في النصف الأول من عام 2022 بحسب البنك الدولي الذي توقع أن يحقق الاقتصاد المحلي نموا في حدود 2,3 في المئة عام 2023، بعدما بلغ النمو 3,5 في المئة عام 2021 وتهاوى أكثر من 5 في المئة عام 2020 عندما تراجع نفط "صحارى بلند" (Sahara Blend) الى 20 دولارا خلال فترة كوفيد-19. وسجل ميزان الحسابات الخارجية فائضا بنحو 6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2022 بعد تسجيل عجز بنسبة 2,8 في المئة عام 2021، مما ساهم في زيادة الاحتياط النقدي الذي ارتفع إلى 57 مليار دولار نهاية العام المنصرم ليغطي 13 شهرا من الواردات، بحسب تقرير الخزينة الفرنسية. وقد ارتفع هذا الاحتياط حاليا الى 64 مليار دولار بحسب بنك الجزائر وهو مرشح للارتفاع أكثر في نهاية 2023.

23 مليار دولار للنفقات العسكرية، من أصل موازنة 100 مليار، والعجز يقدر بنحو 40 مليار دولار، ما يفسر سيطرة العسكر على القرار الاقتصادي والمالي

الاقتصاد لم يستفد من زيادة الإيرادات

ساعد ارتفاع المداخيل في زيادة الإنفاق الحكومي في العديد من المجالات، منها النفقات العسكرية التي رُصد لها 23 مليار دولار عام 2023 من مجموع موازنة تقل عن 100 مليار دولار، على الرغم من تسجيل عجز في الموارد المالية يقدر بنحو 40 مليار دولار. ذلك يفسر سيطرة العسكريين على القرار الاقتصادي والمالي، في بلد يعتمد على عائدات الطاقة بنسبة 93 في المئة من الإيرادات الخارجية. 

وكانت الجزائر أنفقت 9,1 مليارات دولار على شراء الأسلحة بحسب معهد السلام في ستوكهولم، "سيبري"، الذي كشف أن  نفقات التسلح في  الجزائر والمغرب  بلغت 19 مليار دولار عام 2022، تمثل 74 في المئة من مجموع الإنفاق العسكري في شمال أفريقيا. ورجح أن يكون السبب هو استمرار الخلاف حول الصحراء الغربية، ما يؤثر على سياسة الإنفاق العسكري في البلدين، بعد ان انخفضت نفقات التسلح في نيجيريا وجنوب إفريقيا، وهما الاقتصادان الأول والثالث في القارة.

يضع الجيش نفقات التسلح كأولوية على الاستثمار في التنمية، ومن يقول العكس يُتهم بالخيانة ويودع السجن، كحال الجنرال المتقاعد علي غديري، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية،  الذي أضيف إلى سنوات اعتقاله مؤخرا، لحرمانه من أي حقوق سياسية بدعوى "المساس بالاقتصاد الوطني ومعنويات الجيش".

أ.ف.ب./غيتي
خليج الجزائر مع البلدة القديمة للعاصمة المعروفة باسم "القصبة" (الى اليسار) في الجزائر العاصمة

 شباب يفضل الهجرة

أفاد ديوان الإحصاء الجزائري أن المعدل الوطني للبطالة بلغ 11,4 في المئة من الفئة النشيطة، وتصل هذه النسبة إلى 27 في المئة لدى الشباب خاصة سكان المدن. وبسبب اعتماد الاقتصاد على ريع النفط، لا توجد فرص عمل كافية للشباب في ظل ضعف الإنتاج الصناعي الذي لا يتجاوز 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ولا تتجاوز الزراعة 10 في المئة، كما لا توجد أنشطة سياحية في الجزائر مثل  جيرانها. وتزايد عدد الفقراء في المدن والأرياف نتيجة ارتفاع التضخم، الذي يعتبر ضمن الأعلى في شمال أفريقيا، وبلغ سعر صرف اليورو أكثر من 226 دينارا. ولا يسمح للمغادرين إلى الخارج إلا بحمل 90 يورو (أي نحو 100 دولار) في مقابل 10 آلاف دولار في المغرب.

الغاز والممانعة

تعتقد الجزائر أنها ضمن المستفيدين من الحرب الروسية في أوكرانيا، أولا، لقربها من موسكو سياسيا، ويرتقب أن يزور الرئيس تبون موسكو الشهر المقبل، وثانيا، لزيادة مداخيل الطاقة بفعل ارتفاع أسعارها دوليا، وثالثا، لعودة الاهتمام الأوروبي بالغاز الجزائري لتعويض الغاز الروسي، خاصة إيطاليا وفرنسا.

لكن النتائج جاءت هزيلة، فلم تستفد الخزينة كثيرا من ارتفاع الأسعار بسبب ضعف التصدير الذي لا يتجاوز مليون برميل يوميا. ولم تكف الإيرادات في تغطية حاجة الأسواق للمواد الغذائية والاستهلاكية المدفوعة بالعملة الصعبة. ولم تستفد الجزائر من تحويل ملف الغاز إلى ورقة ضغط سياسي واقتصادي ضد بعض الدول الأوروبية خاصة مع إسبانيا، لمعاقبتها على تقربها من المغرب في موضوع  الصحراء، مما أغضب الأوروبيين، فأرسلوا جوزيف بوريل لحمل رسالة إلى الجزائر مفادها احتمال مراجعة اتفاق 2002 وما يتضمنه من دعم مالي.

غيتي
مركز الفصل والضغط النفطي التابع لمجموعة سوناطراك، في الجزائر في فبراير/شباط 2023

وفي نوع من قلب الطاولة على الشركاء التقليديين الأوروبيين، قالت الجزائر رسميا إنها تسعى للالتحاق بالـ"بريكس" (BRICS) التي تضم روسيا والصين والبرازيل والهند وجنوب أفريقيا. وسارعت الهند  إلى الاعتراض على هذا الانضمام كون الاقتصاد الجزائري برأيها لا يستوفي الشروط المطلوبة. فضلا عن وجود مرشحين لهم اقتصاديات أقوى. ولا ترغب نيودلهي أو البرازيل في تحويل هذا التجمع الاقتصادي إلى مواجهة أيديولوجية مع "مجموعة السبع" (G7)، في وقت تحرص السلطات الجزائرية على التأكيد أنها دولة ممانعة، بقيادة الجيش الشعبي الذي يصر على إبقاء الجزائر في خانة الدول المناهضة للاستعمار والغرب الإمبريالي، وتقييد الاستثمارات الأجنبية، ومحاربة التطبيع مع إسرائيل، بالاستناد إلى مرجعية الثورة، وطرد فرنسا بقوة السلاح وتحقيق الاستقلال عام 1962 بعشرات الآلاف من الشهداء.

التسلح في مقابل التنمية

تكاد تنحصر أغلب النفقات في الجزائر بشراء الأسلحة ودعم بعض السلع الأساسية الاستهلاكية، ودفع تعويضات بطالة لفترة محددة لبعض خريجي الجامعات. ولا تعود هذه الاجراءات بالنفع على الاقتصاد، ولا تساهم في تسريع التنمية وخلق فرص العمل وتحديث البنى التحتية والتكنولوجيا المُحفزة لرجال الأعمال والمستثمرين والوافدين.

في رأي البنك الدولي، أن إبقاء هذا المستوى من النفقات المرتفعة، قد يترتب عنه مشاكل على المدى المتوسط في حال انهيار أسعار النفط العالمية، وبالتالي انخفاض المداخيل العامة. وقال ممثل البنك الدولي في الجزائر، كمال براهم، في تصريحات صحفية تعليقا على تقرير صدر مطلع 2023 في واشنطن حول آفاق الاقتصاد الجزائري، إن الاستخدام الرشيد للموارد العمومية، وتشجيع الاستثمارات الخاصة، عناصر أساسية لتجاوز الصعوبات الظرفية الدولية، ووضع الجزائر على سكة النمو الدائم والشامل.

التضخم يلتهم الجيوب

تضررت فئات واسعة من السكان من ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية ونقصها في الأسواق أو إخضاعها إلى المضاربين. وزادت معدلات التضخم إلى 9,4 في المئة في الربع الأخير من العام المنصرم. لكنها تجاوزت 13,6 في المئة بالنسبة إلى المواد الغذائية، نظرا إلى الاعتماد الكبير على الواردات الخارجية في تأمين السلع الاستهلاكية، وفي مقدمها الحبوب والألبان والزيوت. 

وتحتل الجزائر المرتبة الثانية في توريد القمح بعد مصر، وهي تستورد أغلب حاجياتها من روسيا التي تعتبر مزوّد السلاح الرئيس للجزائر. وتتهمها واشنطن وحلفاؤها في حلف شمال الأطلسي بتمويل الحرب على أوكرانيا عبر شراء السلاح الروسي. وبقدر إفادة الاقتصاد الجزائري من الحرب الأوكرانية وزيادة قيمة صادراتها من الغاز، تضررت في المقابل من ارتفاع أسعار القمح والمواد الغذائية في السوق الدولية، كما تأثر الاقتصاد سلبا بارتفاع أسعار المواد الأولية والصناعية. وتتجنب الحكومة توريد مزيد من السلع الاستهلاكية خوفا على الاحتياط النقدي من التآكل، ويمعن هذا القرار في رفع الأسعار الداخلية ويزيد القلاقل الاجتماعية، بسبب ندرة بعض المواد.

لا يسمح للمغادرين من الجزائر الى الخارج إلا بحمل 90 يورو، في مقابل 10 آلاف دولار في المغرب

ووفقا لصندوق النقد الدولي، فإن الزيادة في السيولة التي لوحظت في عام 2022، كانت موجهة نحو الدولة، حيث لم يشهد الائتمان الممنوح للقطاع الخاص سوى انتعاش بسيط. ومن المتوقع أن يصل عجز الموازنة إلى 7,5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2022، وفقاً للإصدار الأخير من تقرير البنك الدولي عن أحدث المستجدات الاقتصادية.

 بلد كبير وشعب فقير

تُعتبر الجزائر أكبر بلد من حيث المساحة في مجموعة منطقة جنوب البحر الأبيض المتوسط وشمال أفريقيا، بـ 2,3 مليون  كيلومتر مربع، يسكنها نحو 47 مليون نسمة بدخل فردي متوسط يقدر بـ 4000 دولار سنويا. لكن ضعف القطاع الخاص، ومحدودية الاستثمارات الأجنبية، وبقاء النفط والغاز كأساس تمويل الموازنة والتجارة الخارجية والحساب الخارجي، ترهن الاقتصاد بتقلبات الأسواق الدولية التي تتحكم في أسعار الطاقة. 

غيتي
محلات السجاد في سوق غرداية الجزائر

وتتزايد الأخطار كلما تراجعت أسعار النفط في مقابل النمو السكاني السريع وحاجته إلى الطاقة. وتوقع ديوان الإحصاء أن يتجاوز سكان الجزائر 51 مليون نسمة في عام 2030، في ظل ضعف الإنتاج الزراعي وهجرة الأرياف نحو المدن والتغيرات المناخية المهددة للأمن الغذائي وشح مصادر المياه العذبة. كما أن محدودية التصدير (أقل من مليون برميل يوميا) يحد من تحويل العائدات إلى التنمية، كما هي الحال في دول نفطية عربية تتمتع بأضعاف حجم هذا الإنتاج. 

font change