للاستدامة أعداؤها

هيا نحتفل بيوم البيئة العالمي

للاستدامة أعداؤها

العالم منهك من عوامل تغير المناخ. هذه حقيقة لا لبس فيها. وقد ازدادت حدة هذه العوامل بسبب الجفاف والفيضانات والحرائق وارتفاع منسوب البحار والعواصف القاسية غير المعهودة، ناهيك بالزلازل وغيرها في السنوات الأخيرة.

على الرغم من أن تغير المناخ يحتل حيزا كبيرا جدا في النقاشات والمفاوضات والاتفاقات الأممية والدولية والمؤتمرات السنوية والدراسات والنظر في المسببات والنتائج وسبل العلاج على كل المستويات، فإن الأرقام الجلية والمقاربات الجدية لا تبشر بالخير.

هل ذلك كله لغو أم نفاق أم عجز؟ أم هي لعبة مصالح تبدأ وتنتهي وفقا لميزان الخسارة والربح المادي، دولا وشركات وأفرادا؟

للدول أجنداتها

لم تكد الحرب تندلع بين روسيا وأوكرانيا حتى شهدنا ارتباكا أوروبيا لتعويض النقص المستجد في الطاقة لتأمين الكهرباء والتدفئة وتشغيل المصانع، ولم تتردد بعض الدول، مثل المملكة المتحدة وألمانيا، لحظة واحدة في إعادة تشغيل مناجم الفحم لديها التي كانت أحيلت على التقاعد بذريعة انتهاج التحول المستدام الى مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة. عند أول مفترق، فجأة، نسيت أوروبا كل وعودها وارتعدت خوفا من البرد والثلج! ولم يعد هناك حساب لأهداف انبعاثات الغازات الدفيئة وارتفاع حرارة الأرض، ولا للأجندات البيئية المشتركة التي لم تثبت جدواها حتى الساعة ولا تناغم واضعيها ولا التزام أطرافها بتحقيقها.

نسيت أوروبا كل وعودها وارتعدت خوفا من البرد والثلج! ولم يعد هناك حساب لأهداف انبعاثات الغازات الدفيئة وارتفاع حرارة الأرض، ولا للأجندات البيئية المشتركة التي لم تثبت جدواها حتى الساعة ولا تناغم واضعيها ولا التزام أطرافها بتحقيقها

في الولايات المتحدة مثلا، التي كلفتها عوامل تغير المناخ نحو 165 مليار دولار في العام المنصرم وحده، تكتسب معاداة الاستدامة زخما متزايدا بحسب "كرلايل"، وهي شركة لإدارة الأسهم، وترى المشرعين، خصوصا الجمهوريين منهم، يعملون على إصدر قوانين مناهضة لخطط الإدارة الديموقراطية، تتطلب من صناديق التقاعد الحكومية سحب استثماراتها من مديري الأصول الذين يفرضون معايير بيئية ترتبط بالمناخ أو المساواة العرقية في استثماراتهم، ولا سيما أن أي تدقيق من شأنه أن يؤدي إلى مقاطعة محتملة لصناعة الوقود الأحفوري قد يؤثر سلبا على جمع الأموال والعائدات في نظرهم. وقد سحبت استثمارات بأربعة مليارات دولار من شركة إدارة الأصول "بلاك روك" بسبب هذه المخاوف وفقا لرئيسها التنفيذي لاري فينك. ولم يقف الأمر عند ذلك، فقد تعرضت "بلاك روك" ومنافستها "ستيت ستريت" للتوبيخ بسبب سياسات الاستثمار المستدام الخاصة بهما في جلسة استماع تشريعية في تكساس في ديسمبر/كانون الأول الماضي لـ"كبح جماحهما" عن النظر في أداء الشركات المستدام. ولم تنج لجنة الاوراق المالية والبورصات في الولايات المتحدة من الموقف نفسه. ليس ذلك موقفا عابرا، أو شأنا محليا فقط، فلهذه الشركات امتداداتها العالمية ووزنها الكبير في أسواق الأسهم وإدارة الأصول. فإذا كان هذا موقف أعظم دولة في العالم، فماذا يسعنا أن نرتقب من بقية الدول، الغربية تحديدا، التي تزعزعت اقتصاداتها وعصف بها التضخم ورفع الفوائد إلى حد الاختناق في أقل من عام واحد!

ها هم أكبر مديري الأصول في "وول ستريت"، "بلاك روك" و"بلاك ستون" وشركات الأسهم الخاصة والوسطاء يحذرون من انتفاضة رأسمالية، وبروز ردود فعل عكسية ووجهات نظر متباينة ضد "الاستثمار المستدام"، وارتفاع حدة الخلاف حول مبادئ "البيئة والمجتمع والحوكمة" ESG

تململ الشركات الأميركية

 أما الشركات، خصوصا العملاقة المتعددة الجنسية، ذات التأثير الكبير على الاقتصادات والأسواق بل والمجتمعات وأنماط العيش، فالقصة مختلفة وأشد وقاحة. فبعد سنوات من مؤتمرات وقمم "الاستثمار المسؤول" في تحديث التقنيات وتعديل الاستراتيجيات وتضمينها شروط الاستدامة والمعايير الاجتماعية والأخلاقية، وحملات الترويج الرنانة، ها هي الشركات تبدي تململها من اعتماد شروط الاستدامة في استثماراتها، حتى أنها بدأت تصنفها في خانة الخطر على البقاء، أو الأصح، الخطر على الأرباح. وها هم أكبر مديري الأصول في "وول ستريت"، "بلاك روك" و"بلاك ستون" وغيرها، وشركات الأسهم الخاصة والوسطاء يحذرون من انتفاضة رأسمالية، وبروز ردود فعل عكسية ووجهات نظر متباينة ضد "الاستثمار المستدام"، وارتفاع حدة الخلاف حول مبادئ "البيئة والمجتمع والحوكمة" (Environmental, social and governance - ESG) التي تحولت إلى تهديد فعلي للأداء المالي للشركات! 

برزت اسماء شركات عريقة في هذا الإطار منذ عامين، منها "أبل" و"أمازون" و"مايكروسوفت" و"ديزني"، التي لطالما أطلقت وعودا لمعالجة أزمة المناخ، في احتشادها إلى جانب شركات ومجموعات أخرى لمحاربة تشريعات مناخية في الولايات المتحدة اقترحها الديموقراطيون ورصدت موازنة تاريخية عام 2021 بـ 3,5 تريليون دولار لاتخاذ إجراءات غير مسبوقة لمكافحة الاحتباس الحراري.
  
اعتراف صارخ

لكأنه اعتراف متأخر، ولكن صريح، بأن مكافحة تغير المناخ مكلفة جدا بحيث لا تقوى الدول ولا الشركات على تحمل فاتورتها وسط الأزمة الاقتصادية العالمية الضاغطة، والشح في التمويل والحاجة لمضاعفة الأرباح تجنبا لتراجع الأعمال أو انهيارها. لكأنه أيضا استسلام علني للغرق في أتون تغير المناخ. ولتتحمل الأجيال المقبلة ما ينتظرها من جوع وكوارث وأهوال. 

إذا تأملنا ما توصلت إليه "بلومبرغ" في أن مقياس "البيئة والمجتمع والحوكمة" (ESG) لا يقيّم تأثير الشركة على البيئة والمجتمع فعلا، ولكن على العكس من ذلك، يقيّم التأثير المحتمل للعالم على الشركة ومساهميها، كما ذكرت "هارفرد بزنس ريفيو" قبل نحو سنة، أدركنا أن أول أسس الفشل ينطلق من هنا، حيث يطغى طمع الربح على حساب الضرر الناجم عنه.      

"أبل" و"أمازون" و"مايكروسوفت" و"ديزني" التي لطالما أطلقت وعودا لمعالجة أزمة المناخ، صارت تقف خلف شركات ومجموعات أخرى لمحاربة تشريعات المناخ في الولايات المتحدة!

في استطلاع أجرته شركة "برايس ووترهاوس كوبرز" في ديسمبر/كانون الأول، أن المستثمرين العالميين يضعون الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية ضمن أولوياتهم الاستثمارية الخمس الأولى، إلا أن 81 في المئة منهم اشترطوا عدم خسارة أكثر من نقطة مئوية واحدة من عوائدهم أو أقل، للموافقة على المضي في اعتماد أهداف الـ"ESG"، سواء تلك المتعلقة بالشركة أو تلك التي لها تأثير إيجابي على المجتمع!

وعي الأفراد مفتاح الحل؟

من يتابع الأزمة الاقتصادية الراهنة وتداعياتها القاسية، ربما يتعاطف مع هذه التوجهات والأولويات، لكن سيفوته حتما أن جزءا كبيرا مما نعيشه الآن هو ترجمة لتقاعسات الماضي والتهرب من المسؤوليات والالتفاف على المبادئ وقواعد العمل المستدام. فإن استمررنا في ذلك، فلن نحصد إلا المزيد من المآسي وضياع الفرص في وقت لا تنفع فيه يقظة ضمير ولا تضافر جهود ولا حلول براقة. تقدر "ديلويت" تكلفة عدم مواجهة تغير المناخ بـ178 تريليون دولار عالميا بحلول 2070 في مقابل مكاسب اقتصادية بـ43 تريليون دولار خلال العقود الخمسة المقبلة إذا توحدت الدول لتسريع العمل على التحول إلى الحياد الصفري لانبعاثات الكربون، مما يمثل نموا بـ3,8 في المئة. وبين اقتصاد ميلتون فريدمان الذي يكرس الأرباح والاقتصاد الأخضر القائم على الاستدامة، يأتي دور الفرد الواعي والمدرك، الحاكم لخيارات الشركات ومستقبلها وسياسات الدول وقوانينها.

بعد هذا كله، هيا نحتفل غدا بيوم البيئة العالمي وكل عام وأنتم بخير! 

font change