السماء... خريطة العربي في الصحراء

علاقة العربي بالنجوم عميقة جداً فهي خريطته التي بها يهتدي ويعرف طريقه

Muhammad Mustafa
Muhammad Mustafa

السماء... خريطة العربي في الصحراء

يروي المصنف والمحقق الشهير فؤاد سزكين قصة حدثت له أيام طفولته، دفعته لأن يعيد التساؤل والبحث في كثير من المسلمات والأفكار الشائعة عن تاريخ العلم، وأصل النهضة الحديثة، يقول: "سمعت من مدرّستي في الأسابيع الأولى من دخولي المدرسة الابتدائية، قولها: إن العرب كانوا يعتقدون أن الأرض محمولة على قرني ثور للأبد. وعرفت في كتب المدرسة نفسها تعريف النهضة الأوروبية الحديثة بأنها استمرار للعلوم الإغريقية، دون إشارة لأي دور للعرب والمسلمين في تاريخ التراث البشري، اللهم إلا أن يضطر من حين إلى حين لتوسطهم بترجمة الكتب الإغريقية إلى العربية، ومنها إلى اللاتينية".

يوضح سزكين أنه نشأ في بيئة كان يسيطر عليها هذان الأمران: النظر باحتقار لتراث العرب العلمي، واعتبار النهضة الحديثة منتجاً أوروبياً خالصاً. إلى أن التقى بالمستشرق الألماني هلموت ريتر عام 1943، الذي أخبره بأن عليه أن يتخصص في علوم الطبيعيات والرياضيات؛ حيث كان العرب رياضيين كباراً لا يقلون مرتبة عن أكبر الرياضيين الأوروبيين، كالخوارزمي، وابن يونس، وابن الهيثم، والبيروني، وغيرهم. يقول سزكين: "اندهشت كثيراً وشعرت بالحيرة والارتباك، وفي الطريق إلى البيت وفي السرير، شغلني وأقلقني هذا الكلام، وبين ما تربيت عليه في المدارس خلال نشأتي، فقضيت الليل دون نوم، كنت أنتظر الصباح لأرجع إلى أستاذي لأسأله وأسأله".

ومنذ تلك اللحظة أخذ سزكين على عاتقه مواجهة هذه الأفكار الشائعة المضللة عن تاريخ العلم في الحضارة الإنسانية، فأصبح أحد كبار العلماء المتخصصين في دراسة تاريخ العلوم العربية والإسلامية، وأسس المراكز العلمية المتخصصة في هذا المجال، في ألمانيا وغيرها من العواصم الأوروبية والعربية.

Shutterstock

على الرغم من أن هذه الحادثة وقعت قبل عقود طويلة، إلا أن تلك النظرة المشوهة المشوشة لتاريخ العرب وتراثهم العلمي والثقافي لا تزال مستمرة إلى اليوم، ليس في المجتمعات الأوروبية فحسب، بل حتى بين أبناء العرب أنفسهم، وربما أكبر سبب في ذلك هو الجهل بهذا التراث، والابتعاد عنه، وكثرة الوسطاء والدعاة الذين وظفوا الحديث عن المنجزات العربية العلمية بأسلوب دعوي وعظي يُستخدم لأجل التمجيد وإذكاء العواطف، وترويج قصص الإعجاز العلمي في سياق المواجهة مع الغرب، مما أفقد الحديث عن مثل هذه المواضيع رصانتها، ومكانتها التي ينبغي أن تكون، وهو حقل تاريخ العلوم والحضارات، من أجل فهم أعمق لتراثنا وتاريخنا، لأنه جزء منا، ونحن جزء منه، فنحن ننتمي لفضاء الحضارة الإنسانية نؤثر ونتأثر، ونضع اللبنات في تاريخ العلم، ومسيرة الحضارة، وأول طريق للنهوض أن نعرف ذواتنا وأنفسنا، وموقعنا في التاريخ والحاضر.

النظرة المشوهة المشوشة لتاريخ العرب وتراثهم العلمي والثقافي لا تزال مستمرة إلى اليوم، ليس في المجتمعات الأوروبية فحسب، بل حتى بين أبناء العرب أنفسهم

إجحاف وتهميش

وقد تعرض التراث العربي العريض في عالم الفلك والنجوم والكواكب لكثير من التشويش والإهمال والتهميش، حتى أصبح يُظن أن جل معرفة العرب عن تلك العوالم مبني على خرافات وأساطير، وحكايات العجائز والمشعوذين، وقد ساعد على شيوع مثل هذه الأفكار، وتجاسر ناقليها، تلك الفتاوى أو الآراء الفقهية المعاصرة التي تتصدر لمثل هذه القضايا، فتزيد الطينة بلة، وتتلبد الصورة بمزيد من الخطل والتضليل.

والحديث عن تفنيد هذه الأفكار الشائعة يطول جداً، لكن يكفي أن نعرف عمق علاقة العرب بالنجوم، وهذا أيضاً مبحث طويل ثري غني بالشعر والفن والحكم والأمثال، ولا أدل على ذلك من أن أغلبية أسماء النجوم التقليدية اليوم هي من أصل عربي، والقليل منها ذات أصل يوناني، أو مجهولة الأصل. ووفقا لإحصاء قام به أحد الباحثين في تاريخ النجوم على كثير من برمجيات وخرائط وأطالس النجوم الحديثة، ظهر أن عدد النجوم التي تحمل أسماء عربية يفوق الـ260 نجما، مشكلة بذلك أربعة أخماس النجوم التي تحمل أسماءً في السماء. وفي إحصاء آخر من بين أكثر من 300 نجم لديها أسماء تقليدية رسمية حتى عام 2016 (بخلاف ملايين النجوم التي باتت تُعطى أسماء علمية دقيقة وليست تقليدية)، ستجد أن هناك أكثر من 200 نجم تحمل أسماء عربية تُكتَب بالحروف اللاتينية (مع نطقها العربي)، تشتهر هذه الأسماء في كتب تاريخ العلم وكتب الفلك وأطالسه على حدٍّ سواء، ومن أشهرها: سهيل، والجدي، والدبران، والطائر، والعقرب، والعذارى، ورأس الغول، والغميصاء، وذنب الدجاجة، ونجم النسر الواقع، المشهور في التسمية اللاتينية باسم نجم "فيجا"، وهي تسمية مأخوذة من أصل النطق الألماني لكلمة "واقع"، وغير ذلك من النجوم الكثيرة.

يكفي أن نعرف عمق علاقة العرب بالنجوم، وهذا أيضاً مبحث طويل ثري غني بالشعر والفن والحكم والأمثال، ولا أدل على ذلك من أن غالبية أسماء النجوم التقليدية اليوم هي من أصل عربي

خريطة السماء

ليس هذا بغريب فإن علاقة العربي بالنجوم عميقة جداً، فهي خريطته التي بها يهتدي ويعرف طريقه، فهو يتعلق بها أشد التعلق، فمن هذه النجوم نجاته، وهي سبيله للوصول إلى وجهته، فقد كان العرب يسيّرون قوافلهم في الصحراء، في تلك البراري التي تتشابه عليهم في الليل، فتصبح السماء بنجومها وكواكبها هي الدليل المرشد لمعرفة الاتجاهات والطرق، لذلك غاصوا في أعماقها تأملاً وبحثاً، ودرساً، حتى أصبحت جزءاً أصيلاً من تقاليد ثقافتهم وأدبهم، وبلغوا في معرفة منازل النجوم والقمر والأنواء مبلغاً عظيماً تجاوز الكثير من الأمم والحضارات السابقة. 

وفي هذا يقول المحقق عزة حسن في مقدمة تحقيقه لكتاب "الأزمنة والأنواء" لأبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل، المعروف بابن الأجدابي (ت 470هـ)، أن العرب قديما في بواديهم الفسيحة كانوا في حاجة شديدة إلى معرفة الكواكب الثابتة، ومواقع طلوعها وغروبها، لأن طبيعة الحياة في بيئة الصحراء كانت تضطرهم إلى الارتحال دائما من مكان إلى مكان طلبا للماء والمرعى. وكانت شمس الصحراء الساطعة اللاهبة كثيرا ما تضطرهم إلى السرى، وهو الرحيل في الليل، لينجوا من لهبها في النهار. فكانوا يقطعون الفيافي الموحشة، والغلوات البعيدة، في ظلام الليالي، مهتدين بالنجوم اللامعة في قبة السماء. ولولا هذه النجوم التي ترعاهم، وتهديهم السبيل المقصود، لضلت قوافلهم، وهلكت أموالهم من الإبل وغيرها، بين كثبان الرمال المتشابهة والمتلاحقة كأمواج البحر المترامية على مدى البصر وإلى هذه الحقيقة الكبرى تشير الآية الكريمة: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ).

كما "كان العرب في حاجة ماسة إلى معرفة أحوال الهواء، وأوضاع الشمس والقمر، وتغير فصول السنة، وما يحدث في الجو من حوادث في هذه الفصول، من نشوء السحاب، وسقوط الأمطار، وهبوب الرياح، واشتداد البرد، وإقبال الحر، وغيرها من عوارض الطبيعة التي تعرض في أوقات معلومة من السنة. ذلك لأن طبيعة حياتهم في بيئة الصحراء كانت تجعل قوام حياتهم مرتبطا ارتباطا وثيقا بهذه الحوادث أيضا. فقد كانوا يحيون ويسعدون بالغيث والكلأ في خصب الزمان. وكانوا يشقون ويضيق عيشهم بانحباس الغيث وانقطاع الكلأ في جدب الزمان".

كان العرب يسيّرون قوافلهم في الصحراء، في تلك البراري التي تتشابه عليهم في الليل، فتصبح السماء بنجومها وكواكبها هي الدليل المرشد لمعرفة الاتجاهات والطرق، لذلك غاصوا في أعماقها تأملاً وبحثاً، ودرساً

الأنواء ومواسم العرب

ويكشف لنا ابن قتيبة الدينوري (ت 276هـ) في كتابه النفيس "الأنواء في مواسم العرب" جانباً من معرفة العرب قبل الإسلام بالنجوم والأفلاك، وعنايتهم بالأبراج، ومنازل القمر، حيث يقول في مقدمته: "هذا كتاب أخبرت فيه بمذاهب العرب في علم النجوم: مطالعها، ومساقطها، وصفاتها، وصورها، وأسماء منازل القمر منها، وأنوائها، والفرق ما بين يمانيها وشاميها، والأزمنة وفصولها، والأمطار وأوقاتها، واختلاف أسمائها في الفصول، وأوقات التبدي لتتبع مساقط الغيث وارتياد الكلأ وأوقات حضور المياه، وما أودعته العرب أسجاعها في طلوع كل نجم من الدلالات على الحوادث عند طلوعه... وإني رأيت علم العرب بها هو العلم الظاهر للعيان، الصادق عند الامتحان، النافع لنازل البر وراكب البحر وابن السبيل... ويقال إن أعلم العرب بالنجوم هم بنو كلب، وبنو شيبان، وإن العلم من كلب في بني مارية: ومن شيبان في مرة.. وصحبني رجل من الأعراب في فلاة ليلا، فأقبلت أسأله عن محال قوم من العرب ومياههم؛ وجعل يدلني على كل محلة بنجم، وعلى كل ضياء بنجم. فربما أشار إلى النجم وسماه، وربما قال لي: تراه. وربما قال لي: ولِ وجهك نجم كذا، أي اجعل مسيرك بين نجم كذا حتى تأتيهم. فرأيت النجوم تقودهم إلى موضع حاجاتهم، كما تقود مهايع الطريق سالك العمارات".

وهذه الطريقة العربية القديمة في استخدام النجوم والأفلاك وأجرام السماء لمعرفة الطرق والاتجاهات، تشابه اليوم أجهزتنا التقنية المتطورة، من أجهزة الملاحة، وبرامج تحديد الاتجاهات، فهي تقوم على الفلسفة نفسها، وتستند إلى المنطق ذاته.

الطريقة العربية القديمة في استخدام النجوم والأفلاك وأجرام السماء لمعرفة الطرق والاتجاهات، تشابه اليوم أجهزتنا التقنية المتطورة، من أجهزة الملاحة، وبرامج تحديد الاتجاهات.

النجوم في الذاكرة العربية

وفوق عناية العرب القدماء بالنجوم، إلا أنهم جمعوا الأفلاك والكواكب في قصص وأساطير، تعبر عن حكاية كل نجم وصلته بالنجوم الأخرى، في مشهد بديع يربط صورة الفضاء بحكايات الناس، ومن ذلك قصة "نجم سهيل" عند العرب، ذلك النجم الشهير في الذاكرة العربية، الحاضر في أمثالها، وأشعارها، وتبدأ القصة من الجزيرة العربية، عن سهيل ذلك الشاب اليمني الذي قتل شخصا سُمّي "نعش"، فحملته بناته السبع في النعش ودرن به، وأقسمن أن يأخذن بالثأر، لكن سهيل حاول إقناعهن بأن مَن قتل والدهن كان شخصا آخر وهو الجَدْي، ثم هرب.

Shutterstock

بعد ذلك تزوج سُهيل من فتاة تُدعى الجوزاء، إلا أنه وقع معها في خلاف فضربها، ثم هرب أقصى الجنوب، وكانت له أختان، هما الشعريان، تبعته كلٌّ منهما، لكن كان هناك نهر في طريقيهما، عبرته إحداهما (فسُمّيت العَبور)، ولم تتمكَّن الأخرى من العبور فحزنت وبكت حتى غمصت عيناها (وسُمّيت بالغُميصاء)، وكل هذه أسماء للنجوم، اجتمعت في الأسطورة العربية، التي أصبحت جزءاً عميقاً من شعر العرب، وفي ذلك يقول الزير سالم، المهلهل بن ربيعة التغلبي، في رثاء أخيه كليب:

كَأَنَّ الْجَدْيَ جَدْيَ بَنَاتِ نَعْشٍ      يكبُّ على اليدينِ بمستديرِ

وَتَخْبُو الشُّعْرَيَانِ إِلَى سُهَيْلٍ            يَلُوحُ كَقُمَّة ِ الْجَبَلِ الْكَبِيرِ

ولا ننسى بيت المتنبي في قصيدته الشهيرة:

أُحادٌ أَم سُداسٌ في أُحادِ          لُيَيلَتُنا المَنوطَةُ بِالتَنادِ

كَأَنَّ بَناتِ نَعشٍ في دُجاها      خَرائِدُ سافِراتٌ في حِدادِ

إن قصة العرب مع السماء والنجوم، قصة عميقة تتجلى بصور بديعة متنوعة، بدأت تلك العلاقة بالحاجة والضرورة، ثم ارتبطت بالشعر والأدب والخيال والأسطورة، ثم تحولت إلى فضاء لتطور العلوم والمعرفة، وانطلاق النهضة والحضارة.

font change

مقالات ذات صلة