ترميم الاقتصاد اليمني

هل تصمت البنادق فيتنفس أهل البلاد الصعداء

المجلة
المجلة

ترميم الاقتصاد اليمني

عُرف اليمن منذ القرن العاشر قبل الميلاد كما تشير إلى ذلك دراسات تاريخية. ورد ذكره في الكتب الدينية، ومن أهم ما جاء فيها مملكة سبأ. كان اليمن يُكنى بالسعيد نظراً إلى تضاريسه ومناخه والزراعة الكثيفة فيه، كما أنه بلاد محاطة بالبحار، إذ يحده البحر الأحمر غرباً وبحر العرب جنوبا. وفقاً لتقديرات البنك الدولي، قارب عدد سكان اليمن الثلاثة والثلاثين مليون نسمة في عام 2021، ويقترب معدل النمو السكاني من 2,4 في المئة سنوياً. لكن البلاد تظل من الدول التي تعاني عدم الاستقرار والصراعات الأهلية التي ساهمت في تفشي الأمراض والأوبئة وتدني الرعاية الصحية. دخلت البلاد حرباً أهلية منذ بداية العقد الثاني من القرن الحالي مما أدى إلى تدخلات إقليمية وتعكير صفو العلاقات بين دول المنطقة. وتسببت الأوضاع السياسية والأمنية غير المستقرة في اليمن إلى تعطل عملية التنمية وتدهور مستويات المعيشة، حيث يتوقع صندوق النقد الدولي في عام 2023 انكماش الاقتصاد اليمني 0,5 في المئة ليبلغ الناتج المحلي الإجمالي 19,53 مليار دولار، في حين لا يتجاوز دخل الفرد في العام نفسه 573 دولارا.وهذا ما يناقض تقديرات الحكومة اليمنية بإمكان تحقيق معدل نمو بنسبة 2 في المئة في عامي 2022 و2023.

آمال بنجاح الاتفاق

يواجه اليمن الآن تحديات سياسية واقتصادية مهمة، وهناك في الوقت نفسه، آمال معقودة على أن نتائج التوافق السعودي الإيراني قد تفضي إلى توقف الحرب الأهلية وصمت البنادق بما يسمح لأهل اليمن بتنفس الصعداء والالتفات إلى العمل والتنمية.

يتوقع انكماش الاقتصاد اليمني 0,5 في المئة في 2023 ليبلغ الناتج المحلي الإجمالي 19,53 مليار دولار، في حين لا يتجاوز دخل الفرد 573 دولارا

صندوق النقد الدولي

معلوم أن اليمن يملك ثروات طبيعية وحقولا زراعية ومدنا ساحلية وتواصلا مع بلدان مهمة في الجزيرة العربية وشرق أفريقيا. عرف عن اليمنيين منذ زمن بعيد قدرات مهنية متميزة خصوصاً في حقول التجارة والتمويل، وتمكن العديد من المهاجرين اليمنيين في بلدان الخليج وشرق آسيا، وكذلك في بريطانيا والولايات المتحدة، من تكوين ثروات خاصة والعمل في استثمار الأموال في قطاعات حيوية. بيد أن الثروات اليمنية والإمكانات البشرية لا يمكن استثمارها أو توظيفها من دون تحقيق الاستقرار الأمني المنشود لتمكين المواطنين من العمل الجاد في مختلف الأنشطة الاقتصادية. النفط هو من الثروات الطبيعية التي يملكها اليمن، وكان سبق لشركات نفطية عدة أن أبدت اهتماما بالغا به، وعملت على إجراء دراسات وعمليات استكشاف منذ منتصف ثمانينات القرن الماضي. تزايد الاهتمام بالنفط بعد قيام الوحدة بين الشمال والجنوب في عام 1990، وارتفع الإنتاج منذ ذلك الحين من 69 مليون برميل سنوياً إلى 160 مليون برميل في عام 2001 قبل أن يتراجع إلى معدلات أقل (ما يقارب 117 مليون برميل سنوياً من 2002 إلى 2007).

في السنوات الأخيرة بلغ الإنتاج 350 ألف برميل يومياً أو 128 مليون برميل سنوياً في عام 2022، وأشار تقرير حكومي إلى أن عائدات اليمن من الصادرات النفطية بلغت 739 مليون دولار في النصف الأول من عام 2022.

AFP
أطفال يسيرون بالقرب من جدارية رسمها الفنان اليمني علاء روبيل في مدينة عدن الساحلية الجنوبية، لتسليط الضوء على ضحايا الحرب.

المؤشرات بين الإيجابية والسلبية

ربما يظل الباحث في حيرة أمام البيانات والأرقام المتعلقة بالاقتصاد اليميني حيث أن البلاد تعاني من عدم الاستقرار والانقسام وتدني أداء الإدارة الحكومية، لتبقى البيانات الاقتصادية موضع شك وعدم ثقة إلى درجة كبيرة. وهذا يستدعي دراسة الاقتصاد اليمني وكيفية ترميم هياكله وتعزيز قدرات النمو إذا ما انعكست التوافقات الإقليمية إيجابا على واقع البلاد.

سعت دول الخليج، السعودية والإمارات والكويت وقطر، منذ سبعينات القرن العشرين، إلى دعم الاقتصاد اليمني وتطوير بنيته التحتية من خلال التمويلات من الصناديق المتخصصة أو الاستثمار في مشاريع صناعية وزراعية وعقارية ونفطية. كما أن العاملين اليمنيين في بلدان الخليج كانوا مصدراً مهماً لتدفق العملات الأجنبية من خلال تحويلاتهم. لذا، فإن أي انتعاش مفترض في اليمن خلال السنوات المقبلة سيعتمد على دعم خليجي واستثمارات من القطاع الخاص في بلدان الخليج واستثمارات المغتربين اليمنيين. وستساهم دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ومنظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في تمويل الكثير من المشاريع التعليمية والصحية والبنية التحتية وربما مشاريع أخرى في قطاعات متنوعة مع تحقق الاستقرار والأمن.

لكن ما هي القطاعات الأساسية، وكيف يمكن أن يعزز الاستثمار في مشاريع في هذه القطاعات من مداخيل اليمن السيادية وصادراتها؟ عند استعراض معالم الاقتصاد اليمني خلال السنوات الماضية، يتضح مدى تراجع الإمكانات بسبب ويلات الحرب الأهلية، إذ لم تعد الزراعة تساهم سوى بـ 8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في وقت يمكن للزراعة في اليمن أن تشكّل مكوّناً أكثر أهمية في الاقتصاد حيث تتوافر بيئة صالحة لها. وقد مثّل البنّ أحد أهم المنتجات الزراعية وساهم في رفع حجم الصادرات قبل عقود.

تشير تقارير منظمة الغذاء والزراعة "الفاو" إلى تراجع انتاج البنّ اليمني إلى 20 ألف طن سنوياً بسبب الحرب، فيما انخفضت الصادرات خلال السنوات الأخيرة إلى مستوى 3 إلى 4 آلاف طن سنوياً. وواجهت زراعة البنّ وغيرها من المنتجات الزراعية مشكلات عدة، حتى قبل نشوب الحرب الأخيرة. 

تظل الفرص متاحة لتطوير أنشطة الاقتصاد اليميني ومنها الزراعة والصناعات التحويلية والخدمات حيث يحظى اليمن بإمكانات لجذب السياح المهتمين بالتاريخ القديم أو الذين يطمحون للتمتع بالطبيعة العذراء وتنوع التضاريس، لكن هناك حتما ضرورة لتوفير الاستقرار السياسي واستتباب الأمن في مختلف مناطق البلاد. ويشار إلى التفاوت الحضاري بين مناطق البلاد حيث يظل الجنوب أكثر انفتاحاً، اقتصاديا واجتماعيا، وسبق لأهله من عدن وحضرموت أن هاجروا وعملوا في بلدان خليجية وشرق آسيوية وغربية. لكن لا بد من الافادة من ثروات البلاد شمالاً وجنوباً وتسخيرها لمصالح الشعب اليمني بأكمله. هناك أيضا معضلة الاتفاق بين اليمنيين على شكل الدولة بعد نهاية الصراع، فهل ستظل موحدة سياسياً أم ستكون هناك صيغ أخرى مثل الفيديرالية أو الكونفيديرالية؟ هذه الأمور مرهونة بالتوافقات بين أطراف النزاع.

تأثر النظام التعليمي في اليمن كثيراً بظروف الحرب الأهلية حيث تبقى التنمية البشرية مهمة وأساسية لمعالجة التدهور الاقتصادي، ولا بد من توظيف العناصر البشرية في مختلف الأعمال المجدية، والاستثمار في التنمية البشرية بعد الخراب الذي عانت منه مؤسسات التعليم وانقطاع الطلبة عن مدراسهم. كذلك يعتمد الاقتصاد وحيويته على شعب يتمتع بالصحة، وهذا تحدٍّ آخر أمام البلاد بعدما تعطلت الرعاية الصحية وتزايدت أعداد المصابين بالأمراض الفتاكة والمعدية.

حذرت الأمم المتحدة من تفاقم انعدام الأمن الغذائي وقدرت عدد المحتاجين إلى مساعدات غذائية في نهاية عام 2022 بنحو 23,4 مليون شخص

وقائع صادمة

تعكس الإحصاءات المتعلقة باليمن واقتصاده الأوضاع الصادمة في البلاد. تقدّر المؤسسات الدولية أن ما يقارب 80 في المئة من السكان باتوا تحت خط الفقر. تراجع سعر صرف الريال اليمني إلى مستويات متدنية منذ أواسط تسعينات القرن الماضي، وتزايد بطبيعة الحال هذا التراجع خلال السنوات القليلة المنصرمة بفعل الصراع وعدم الاستقرار. يتفاوت سعر صرف الريال اليمني بين مكان وآخر في البلاد حيث يتراوح في صنعاء من 550 إلى 556 ريالاً في حين يبلغ سعر الصرف في عدن بين 1,225 و1,232 ريالاً. ولا شك أن تراجع سعر الصرف يؤدي إلى حال من التضخم تنعكس على المستويات المعيشية للسكان، خصوصاً على أصحاب الدخل المنخفض.

أشار تقرير لخبراء صندوق النقد الدولي، بعد زيارة لليمن في أكتوبر/تشرين الأول 2022، إلى ارتفاع معدل التضخم إلى 45 في المئة في حين بلغت نسبة تضخم أسعار المواد الغذائية 58 في المئة. تزامنا مع ذلك، حذرت الأمم المتحدة من تفاقم انعدام الأمن الغذائي وقدرت عدد المحتاجين إلى مساعدات غذائية في نهاية عام 2022 بنحو 23,4 مليون شخص. بالتالي، لا يمكن التعويل على انتعاش اقتصادي في ظل أحوال إنسانية بائسة، مما يعني أن أي إصلاح للأوضاع الاقتصادية في البلاد يتطلب دعما إنسانيا غير مسبوق وإنتشال المواطنين من أحوالهم المزرية وإصلاح النظام الصحي ودعم جهود تطوير التعليم.

عانى اليمن من صراعات قديمة وجديدة خلال العقود الماضية، وهناك تفاوت بين الثقافات في المناطق ولا يزال الريف متسيداً في قيمه وتقاليده. فهل يمكن للجهات الخارجية ومنها بلدان الخليج ترميم الاقتصاد اليمني من دون توفر إرادة وطنية وتوافق أهلي؟

لا يبدو ذلك ممكنا من دون مصالحة يمنية شاملة وتوافق على النظام السياسي والإداري في البلاد. عندئذ يمكن وضع استراتيجيا تنموية وخطط اقتصادية قصيرة ومتوسطة الأجل برعاية الأمم المتحدة وصندوق النقد والبنك الدوليين وبدعم من دول الخليج والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

font change

مقالات ذات صلة