الاقتصاد البحريني ينهض بمهنية أبنائه

استثمار في التنمية البشرية والقطاع الخاص والتنويع الاقتصادي ونمو ملحوظ

Shutterstock
Shutterstock
مشهد بانورامي للمنامة وعماراتها الحديثة

الاقتصاد البحريني ينهض بمهنية أبنائه

تحتل البحرين مكانة ثقافية مهمة في تاريخ الخليج العربي على الرغم من صغر مساحتها ومحدودية قاعدتها السكانية. بدأ التعليم النظامي في البحرين عام 1919 عندما تأسست أول مدرسة، وتعتبر البلاد من الدول التي توفر التعليم للسكان كافة من دون تمييز حيث افتُتحت أول مدرسة للبنات عام 1928. تمكن عدد من الكويتيين والسعوديين وغيرهم من أبناء الخليج في النصف الأول من القرن العشرين من الالتحاق بمدارس البحرين حتى نهاية المرحلة الثانوية. بعد مرور ثماني سنوات، وفي عام 1927، أرسلت البحرين بعثة للتعليم الجامعي في الخارج حيث التحق ثمانية من الطلبة بالجامعة الأميركية في بيروت. وقد مكن التطور التعليمي من الارتقاء بالحياة الاقتصادية في البلاد.

بدأ عصر النفط في البحرين في عام 1935، عندما تدفق انتاج البئر الأولى في منطقة الخليج العربي. وبعد ارتفاع مستوى الانتاج، تم تصدير أول شحنة نفط خام إلى اليابان عام 1934. الجدير بالذكر أن البحرين أقامت مصفاة تكرير في عام 1936. كما امتلكت ثروة من الغاز الطبيعي الذي جاء اكتشافه باكرا في عام 1848، الأمر الذي مكّن من إنشاء مصنع لمعالجة الغاز وتحويله إلى منتجات مشتقة مثل النافتا والبروبان والبيوتان. ولا يزال القطاع النفطي يمثل أهم القطاعات الاقتصادية في البلاد على الرغم من أن إنتاج النفط لا يتجاوز 198 ألف برميل يومياً وهو يمثل نحو 0,2 في المئة من الانتاج النفطي العالمي.

تتميز البحرين بنشاط المواطنين في مهن وحرف متنوعة، بخلاف دول خليجية أخرى، حيث يعزف المواطنون عن العمل في العديد من المهن الأساسية والضرورية نتيجة لثقافة الريع وتوسع الاعتماد على العمالة الوافدة

قطاع توظيف نشط

يقدر عدد سكان البحرين بما يقارب 1,5 مليون نسمة، بحسب بيانات البنك الدولي، يمثل المواطنون 48 في المئة من العدد الاجمالي، والوافدون 52 في المئة. تتميز البحرين بانخراط المواطنين في مهن وحرف متنوعة، بخلاف دول خليجية أخرى، حيث يعزف المواطنون عن العمل في العديد من المهن الأساسية والضرورية نتيجة تفشي ثقافة الريع وتوسع الاعتماد على العمالة الوافدة. أكدت تصريحات رسمية خلال العام المنصرم أن عدد العاملين في البحرين في القطاع العام تجاوز 57 ألفا في حين قارب عددهم 560 ألفا في القطاع الخاص. وكشفت البيانات الرسمية أن نسبة العمالة الوطنية ارتفعت في عام 2022 إلى 69 في المئة من إجمالي العاملين في القطاع الخاص. إن توسع التوظيف لدى القطاع الخاص سيساعد الحكومة في خفض نسب البطالة بين المواطنين التي يتوقع أن تنحدر إلى 4,4 في المئة السنة الجارية بحسب صندوق النقد الدولي. كانت هناك مطالبات متواترة خلال العقدين المنصرمين تنادي بإيجاد فرص عمل للمتدفقين من الشباب إلى سوق العمل، إلا أن البحرين لا تملك رفاهية توفير فرص عمل في الحكومة أو القطاع العام كما هي الحال في الكويت وقطر والإمارات، نظراً إلى محدودية الإيرادات التي تحصلها الحكومة، وبالتالي، فإن تشجيع الاستثمار وتوسع أعمال القطاع الخاص هما من الحلول الناجعة لتوظيف المواطنين.

Shutterstock
عملة البحرين

مركز مالي ومصرفي خليجي 

خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، عمدت الحكومة البحرينية إلى تشجيع تأسيس مصارف أو فتح فروع لمصارف دولية في البلاد (Offshore Banks) تتمتع بميزات وشروط جذابة لتحويل البحرين إلى منطقة اقتصادية حرة ومركز مالي أساسي في منطقة الخليج العربي. وأصبحت المنامة مركز عمليات تمويل كبيرة لمشاريع متنوعة في قطاعات عديدة في بلدان المنطقة. لكن هذه الظاهرة التي كان المراد منها محاكاة تجربة بيروت في ستينات القرن الماضي أو هونغ كونغ أو سنغافورة أو حتى لندن أو جيرسي، واجهت تحديات موضوعية نظراً الى المتغيرات في تضاريس الاقتصاد العالمي. هذا بالإضافة إلى الأحداث السياسية والحرب العراقية الإيرانية وغزو العراق للكويت وتأثيرات الأزمات المالية الاقليمية والعالمية وانعكاساتها على المصارف وارتفاع درجات الانكشاف. إلا ان البحرين تظل حتى يومنا هذا مركزاً مالياً جيداً حيث أظهرت بيانات بنك البحرين المركزي في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2022 أن عدد مؤسسات القطاع المالي العاملة في البلاد بلغ 365 بما في ذلك نحو 86 مصرفا بين مصارف وطنية وأجنبية.

ويعمل في القطاع المالي نحو 14 ألفا من البحرينيين والوافدين من بينهم أكثر من سبعة آلاف في القطاع المصرفي، كما تقدر الأصول الإجمالية في النظام المصرفي بـ 225 مليار دولار. وتلعب المصارف في البحرين دوراً في النظام المصرفي الخليجي، وأصبحت المنامة مركزاً مهماً للإدارة المصرفية وتمكنت من تطوير تقنيات العمل المصرفي ووفرت فرص تدريب الكوادر العاملة في المصارف الخليجية الأخرى.

البحرين مركز مالي خليجي رئيسي، ويبلغ عدد مؤسسات القطاع المالي العاملة في البلاد 365 مؤسسة بما فيها 86 مصرفا وطنيا وأجنبيا

نمو اقتصادي ملحوظ

عانى الاقتصاد البحريني من آثار جائحة كوفيد-19 في عامي 2020 و2021، لكن البلاد بدأت بالتعافي إذ أشارت تقديرات البنك الدولي إلى أن الاقتصاد نما بنسبة 2,2 في المئة في عام 2021 بعد انكماش نسبته 5 في المئة في عام 2020. كما سجل الاقتصاد البحريني نموا ملحوظا في 2022 بنسبة 4,9 في المئة، وفقا لبيانات هيئة المعلومات والحكومة الالكترونية. كان للاقتصاد غير النفطي دور فاعل في تحقيق هذا النمو حيث سجل معدل نمو 6,2 في المئة، وتساهم القطاعات الاقتصادية غير النفطية بـ83,1 في المئة من الناتج المحلي الاجمالي الذي بلغ 13 مليار دينار بحريني أو 34 مليار دولار. 
 

ويبدو أن قطاع السياحة قد عزز نموه حيث ارتفعت الإيرادات السياحية 50 في المئة في 2022 لتصل الى نحو 4 مليارات دولار، فيما ارتفع عدد الزوار نحو 20 في المئة فبلغ 9,9 ملايين سائح في العام نفسه. افاد هذا القطاع من الانفتاح الاقتصادي والاجتماعي، ليستقطب عددا أكبر من الاجتماعات والمؤتمرات المتخصصة واستضافة أنشطة رياضية مثل "فورمولا 1" ومسابقات كروية. وارتفع نمو القطاع العقاري وقطاع الصناعات التحويلية بنسب مهمة تتراوح من 3 إلى 5 في المئة، وتحسن انتاج مصفاة البحرين وارتفع بنسبة 9,7 في المئة خلال عام 2022.

وكانت البحرين أطلقت في نهاية 2021 استراتيجيا قطاع الصناعة 2022-2026، التي تتمحور حول زيادة مساهمة القطاع الصناعي في الناتج المحلّي الإجمالي، وزيادة صادرات القطاع الصناعي الوطنية المنشأ، وتوفير فرص عمل واعدة للمواطنين في القطاع الصناعي، كما ترتكز على دعم تحوّل القطاع نحو الثورة الصناعية الرابعة، وتطبيق مفهوم الاقتصاد الدائري للكربون والحوكمة البيئية والاجتماعية، وتشجيع الاستثمار في البنية التحتية التكنولوجية ورقمنة التصنيع، وزيادة كفاءة سلاسل الإمداد والتوريد عبر تكامل الصناعات الخليجية. هذه المؤشرات التي أكدتها المصادر الحكومية البحرينية تشير إلى أن البلاد تجاوزت أزمة كوفيد-19 وتمكنت من الافادة من المتغيرات السياسية حيث تعزز الاستقرار الأمني والاجتماعي.

نموذج اقتصادي فريد

تمثل البحرين نموذجاً اقتصادياً فريداً في منطقة الخليج، فعلى الرغم من اكتشاف النفط باكرا في البلاد، لا يمكن للمنامة أن تعتمد على إيراداته نظراً إلى محدوديتها، لذا هي عازمة على تحسين أداء مختلف القطاعات. كما لا يمكنها أن تغفل أهمية التنمية البشرية التي تعتبر البديل الاستراتيجي للنفط في دول الخليج الأخرى. وكما عززت الاهتمام بالتعليم منذ عشرينات القرن الماضي، لا بد لها من أن تكثف الاهتمام بالتطورات التكنولوجية الراهنة ورفع مهارات المواطنين للتكيف مع المتغيرات والتحديات في سوق العمل.

 تكمن قدرات البحرين للافادة من التحولات الجارية في الاقتصاد العالمي، في الثقافة الاجتماعية التي شهدت ازدهارا على مدى العقود الماضية تمثل في احترام قيم العمل والتحفيز للافادة من العلوم والتقنيات الحديثــــة في أوساط الشباب البحريني. وتطغى السمات المدنية على نمط الحياة والعلاقات الأسرية والاجتماعية، كما تعززت قيم المهنية في أوساط الفئات العاملة، وكذلك في ارتقاء أوضاع المرأة  البحرينية وتحسن مستويات التعليم وانخراطها في سوق العمل.

سجل الاقتصاد البحريني نموا ملحوظا في 2022 بنسبة 4,9 في المئة، وكان للاقتصاد غير النفطي دور فاعل في تحقيق هذا النمو اذ سجل معدل نمو 6,2 في المئة

لا شك أن الاقتصاد البحريني يتطلب دعما مستمرا من دول الخليج الأخرى وتحفيزا للمستثمرين لتوظيف الأموال في القطاعات الحيوية ومنها السياحة والصناعات التحويلية والخدمات اللوجستية. كما أن الافادة من عناصر قوة العمل البحرينية في بلدان خليجية أخرى أصبحت ضرورية لإفساح المجال أمام الكفاءات المهنية لتوظيف قدراتها في الدول الشقيقة. تطمح الحكومة البحرينية من خلال الرؤية الاقتصادية 2030 إلى بناء اقتصاد متنوع ومنتج بقيادة القطاع الخاص ورفع مستوى المعيشة. تتشابه هذه الأهداف مع أهداف الدول الخليجية الأخرى، لكن ما يميز البحرين، عدم امتلاكها امكانات كبيرة في القطاع النفطي مما يضطرها للاعتماد على القطاعات غير النفطية وتعزيز كفاءة قوة العمل الوطنية والارتقاء بمستوياتها المهنية. 

font change