مَنْ يُترجم المسرح الشِّعري؟

مَنْ يُترجم المسرح الشِّعري؟

مُترجم جديد لشكسبير يثير جدلا في أوساط رجال المسرح في فرنسا. المُترجم هو جاك تريون الذي ما إن نقل إلى الفرنسيّة مسرحيّة "الملك لير"، حتى هاجم كل الترجمات التي قام بها الكتّاب والشعراء الفرنسيون.

ففي مقابلة صحفية معه قال: قمت بترجمتي هذه لأنّني قرأت كلّ الترجمات الفرنسية السابقة التي أصدرها العديد ومنهم فرانسوا فيكتور وبيار ليريس وإيف بونفوا (شاعر فرنسي كبير). ويضيف: "ترجمة هؤلاء رائعة من ناحية جماليّة، لكنّني شعرت بأنها غير صالحة للتمثيل على الخشبة. فالممثّلون كائنات بشريّة ذوو أجساد وأصوات وحركات. ولا يمكن أن يُطلب منهم أن يتكلموا على المسرح كما يقرأون كتابا، وأن يُجسّدوا في الوقت ذاته شخصية الانفعال". فخطأ المترجمين سببه انطلاقهم من مبدأ سيء أي أن علينا أن نحترم الحدّ الأقصى من المفارقات والتناقضات في النصّ، كمتطلّبات القوافي والأوزان والتلميحات التاريخيّة والجغرافيّة". ويوضح "على المترجم أن يشعر بأنه حرّ في التعامل مع النص بشكل مطلق، وعليه أن يختار ما يتخلى عنه.. فإذا كان علينا أن نحتفظ بربع النص لجماله وقدراته، فلنتخلَّ عنه بلا أسف"..(!).

عندما قرأت آراء هذا المترجم "الفذّ" وافقته على شيء منها يتمثّل بأن هناك فارقا بين أن نُترجم ترجمة صحيحة أو دقيقة وجميلة شعريّا، وبين أن تكون الترجمة "درامية" قابلة للأداء. وهذا أحالني على عدد من الترجمات العربيّة لشكسبير، أذكر منها ترجمات رياض عبود، وانطوان مشاطي والشاعر خليل مطران، وكذلك ترجمة الكاتب جبرا إبراهيم جبرا، وكلٌّ من موقعه الشِّعري أو غير الشِّعري، وهي ترجمات جميلة مصوغة نستمتع بقراءتها، لكننا نحسّ بأنّها تحتاج إلى ترجمة جديدة تصلح للأداء على الخشبة. كأنّها ترجمة للقراءة لا للتمثيل.. ربّما أتّفق معه في أن ترجمة مسرحيات شكسبير (أو كورنيل أو راسين...) على البحور الشعرية الفرنسية (أو العربية) قد تكون عقبة في تقديمها تقديما مرنا للممثل. وهذا ما فعله الشاعر إيف بونفوا عندما خاض مغامرة ترجمة مسرحيّة شكسبير الموزونة "الملك لير" بأخرى موزونة فرنسيّا، فاهتمَّ بالناحية الشعريّة في المسرحيّة وأهمل العنصر المسرحي، كأنّما ترجم قصيدة غنائيّة لا عملا مسرحيّا مزدوجا في لغة شكسبير الذي جمع بين قوّة لغته وقوّة الدرامية.. لكن حاول آخرون العكس تماما: أن يبسّطوا أسلوب شكسبير (وسواه) لتقريبه من الجمهور، وأهملوا قوّة التعبير عند الشاعر. فبدت الترجمات باهتة، خانت العمق الجمالي عنده.

أما ما أثار إعجابي بهذا المترجم "الفذّ" قوله إنه يمكنه (أو يمكن غيره من المترجمين) شطب ما يراه غير مناسب في النص الشكسبيري أو سواه وإن أدّى ذلك إلى استبقاء ربع المسرحيّة أو ربما ربع الأرباع. وماذا يبقى عندها من العمل التأليفي، وماذا يبقى من الكاتب ومن العمل؟ لا شيء. وماذا عن البنية، عن تطور المسار الدرامي، والأحداث، والشخصيات! فهذه المهمة المستحيلة ليست من شأن المترجم، لا في النسبي ولا في المطلق. فليس مهمّة المترجم أن يُصحّح النصّ على هواه (فيصبح مؤلّفه!)، سواء كان شكسبير أو أحمد شوقي أو صلاح عبد الصبور أو سعيد عقل... أو سواها من نصوص رومانيّة أو إغريقية كسوفوكل والإنكليزي مالرو (جايَلَ شكسبير)، أو من أيّ عمل آخر. لكن يمكنه إما أن يترك النص كما هو ويقرأه قراءة خاصة تحمل رؤيا "المخرج" وأفكاره، وإما أن يقتبسه أو يعيد كتابته، كتابة خاصة، كما فعل العديد من الكتّاب والمخرجين.

ترجمات شكسبير إلى العربية هي ترجمات جميلة نستمتع بقراءتها، لكننا نحسّ بأنّها تحتاج إلى ترجمة جديدة تصلح للأداء على الخشبة. كأنّها ترجمة للقراءة لا للتمثيل


وهنا نتذكر المخرج الأميركي الكبير بوب ويلسون الذي جعل من "الملك لير" مونودراما تؤديها شخصية واحدة، وكذلك أتذكر مسرحيّة "الملك لير" التي قدّمها المخرج العراقي صلاح القصب مختصرة في ثلاث شخصيات. بل أتذكّر كيف تعامل الكاتب العبثي يونسكو مع نصّ مسرحيّة "مكبث"، وقرأها قرءاة عبثية وأحيانا ساخرة.. وهل ننسى كيف حوّل برشت مسرحيّة "كورليانوس" عن وجهتها الأصليّة إلى أخرى ملحمية... ونستعيد كتابة الشاعر العراقي يوسف الصائغ وقراءته الفرويديّة لشخصيّة عطيل التي فسّرها بأن عطيل كان يعاني العجز الجنسي... وهذا ما قاده إلى قتل زوجته.

 وهذا ما تكرّر في شخصيات مسرحيّة إغريقيّة وسواها مثل انطيغون، وأوديب... وهذه الأمور لا تقتصر على ترجمة المسرح الشِّعري فحسب، بل على كلّ ما يتصل بالشِّعر، من قصيدة، وقصّة، ورواية، وصولا إلى الملحمة... ونضرب مثلا ديوان الشاعر إليوت "الأرض الخراب" الذي حظيَ بأكثر من خمس عشرة ترجمة عربية حالفنا "الحظ" بقراءة معظمها؛ فبدا التباين بعنوان القصيدة التي اختلفت ترجمة "الأرض الخراب" إلى "أرض اليباب" أو الأرض البور... ليطول القصيدة نفسها: فمنها الجيّدة والمقبولة، والسيّئة.. حتى قام بعض المترجمين بتعديل بعض المقاطع (أو رواية معناها)؛ وهذا ما حصل مع قصيدة، بول فاليري، عندما عُدّل عنوانها "Les Jeunes Parques" "الباركات الشابات"، إلى "غازلات المصائر".

السؤال الأساسي مَنْ يُترجم المسرح، أو المسرح الشِّعري؛ وامتدادا مَنْ يُترجم النصوص الفيزيائيّة، أو الفلسفيّة، أو السيكولوجي؟

إن من يُترجم المسرح الشِّعري (موزونا أو نثريا)، يجب أن يكون أولا "ابن مسرح" بمعنى أن يكون ذا ثقافة شعريّة واسعة، أو شاعرا ذا ثقافة مسرحيّة واسعة؛ لا تقتصر على قراءة المسرحيات وحدها، بل بالمشاهدة العينيّة؛ فالمسرحيّة المكتوبة على الورق شيء، وعلى الخشبة تصبح شيئا آخر: ففي الأولى هي أدب حواري، ونكتسب في الثانية هُوية أخرى؛ أي من عمل فردي يؤلفه كاتب، إلى عمل جماعي، من المخرج، إلى مصمّم السينوغرافيا، إلى الإضاءة، والملابس، والماكياج؛... والفضاء المسرحي. ففي حين تكون المسرحيّة المنشورة في كتاب قراءه فردية، فالمسرحيّة المقدَّمة في الصالات، تصبح قراءة جماعية.

فالنص يقدَّم بالأجساد (الممثلين)، لكن إذا كان العمل راقصا، فيعني أن الإخراج ينتقل من المخرج إلى الكوريغرافي (مصمم الرقص)... الذي يرسم مشهديّة جسديّة وموسيقيّة وبالأصوات والحركات التعبيريّة، التي تنقل رسالة العمل إلى المتفرّج...

من هنا، نقول إن على المترجم (كالناقد) أن يكون على معرفة أو (تجربة) عريقة، بالهُويات المسرحية، ولغاتها، وأساليبها، لكي لا يقع في متاهات اللغة المترجمة، وفخاخها، وأسرارها.

font change