أوبرا تحاور ميشيل: ثرثرة محبّبة

شكل الحياة بعد البيت الأبيض

Getty Images
Getty Images
أوبرا وينفري وميشيل أوباما

أوبرا تحاور ميشيل: ثرثرة محبّبة

بعد أن انحسرت عنها الأضواء كـ"سيدة أولى" في البيت الأبيض، آثرت ميشيل أوباما، زوجة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، أن تبحث عن الضوء الذي يشع من ذاتها، لتدون ذلك في كتاب "الضوء الذي نحمله" The Light We Carry، مستعرضة تجارب "ملهمة".

الكتاب الذي صدر، أخيرا، بـ 14 لغة، هو محور مقابلة أجرتها المحاورة الشهيرة أوبرا وينفري مع ميشيل أوباما، وعرضتها منصة "نتفليكس"، وذلك في إطار جولات وأنشطة هدفت إلى التعريف بالكتاب الجديد الذي تقدم فيه الكاتبة مجموعة من القصص الجديدة حول كيفية التغيير وتحدي العراقيل، بعد كتاب مماثل سابق صدر تحت عنوان "وأصبحت" Becoming.

وُلدت ميشيل أوباما في شيكاغو عام 1964، وتخرجت في جامعة برينستون في عام 1985، ثم حصلت على درجة الماجستير في القانون من كلية الحقوق في جامعة هارفرد في عام 1988.

بدأت مسيرتها المهنية كمحامية في شركة "سيدلي أوستن" للمحاماة، ثم انتقلت إلى العمل في مجال العلاقات العامة والتسويق. وفي عام 2009، أصبحت "السيدة الأولى" في الولايات المتحدة الأميركية، ومنذ مغادرتها البيت الأبيض، تركز ميشيل أوباما على العمل في مجال التعليم والصحة والتغذية، وقد أسست مؤسسة "ميشيل أوباما" التي تعنى بشكل خاص بالطفولة، وهي إلى ذلك محاضرة وناشطة اجتماعية.

هذه السيرة الشخصية والمهنية وفرت لميشيل أوباما مادة خصبة أرادت أن تشركها مع قرائها، دون أن تزعم أن لديها الإجابات الشافية عن كلّ الأسئلة، بل على العكس، فهي تؤكد أنها لا زالت تسأل وتتعلم، وجل ما تقوم به في كتابها، أنها تروي قصصها وتفكر بصوت عال، وتدون خيباتها ونجاحاتها، ولعل ذلك يمثل "أملا لمن يختارون اتباع مسارات تقود إلى الأمام".

تعلمت الحياكة خلال فترة الإغلاق بسبب كورونا، فهي تعلم المرء الصبر والتحمل والتركيز والمكوث طويلا في مكان واحد وقبل ذلك كله تعلمه الدقة والأناة

استرسال عفوي

في المقابلة التي جرت على مسرح في مدينة لوس أنجليس بحضور جمهور غفير، نصغي إلى ثرثرة نسائية محببة، تدوم نحو ساعة ونصف الساعة، تمزج الطرافة بالجد، وتتأرجح بين الخفة والصرامة، في استرسال عفوي يستحضر لحظات الأسى والإحباط مثلما يسرد محطات الانتصار والمجد، والمقابلة معززة بصور فوتوغرافية نادرة، من أرشيف أوباما، عرضت خلال الحوار لتعكس هذه الواقعة أو تلك الحادثة التي يدور الحديث حولها.

"السيدة الأولى... إلى الأبد"، وفق توصيف وينفري، تستعيد فترة الإغلاق بسبب كورونا، فبينما كان البشر يغلقون محالهم، ويمكثون في بيوتهم و"يلعنون الظلام" وسط رائحة المعقمات وهواجس الخوف، اختارت ميشيل أن تشعل "شمعة في الظلام"، بحسب المثل الصيني، إذ عكفت على الكتابة، في محاولة لاستشكاف نور خفي، بدلا من الاستسلام لعتمة الواقع، وها هي تعلن بعد خوض التجربة ونشر الكتاب: "بوسعنا جميعا أن نكون منارات أمل".

وهذا التعبير الأخير ليس مجرد شعار نظري، بل يجسد، الى حد بعيد، تجربة ميشيل أوباما التي عانت كثيرا قبل أن تدخل البيت الأبيض، فهي أولا امرأة، وثانيا نشأت في بيئة فقيرة لأسرة تنتمي للطبقة العاملة، وقبل هذا وذاك، ولدت ببشرة سوداء، مع ما يعنيه ذلك من "غبن تاريخي معروف" لحق بالسود. ومن الواضح أن ميشيل أوباما حملت ندوبا من تلك المرحلة، وهي لا زالت تتحدث عن ذلك الماضي بنبرة حزينة: "لقد نشأ أجدادي في وقت صعب... كان هناك خوف حقيقي بالنسبة إلى شخص أسود إن ظهر في الحي الخطأ؛ في الوقت الخطأ، وفي المكان الخطأ، ونظر بطريقة خاطئة، فقد يعني هذا موته".

AFP
لقاء سابق جمع بين أوبرا وينفري وميشيل أوباما في ديسمبر الماضي.

امتحان

جروح التاريخ هذه بقيت غافية في روحها، لذلك توضح في حوارها أنها حين وصلت مع زوجها إلى البيت الأبيض قررت ألا تخفق، فعلى عكس كل رؤساء الولايات المتحدة السابقين، تحتم على باراك وميشيل أوباما أن يجتازا امتحانا من نوع آخر، لا علاقة له بالأداء السياسي البحت، وهذا الامتحان يتمثل في أنهما ينتميان إلى العرق الأسود، ووصلا للمرة الأولى، بوصفهما من هذا العرق، إلى المكان الأكثر رفعة في السياسة الأميركية، وهذا ما جعل المسؤولية مضاعفة في إثبات أنها وزوجها جديران بما وصلا إليه.

تكشف أوباما خلال الحوار أنها تمارس الحياكة، إلى جانب مشاغلها المتعددة، وأفضل الدروس التي تعلمتها من هذه المهنة كانت خلال فترة الإغلاق، فالحياكة، كما تقول، تعلم المرء الصبر والتحمل والتركيز والمكوث طويلا في مكان واحد، وقبل ذلك كله تعلمه الدقة والأناة، وهي تقر بأنها سريعة الغضب فكانت هواية الحياكة وسيلة لترويض "التهور"، وإخماد الاندفاع، بل ربما وسيلة للخلاص مثلما فعلت بينلوبي الجميلة في الأسطورة الإغريقية التي وجدت في الحياكة مواساة ومساحة ضيقة للصبر في انتظار عودة الزوج الغائب.

وهذا الجزء من الحوار يوضح أن ميشيل أوباما لا تتحدث في كتابها عن القضايا الكبرى من قبيل "العنصرية" ومنصب الرئاسة فحسب، بل تولي اهتماما كذلك للتفاصيل الصغيرة، مثل الحياكة، معلقة: "أحد الأمور التي أتحدث عنها في هذا الكتاب هو قوة الأشياء الصغيرة، وكيف يمكن للأفعال والإيماءات البسيطة أن تمنحنا مساحة لإعادة ضبط أنفسنا واستعادتها".

   أحد الأمور التي أتحدث عنها في هذا الكتاب هو قوة الأشياء الصغيرة، وكيف يمكن للأفعال والإيماءات البسيطة أن تمنحنا مساحة لإعادة ضبط أنفسنا واستعادتها


الأب

والدرس الآخر المهم تعلمته ميشيل من والدها العامل الذي أصيب بالمرض الذي قاده في النهاية إلى الجلوس على كرسي متحرك قبل أن يرحل، لكنه، بحسب ما تقول، أصر على الاستمرار في التفاني والعطاء، ورسخ في وجدانها قاعدة ما زالت تتقيد بها: "لن يُشعرك الآخرون بالسوء تجاه نفسك إن كان شعورك جيدا تجاهها".

تتحدث ميشيل عن والدها الذي نشأ في بيئة متواضعة ماديا، بكثير من التوقير والوفاء، قائلة إن ما وصلت إليه من "صفاء ذهني وامتنان" يعود الفضل فيه لوالدها الذي أرشدها، عبر السنوات، ومن دون تخطيط إلى الشخص الذي يمكن أن ترتبط به إلى الأبد وهو باراك اوباما، الذي تصفه بانه "بيتها"، فهي عاشت في أماكن متعددة لكن زوجها أوباما يظل العنوان الأخير، "الأكثر أمانا"، في عالم مضطرب.

 

غضب وجفاء

واللافت أن ميشال أوباما لا تتحدث عن حياتها الزوجية، من منظور مثالي، بل تقر بأن زواجها، المستمر منذ نحو 30 عاما، تخلله الكثير من فترات الغضب والجفاء، إلى أن هدأ الإيقاع على نحو مرض للطرفين، لكن ذلك احتاج، كما توضح، "إلى تدريب طويل واستغرق بعض الوقت. كان علينا تعلّم التنازل، "فلا تتحدث إليه بغضب ويمنحها بدوره مساحة لتهدأ".

والحديث عن الأسرة لا بد وأن يشمل ابنتيها ماليا وشاسا اللتين استقرتا في شقة منفصلة، وأصبحتا تتحملان المسؤولية وتحرصان على أغراض شقتهما الرخيصة، كما تقول ميشيل أوباما مازحة، على عكس ما كانتا عليه في البيت الأبيض، إذ كانتا لا تأبهان بالتحف والديكورات والقطع الباهظة الثمن هناك.

REUTERS
ميشال أوباما

وتسأل وينفري صديقتها عن شيء لا تعرفه سوى المقربات من ميشيل أوباما، وهو "طاولة المطبخ" التي توليها اهتماما خاصا، فهي تعتبر هذه المساحة الصغيرة، واسعة بما يكفي لكل الاعترافات، فهي ترمز للأمان وتحتضن حميمية العائلة، وتحتفظ بلحظات الصدق وحقيقة ما يجول في نفس أفراد الأسرة من مخاوف وهواجس وطموحات، فطاولة المطبخ مساحة للبوح وفضاء أسري خاص للتسلح بالثقة في مواجهة العالم الأوسع.

font change

مقالات ذات صلة