تصعيد إسرائيلي مع إيران بالتزامن مع تهدئة عربية

إيران لا تريد التراجع عن مكاسبها في المنطقة ولذلك عواقب عميقة على الاستقرار

تصعيد إسرائيلي مع إيران بالتزامن مع تهدئة عربية

مع استمرار الحكومات في جميع أنحاء الشرق الأوسط بركوب موجة من المشاركة وتطبيع العلاقات مع الخصوم السابقين، يمكن الآن القول إن عصر الربيع العربي قد ولى. وفي قلب هذه الديناميكية المتحوّلة الجديدة، والمستمرة، يكمن قرار الدول العربية الكبرى بإعادة الانخراط مع إيران وتخفيف حدّة مواقفها تجاه الحملات التي تقودها طهران في مسارح مثل سوريا واليمن والعراق.

بعد أن أمضت سنوات في قيادة نهج إقليمي تجاه إيران تم تحديده بالعزلة والمواجهة، تعمل المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، ودول أخرى، الآن، على تعزيز المشاركة والتكامل. وكانت الدول العربية قد أدانت سابقا إدارة أوباما لتبنيها فكرة أن إشراك إيران قد يغيّر من سلوكها، إلا أن هذا النهج نفسه، لربما يحدد الآن الاستراتيجية العربية. وسيكون عامل الوقت كفيلا بتحديد أي استراتيجية أكثر فعالية.

وبعيدا عن السياسة، والارتباطات الدبلوماسية، ثمة حقيقة واحدة، لا مفر منها، وهي أن إيران تدخل هذا الفصل الإقليمي الجديد. في الواقع، على الرغم من التحديات المحلية الكثيرة في الداخل، تعمل إيران حاليا على تأمين المكاسب التي تحققت منذ عام 2011 في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق واليمن، وتوطيدها، والبناء عليها. من نواح عديدة، هل تحققت الرؤية الإقليمية التي بدأت لأول مرة مع ثورة إيران عام 1979 بشكل كبير.

الدول العربية أدانت سابقا إدارة أوباما لتبنيها فكرة أن إشراك إيران قد يغيّر من سلوكها، إلا أن هذا النهج نفسه، لربما يحدد الآن الاستراتيجية العربية

في الوقت الذي يُنظر فيه إلى الولايات المتحدة بشكل متزايد على أنها غير مهتمة، وغير منخرطة في الأزمات الإقليمية والدبلوماسية، ومع استبعاد احتمال التوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، فإن موجة خفض التصعيد في جميع أنحاء الشرق الأوسط اليوم تعزز في الواقع المكاسب الكبرى لإيران. ومع أن الاقتصاد الإيراني ربما يكون منحدرا نحو الحضيض بسبب العقوبات الأميركية، والعزلة الإقليمية، إلا أنه يبدو مستعدا– أي الاقتصاد- لفترة من إعادة الإدماج والتعافي. إذن؛ لا يمكن أن يكون "الحرس الثوري" الإيراني أكثر سعادة.

كان الصراع الأخير بين إسرائيل وغزة دليلا على وضع  إيران وعواقبه المقلقة. لم تلعب "حماس" أي دور في الأعمال العدائية، وعلى الرغم من الجهود المكثّفة التي بذلتها "حماس" نفسها، وكذلك مصر وقطر، لم يتم كبح جماح حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية. ووفقا لمسؤولين أمنيين إقليميين مطلعين، فإن حملة الجهاد الإسلامي لم تُدر من داخل غزة، بل من قبل قياديين موجودين في لبنان وسوريا، يعملون جنبا إلى جنب مع "الحرس الثوري" الإيراني. ولم تصمم أي من آليات تخفيف التوتر التقليدية للتعامل مع هذا الموقف.

وكما هو الحال مع الصراع السابق بين إسرائيل وغزة في أغسطس/آب 2022، التزمت إسرائيل و"حماس" باتفاق عدم الاعتداء، لكن النتيجة أكدت الزيادة الكبيرة في ثقة حركة الجهاد الإسلامي وترابطها مع البنية التحتية لوكلاء إيران على مستوى المنطقة. وبالنظر إلى تصاعد موقف حزب الله في لبنان، بما في ذلك إطلاقه لهجوم بالقنابل شمالي إسرائيل في مارس/آذار 2023، فإن المسار هنا مقلق.

AP
أعمدة دخان بعد قصف إسرائيلي لغزة في 10 مايو 2023.

 

الاقتصاد الإيراني ربما يكون منحدرا نحو الحضيض بسبب العقوبات الأميركية، والعزلة الإقليمية، إلا أنه يبدو مستعدا لفترة من إعادة الإدماج والتعافي. ولذا لن يكون "الحرس الثوري" الإيراني أكثر سعادة


وفي الوقت نفسه، قام احد القياديين الحوثيين، بزيارة نادرة إلى العراق، حيث عقد اجتماعات ثنائية مع قادة الميليشيات المدعومة من إيران في بغداد. ومن الواضح أن القصد من التوقيت، والرؤية العامة، هو الإشارة إلى الموقف الذي يشعر به الحوثيون وسط وقف إطلاق نار مستدام يعمل الحوثيون في اليمن، على ترجمته لصالحهم. في حين أن وقف إطلاق النار ذاته، يعطي الثقة للجهود الدبلوماسية لحل الصراع المستمر منذ سنوات في اليمن، إلا أن تقدما لم يحرز فيما يتعلق بحل الدوافع الأساسية الأعمق للصراع الأهلي نفسه.

وفي العراق أيضاً، ازدادت جرأة الوكلاء الإيرانيين والجبهات المسلحة في الأسابيع الأخيرة، حيث هدّدوا علنا السفيرة الأميركية ألينا رومانوفسكي، والسفارة الأميركية في بغداد، بينما أعلنوا لاحقا، مسؤوليتهم عن هجمات قاتلة ضد القوات الأميركية. وقبل شهرين فقط، أطلقت ميليشيات متشددة إيرانية مقرها العراق طائرة مسيرة انتحارية شمال شرقي سوريا، مما أسفر عن مقتل متعاقد أميركي وإصابة أكثر من 24 جنديا أميركيا. وأظهر هذا الهجوم تنسيقا كبيرا ومدروسا، إذ تم توقيت حدوثه مع فرصة نادرة ومؤقتة، حيث أوقف تشغيل نظام الدفاع الجوي الأساسي في القاعدة الأميركية للصيانة.

لا تزال هناك أسئلة مشروعة حول كيفية معرفة الجهات الفاعلة الإيرانية المجاورة في العراق أو تمكنها من اكتشاف مثل هذه المعلومات الحساسة عبر الحدود في سوريا. وهناك احتمال للتواطؤ الروسي، بالنظر إلى الوجود المتكرر للطائرات الروسية فوق المجال الجوي في ذلك الوقت والشراكة الاستراتيجية القوية المتزايدة بين إيران وروسيا- في سوريا وأوكرانيا.

إن الكشف الأخير عن دور موسكو في تسهيل مخطط معقد للتهرب من العقوبات عابر للحدود الوطنية يديره الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس وحزب الله يضيف إلى ذلك شكوكا كثيرة.

ونهاية، الجوهرة في تاج أجندة إيران الإقليمية: سوريا.

في 3 مايو/أيار، أجرى إبراهيم رئيسي أول زيارة رئاسية لإيران إلى دمشق منذ 12 عاما، معلنا على الملأ الانتصار، واستقبلته حشود رتبها النظام لترديد شعارات شيعية وإطلاق هتافات باللغة الفارسية، وهو مشهد غير عادي للغاية إن لم يكن غير مسبوق في سوريا. وتبع ذلك، ما لا يقل عن اثنتي عشرة اتفاقية اقتصادية وخطط محتملة لتدشين منشآت صناعة دفاعية سورية- إيرانية مشتركة على الأراضي السورية. وكانت الرسالة من الزيارة ومتابعاتها واضحة: إيران موجودة في سوريا لتبقى، ومن غير المرجح أن تتأثر ميزتها الاستراتيجية من قبل القوى الخارجية.

وفي كل الحالات تقريبا، تريد إيران عدم التراجع عن المكاسب في جميع أنحاء المنطقة ما يمكن أن تكون له عواقب عميقة- بالنسبة للديناميكيات الإقليمية، وآفاق الاستقرار الحقيقي على المدى الطويل، وقدرة الولايات المتحدة على البقاء فاعلا مركزيا مشاركا في الشؤون الإقليمية (إذا كانت لا تزال ترغب في ذلك).

الرسالة واضحة من زيارة إبراهيم رئيسي إلى سوريا ومتابعاتها، وهي: إيران موجودة في سوريا لتبقى، ومن غير المرجح أن تتأثر ميزتها الاستراتيجية من قبل القوى الخارجية

وبالإضافة إلى المكاسب الإقليمية لإيران، فإن عدم وجود أي اتفاق نووي الآن وضع برنامج إيران النووي في حالة قدرة فعلية على التصعيد. وعليه؛ يبدو أن احتمالية أي اتفاق نووي مستقبلي باتت مستبعدة تماما. وفي الوقت نفسه، تستمر إيران في التخصيب إلى مستويات أعلى من أي وقت مضى وتعزيز نفسها ضد الهجوم الخارجي. وفي الواقع، وفقا لكبار المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين، فإن المنشأة النووية الإيرانية الجديدة في نطنز مدفونة على عمق كبير تحت الأرض، مما يعني أنه لا يمكن اختراقها حتى بواسطة أحدث التقنيات العسكرية.

وبينما تستثمر الدول العربية في خفض التصعيد مع إيران، تتصاعد التوترات بين إسرائيل وإيران. إذ بدأت أجهزة الأمن الإسرائيلية تحذر علنا من مؤامرات محتملة لـ"حزب الله" ومن التهديدات المتزايدة التي يشكلها نشر "قواعد إرهابية عائمة" إيرانية في الخليج، بالإضافة للتهديدات الاستراتيجية الإيرانية من سوريا التي ارتفعت بشكل كبير لدرجة أن العمليات الإسرائيلية هناك تضاعفت في عام 2023. وفي الواقع، هاجم وكلاء إيران القوات الأميركية في سوريا 84 مرة على الأقل خلال عامين، في حين اعترضت القوات البحرية الإيرانية أو هاجمت ما لا يقل عن 15 سفينة شحن ترفع العلم الدولي في الخليج منذ عام 2021.

وفي نهاية المطاف، فإن مسيرة خفض التصعيد التي تقودها الدول العربية هي بلا شك تطوّر مشجّع للمنطقة، ولكن إلى أن يتم حل الأسباب الجذرية الكامنة وراء عدم الاستقرار والتوترات حقا، فستستمر الأزمات في الاندلاع، على الأرجح في نفس المناطق التي اندلعت فيها سابقا. ونظرا للتطورات الإقليمية الأخيرة والديناميكيات السائدة، ستكون إيران في وضع أفضل للرد في وقت قريب.

font change