من هو الشاعر كارل فيليبس الحائز على "بوليتزر"؟

قصائدة تؤرّخ للثقافة الأميركية

الشاعر كارل فيليبس

من هو الشاعر كارل فيليبس الحائز على "بوليتزر"؟

نيويورك: منذ صدور مجموعته الشعرية الأولى "في الدم" عام 1992 أثار الشاعر كارل فيليبس انتباه النقاد، لما تميزت به قصائده من فرادة وحميمية، ولجمالية وصفها الطاقات المتناقضة داخل الذات. وتلت تلك المجموعة ثلاث عشرة مجموعة وعدد من الأعمال النقدية، مما جعله من بين أكثر الشعراء الأميركيين المعاصرين تأثيرا.

تضاريس الذات

تتوزع ثيمات عالم فيليبس الشعري على قضايا تبدو اليوم ملحّة بشكل خاص في حياتنا، مثل الهوية والعرق والجنس والسياسة والأخلاق في العمل والفكر. وبقدر ما تقترب قصائده من الحاضر، فإنها تثير الأسئلة الكبرى لاستبطان تضاريس "الأنا" الداخلية، فهو ينتمي إلى سلالة شعرية تبدأ من الشاعر الإنكليزي جورج هربرت إلى إيميلي ديكنسون ولي يونغ لي، تلك السلالة التي تعمل على البوح الذاتي. يتميز شعره بنوع من المراوغة فهو يجمع بين الصراحة والخصوصية، ويصف الشاعر بالخياط، إذ أنه "قادر على خياطة الأشياء التي يحصل عليها".

ولد فيليبس في ولاية واشنطن عام 1959 لأب أميركي من أصل أفريقي وأم بريطانية بيضاء. نقل عمل والده في القوات الجوية العائلة إلى قواعد مختلفة في الولايات المتحدة وخارجها قبل أن تستقر في نهاية المطاف في ولاية ماساتشوستس.

منح جائزة بوليتزر للشعر هذا العام على مختارات لقصائد صدرت تحت عنوان "هي إذن الحرب 2007-2020" الصادرة في العام الماضي، وقد وصفت لجنة بوليتزر المختارات بــ "البارعة" وبأنها "تؤرخ للثقافة الأميركية في حين تكافح البلاد لفهم سياساتها، والحياة في أعقاب جاحئة كوفيد19، ومكانتها في مجتمع عالمي متغير". وتستنتج اللجنة قائلة إن "فيليبس يرفض في النهاية التشاؤم، ويدافع عن الحنان والتواصل الإنساني كقوى عميقة للثورة ويستحضر تعويذة ضد اللامبالاة والهروب السهل من الحنين إلى الماضي". وتعتبر المختارات "شهادة مضيئة على قوة الذات وعلى كارل فيليبس صوتا دائم التغيّر وضروريا في الشعر المعاصر".

فالشاعر الذي قال في إحدى قصائد المجموعة "أنا أغنية متغيرة"، يبدو عمله بحسب النقاد "بحثا مستمرا"، وتشكّل الحرب الخطوة التالية في العمل الشعري بهدف اكتشاف الذات لكل من الشاعر وقارئه. ولقد كتبت القصائد الجديدة وقت تصاعد الصراع العنصري في الولايات المتحدة، مع ما يصاحبه من عنف وعدم يقين، فيدخل فيليبس بعمق في المشهد الذي صنعه؛ في غابة من الحميمية والغرابة والتحقيق الأخلاقي، حتى يبدو من الصعوبة الإمساك بالنهاية كلما ذهبنا بعيدا، ومن الصعب تذكر كيف كانت البداية.

كتبت القصائد الجديدة وقت تصاعد الصراع العنصري في الولايات المتحدة، مع ما يصاحبه من عنف وعدم يقين، فيدخل فيليبس بعمق في المشهد الذي صنعه، في غابة من الحميمية والغرابة والتحقيق الأخلاقي


نوع واحد من التأمّل

برز كارل فيليبس في العقد الماضي واحدا من أكثر الشعراء الغنائيين إبداعا وتأثيرا وإنتاجا في أمريكا. ولد عام 1959 في مدينة إيفريت بولاية واشنطن، وحصل على شهادة في اليونانية واللاتينية من جامعة هارفارد عام 1981 وشهادة الماجستير في العلوم الإنسانية اللاتينية والكلاسيكية من جامعة ماساتشوستس عام 1983، وبعد ذلك درّس اللغة اللاتينية في مدارس ماساتشوستس الإعدادية لمدة ثماني سنوات. وعاد إلى هارفارد طالب دكتوراه في فقه اللغة الكلاسيكي لكنه انتقل إلى جامعة بوسطن حيث حصل على درجة الماجستير في الكتابة الإبداعية في عام 1993. ومنذ ذلك الوقت شغل منصبا مشتركا في اللغة الإنكليزية والكتابة الإبداعية والدراسات الأفرو- أميركية في جامعة واشنطن بسانت لويس، وكان استاذا زائرا في جامعة أيوا، وجامعة هارفارد، وجامعة نورث وسترن، وجامعات أخرى، وهو ناقد أدبي وقد حصل على عدة جوائز منها جائزة لوس انجليس للكتاب وجائزةكنسغلي توفتس، وزمالة أكاديمية الشعراء الأميركيين، وجائزة في الأدب من الأكاديمية الأميركية للفنون والآداب.

بالإضافة إلى شعره، يعدّ فيليبس ناقدا ومترجما وشخصية أدبية مؤثرة. تنوعت مقالاته النقدية حول الشاعر الإنكليزي جورج هربرت وإشكالية قصيدة النثر وقضية الهوية في الشعر الأفريقي الأميركي، وصدر له الكتاب النقدي "عملة المملكة: مقالات في الحياة والفن والشعر". كما ترجم كتاب "فيلوكيتيتس" للشاعر والكاتب التراجيدي اليوناني سوفوكليس.

ويرى فيليبس أن جميع ما كتبه هو نوع واحد ومستمر من التأمل في السبل التي تتشكّل بها قوى الإنسان مثل الرغبة والخسارة والغزو، فهو يطالب الشاعر ألا يخضع للتوقعات، وقال في مقابلة صحافية إن "الفن يتحدى دائما ما نفكر فيه ولا يتحول إلى شيء يتحدث نيابة عن الجميع ويخدم غرضا مشتركا".

في شعر كارل فيليبس، نعثر على الحقيقة من خلال لغة المراوغة والخداع واللعب والشرطية، فقصائده كما لاحظت الناقدة إيدي سليفا، "لا تلتزم بالحقائق"، فهو يقود القارئ من خلال براعته النحوية على مسار من الكلمات نحو نقطة نهايات مذهلة ليعيد صياغة السؤال المضني "كيف وصلنا إلى هنا؟"، كأنه يستند إل مقولة إميلي ديكنسون "قل كل الحقيقة ولكن قلها مائلة".

غنائية

تبدو قصائد المختارات المنتقاة من تجربة الشاعر على مدار السنوات الثلاث عشرة الماضية، مخلصة لتقاليد الشعر الغنائي. تبدأ القصيدة الأولى في المختارات "الأنواع الغازية" بمقطع "أغنية صغيرة تعيد صياغة الحقيقة/ تبدأ الآن أغنية الحقيقة الصغيرة الخاصة بها في أعماق الليل". فتكمن قوة الأغنية ورشاقتها وشعريتها في مدى خفة حركة الشاعر من أجل "إعادة صياغة الحقيقة" إلى استجداء "حقيقته الخاصة". إنها تتحرك تقريبا بكل سرور "الماضي/ الندم" وتتحوّل بشكل صادم نحو صورة العنف: "تصعد أغنية صغيرة من البحيرة المسحوبة لحلق المغني".

يتعامل فيليبس مع اللغة مثل مصوّر متمرّس، يمكنه إنشاء تأثيرات خفية وغير دقيقة، اعتمادا على الحالة المزاجية، فقصائده أشبه باعترافات مركزها الندم المرتبط بالطموح والقسوة التي يلحقها الحب


مصوّر متمرّس

فيليبس، ليس شاعرا اعترافيا ولا سيريا، فهو الآن في العقد السادس من عمره، وأصبح استخدامه للظل، والتغيرات في ضوء النهار، ودرجات الظلام وسطوع الليل أكثر تميزا. فهو يتعامل مع اللغة مثل مصوّر متمرّس، يمكنه إنشاء تأثيرات خفية وغير دقيقة، اعتمادا على الحالة المزاجية، فقصائده أشبه باعترافات مركزها الندم المرتبط بالطموح والقسوة التي يلحقها الحب.

إن قصائد المختارات كلها مرتبطة بأكثر من حقيقة، فهي تردّد صدى القصائد بعضها البعض، ومن خلالها يصحبك الشاعر إلى أكثر المناظر الطبيعية الشعرية قوة وتأثيرا، حيث الأشجار والغابات والأراضي الحرجية، والتي غالبا ما تعمل كاستعارة، وأماكن تخزين الذكريات، أماكن على حافة العالم الحضري، الأماكن التي يتم فيها المخاطرة لأن الغابة تخفيها بنوع من السرية. فهو يبسط أمامنا النثر الخام الذي جعله في شكل شعري. فيظهر السحر الشعري من خلال فواصل الأسطر، والانجذاب، والصور، فهو يبني عمارة مرئية على الصفحات ينبعث منها معاني ونغمات.

تبدو قصيدة "لا شيء للمزايدة حيال ذلك" في عنوانها الغامض، قصيدة غنائية تشبه السوناتا تبدأ بسؤال طويل يجعل المتلقي على الفور يسأل نفسه ما هو "عار الذاكرة"، يتشابك العار مع الذاكرة، إذ أن ذكرى ما تستذكر وتعيد (ربما حتى جسديا) الإحساس بالعار. يمكن للتجربة التي تثير العار أن تعمّق ذكرياته وتصلحها، وبالطبع تضمن أيضا النسيان العلاجي:

إذا كان العار للذاكرة،

للرغبة أيضا،

إذن هل هي الرغبة عباءة الظلال

التي تلتف حولي،

تلك التي أرفض خلعها؟

لكن البحيرة تبدو بلا نهاية.

قاربي يسير

غير أنه ببطء متزايد يعوم فوق الأمواج،

لقد عرفت الألم، أعني كنت خائفا،

وأحيانا

أنسى الفرق بين

أن أجلب معي المدفعية والظهور

عن قصد للحرب أعزلا.

هو مجرد اختلاف: نغمة ضائعة

غير مكتشفة

غير مكتسبة تطفو على السطح.

هل لأني لست حيوانا

فقط

وحدي من يخلق الممكن.

 

تحدّي التقاليد

إن معالجة فيليبس غير العاطفية، بل والتخلص منها تستعد ببنيتها لتمثل تحديا لتقاليد السوناتا. يأتي التحدي الإضافي في شكل السؤال النهائي الممتد، والذي يسأل عما إذا لم تتكوّن الهوية الصلبة لـ "الحيوان" وتماسكها من خلال فعل إيمانه الخاص.

في مقابلة مع مجلة "باريس ريفيو" ربيع عام 2022، يقول فيليبس "لا بأس من ترك الكلمات تغمر القراء بالطريقة التي يختبر بها المرء الفن التجريدي". ويرى أن العديد من قصائده هي إيماءات عاطفية إذ تقاوم السياق باعتباره مطلقا، يريد من السياق أن يتذبذب في بناء القصيدة.

 ثراء تجربته مع اللغة اللاتينية واليونانية ومعرفته الجيدة للألمانية، منحه مهارة في النحو وفي صياغة الجملة المتميزة بفرادتها التي أثارت انتباه النقاد إلى منجزه الشعري، ويقول إن "بناء الجملة هو ما يسمح بالتلاعب بطريقة لا تسمح بها القواعد، ويسمح بناء الجملة بتحريك كتلة النص حولها، وإيقاف تسليم المعلومات، وإنشاء التسلسلات الهرمية. تكمن قدرتها على منح الكثير، ثم تبديل الاتجاهات وإثارة الجملة - مثل المداعبة".

font change

مقالات ذات صلة