حروب العملات انطلقت

في معاركها الأولى ... الذهب هو الرابح

Nicola Ferrarese
Nicola Ferrarese

حروب العملات انطلقت

في عام 1855 تحدث الكاتب الفرنسي الشهير فيكتور هوغو عن حلم أوروبا بعملة موحدة. بعد نحو قرن من الزمن، تلاحقت الأحداث سريعا في اتجاه هذا الحلم. البداية كانت عام 1969 عندما وضع رئيس وزراء اللوكسمبورغ بيار ويرنر أول مخطط في هذا الشأن. استكملت مراحله على التوالي وصولا الى إطلاق اليورو كعملة أوروبية في السنة الأخيرة من القرن الماضي. تظهرت تبعا لذلك، وللمرة الأولى، القوة النقدية للقارة العجوز بين الأمم. ترافق ذلك مع كتابات وتحليلات في حينه تتحدث عن مستقبل واعد للـيورو في منافسة الـدولار كعملة عالمية، إلا أن تتابع الأحداث خلال العقدين الماضيين اثبتا أن هذا الأمر كان من قبيل الآمال لا التحليلات الموضوعية.

الأمر نفسه يتكرر الآن مع الصين الصاعدة، أكبر دائن ثنائي حالياً، وثاني أكبر اقتصاد في العالم. مع ذلك، عملتها الرنمينبي (اي عملة الشعب) هي الخامسة في ترتيب سلة عملات حقوق السحب الخاصة (SDR) التي يصدرها صندوق النقد الدولي بعد الدولار واليورو والين والجنيه الاسترليني.

في توزيع احتياط العملات الأجنبية لدى المصارف المركزية، تبلغ نسبة اليوان 2,69 في المئة فقط، في حين نسبة اليورو20,47 في المئة والدولار 58,36 في المئة

عقدت حكومة بكين منذ بداية العقد الماضي عددا من الاتفاقات الدولية في اتجاه المزيد من التسعير بعملتها في تعاملات النفط والغاز والسندات المالية وصفقات السلع العابرة للحدود. كما أزالت قسما من القيود المفروضة على تدفقات رأس المال. وافتتحت أكثر من 15 مركزا تجاريا خارجيا يمكن إجراء المعاملات فيها بين الرنمينبي والعملات الأخرى. أكبر هذه المراكز في هونغ كونغ ولندن، ومن ثم باريس وفرانكفورت ولوكسمبورغ. وأنشئ نظام للدفع لتسهيل المعاملات التجارية بالعملة الصينية، وأقيمت غرف مقاصة للمدفوعات فيها، كما طرحت عملة رقمية وطنية للدفع الإلكتروني (DCEP) لتجاوز نظام رسائل المدفوعات الدولية الـ"سويفت" (SWIFT).

لا يزال من الصعب اعتبار الرنمينبي (اليوان) عملة دولية، مع كل التطورات السابقة. توصيفها الفعلي أنها "عملة ناشئة" ارتقت الى "عملة شائعة الاستخدام" ومؤهلة لأن تصبح "عملة عالمية".

أ.ف.ب.
العملة الصينية بيد أحد الصرافين

فهي، وإن كان صندوق النقد الدولي يعتبرها عملة احتياط رسمية، إلا ان آراء المشاركين في الأسواق المالية، تبقى أكثر أهمية في تحديد وضعها، وهذا ما يُعتدّ به في توزيع احتياط العملات الأجنبية  لدى المصارف المركزية، إذ تبلغ نسبة اليوان فيها 2,69 في المئة فقط، في حين تبلغ نسبة اليورو20,47 في المئة والدولار 58,36 في المئة.

مردّ هذا القصور، عدم رغبة الحكومة الصينية تحرير سعر الصرف وفتح حساب رأس المال بالكامل للسماح لقوى السوق بتحديد القيمة الخارجية لعملتها. علاوة على ذلك، لا تزال الأسواق المالية في الصين محدودة وغير متطورة بسبب وجود العديد من القيود؛ منها هيكل أسعار الفائدة الصارم. أما أسواق سندات الدين الحكومية والشركات الصينية فصحيح أنها كبيرة جدا، لكنها ذات حجم تداول محدود وأطر تنظيمية ضعيفة، الأمر الذي لا يساعد على بناء الثقة في الأسواق المالية الصينية. 

المفارقة هي أنه بينما يصر الصينيون على أن تصبح عملتهم عالمية، فإن سياساتهم المالية والاقتصادية تنحو بالاتجاه المعاكس، ما يدل على أن جل ما تريده بكين هو الفوائد الجيوسياسية التي ستكسبها من هيمنة عملتها مع تجنب دفع التكاليف الاقتصادية في المقابل. 

فالاقتصاد الصيني محاصر بفوائض هيكلية قائمة على طلب محلي ضعيف لانخفاض حصة الأسر الصينية  من الناتج المحلي الإجمالي، الأمر الذي لا  يساعد  في أن  يكون اليوان مهيمنا عالميا. فهذا الأمر يتطلب السماح بحصول عجز يمكّن الأجانب من الحصول على الأصول الصينية وإعادة توزيع للدخل على المستوى الوطني.  

الدليل هو تفوق الصين أخيرا على الاقتصاد الأميركي من حيث الحجم. مع ذلك بقيت عملتها في المرتبة الخامسة من حيث احتياطيات النقد الأجنبي العالمية.

المفارقة هي أنه بينما يصر الصينيون على أن تصبح عملتهم عالمية، فإن سياساتهم المالية والاقتصادية تنحو بالاتجاه المعاكس، ما يدل على أن جل ما تريده بكين هو الفوائد الجيوسياسية التي ستكسبها من هيمنة عملتها مع تجنب دفع التكاليف الاقتصادية في المقابل

على صعيد آخر، يصعب اعتبار اليوان عملة "الملاذ الآمن" للمستثمرين. فالدولة التي تسعى للحصول على هذا الوضع لعملتها يجب أن لا تكتفي بالتحرير المالي بل عليها تكوين إطار مؤسساتي سليم، وهذا ما  لا توفره الصين، من قضاء مستقل، وحكومة منفتحة وشفافة، ومؤسسات عامة قوية، خاصة المصرف المركزي المستقل والموثوق به.  

لا منافس للدولار حاليا

لذلك، يرى البروفسور إسوار براساد، أستاذ سياسة التجارة الدولية في جامعة "كورنيل" والزميل في معهد "بروكينغز"، أن المكاسب التي حققها اليوان في العقد الأخير، جاءت على حساب اليورو والجنيه الاسترليني بدلاً من الدولار. ما يعني أن هناك احتمالا ضئيلا لتأثير التداول المتزايد بالرنمينبي على وضع الدولار كعملة رائدة في توفير السيولة العالمية وعمليات الدفع وتكوين الاحتياطي وتوفير الملاذ الآمن.  

واقرت جانيت يلين وزيرة الخزانة الاميركية للـ"سي. إن. إن." في 16 أبريل/نيسان الماضي، بأن العقوبات النقدية والاقتصادية المفروضة على روسيا والصين وإيران ودول أخرى تعرض هيمنة الدولار للخطر بمرور الوقت، حيث تسعى الدول المستهدفة إلى إيجاد بديل للدولار.

وأضافت أن استعمال الدولار كعملة رائدة سيستمر لأنه  ليس من السهل على البلدان الأخرى إيجاد بديل يتمتع بخصائص البنية التحتية للولايات المتحدة نفسها التي مكنت عملتها من خدمة العالم، وأهمها أسواق رأس المال الناشطة وسيادة القانون.  

لقد بدا اليورو لكثيرين عند إطلاقه أنه العملة الواعدة التي  ستنافس  الدولار  على الريادة، فدوله يسود فيها القانون، ورصيد ديونها السيادية الإجمالية ينافس مثيله في الولايات المتحدة، غير أن عدم وجود سوق مشتركة للديون السيادية في منطقة اليورو وسند خزانة أوروبي واحد، أفضى لأن يكون شراء الأوراق المالية المقومة باليورو أمرا غير سهل مقارنة بسندات الخزانة الأميركية التي تعتبر، إضافة إلى ذلك، أكثر أمانا. وهذا ما يفسر بقاء حصة اليورو منخفضة عن حصة الدولار كعملة احتياطية وفي النشاطات التجارية والمالية، الأمر الذي يعكسه الفرق القائم بين وزنَي اليورو والدولار في حقوق السحب الخاصة، فالأول يبلغ 29,31 في المئة والثاني يبلغ  43,38 في المئة.

يقول وزير الخزانة البريطاني السابق البارون جيم أونيل، إن الجهود الحثيثة التي تبذلها دول الـ"بريكس" (BRICS) لتوسيع نطاقها ليضم دولا وازنة من شرق آسيا والخليج العربي وأفريقيا وأميركا الجنوبية والمكسيك للتخلص من هيمنة الدولار وتعزيز التنافس مع مجموعة الدول السبع، ستُجابه بالمعوقات نفسها المذكورة آنفا، لا بل بصورة أعمق وأشد تعقيدا، لأنها ستظهر تناقضات مستقبلية في تجمعها، مثل الجمع بين أضدادين تاريخيين كالصين والهند، وحتى خشية الأعضاء من سيطرة راجحة لأحدهم "ما يعني ان هيمنة الدولار الأميركي لن تكون موضع شك ابدا".

في الاتجاه نفسه يرى البروفسور بول كروغمان، الحائز جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2008، "أن هيمنة الدولار في الأسواق العالمية ليست في خطر، وأنه أكثر سيولة من الرنمينبي، وأن النظام القانوني الأميركي يوفر الحماية لحاملي الدولار، فـطالما لم يكن المرء ديكتاتورا يخطط لارتكاب الجرائم، فلا داعي للخوف من أن تصادر الحكومة ممتلكاته. بعكس الصين، حيث من الممكن  أن  تتعرض أمواله للخطر عند تصريحه أو قيامه بأمر لا يقبله القائد"، مضيفا أنه "لو تراجعت هيمنة الدولار، فلن تكون كارثة على الاقتصاد الأميركي الذي لديه الكثير من الروافع، فالنمو الاقتصادي استمر في انكلترا على الرغم من تراجع عملتها بعد الحرب العالمية الثانية، والأمر الوحيد الذي له تأثير كبير على الثقة بالدولار هو التخلف عن سداد ديون الولايات المتحدة".

حرب عالمية اقتصادية

في المقابل يرى القانوني جيم ريكاردز في مؤلفه "حروب العملات"، أن العالم يعيش راهنا حربا عالمية ستبقى عنوان المرحلة المقبلة، وأن محاورها تتشكل بوضوح، وأدواتها ليست الجنود والدبابات والقنابل والطائرات، بل الاحتياطات الذهبية والعملات والأسهم والسندات والمشتقات المالية، ومخلفاتها من الانهيارات النقدية والتضخم  والإفلاسات والركود والبطالة، وصولا إلى إعادة صياغة نظام نقدي عالمي جديد متوازن ومتعدد القطب.  

خلال هذه الحرب، سيستمر الدولار في فقدان حصته في السوق ببطء، فالاقتصاد العالمي لم يعرف في تاريخه ثوابت أبدية، وليس هناك ما يشي  بأن عصر الدولار  سيخالف هذه القاعدة التاريخية فيكون أكثر ديمومة من عصر أية عملة أخرى. في المقابل لم تتظهر بعد في شكل أساسي عملة حاضرة للحلول مكانه في الريادة في المستقبل المنظور، فالحاضر هو فقط عملات للمقارعة ليس إلا، وإن تحقق النجاح لإحداها فما الضامن من عدم تكرار الانحرافات والتشوهات نفسها؟ 

من المؤكد، وفقا للتقرير السنوي الذي ينشره خبيرا العملات، رونالد  ستويفيرل ومارك فاليك تحت عنوان "بالذهب نثق"، أن سعر الأخير سيرتفع باضطراد في المستقبل إلى حين التوصل إلى المرتجى وهو "بريتون وودز" جديد تتعدد وتتوازن فيه عملات الأقطاب وغيرهم ضمن آلية تنحو لمصلحة  البشرية في الاستقرارين المالي والنقدي!
 

font change

مقالات ذات صلة