"الزوامل" الحربية مرآة الجماعات المتناحرة في اليمن

تعكس الخطاب السياسي والعقائدي

REUTERS
REUTERS
يمنيون يؤدون رقصة البراء التقليدية في ساحة دار الحجر أو القصر الصخري الذي بني في ثلاثينيات القرن الماضي، في صنعاء، اليمن، 26 مايو 2023.

"الزوامل" الحربية مرآة الجماعات المتناحرة في اليمن

حضرموت/ اليمن: ما إن انفجرت الحرب في اليمن سنة 2015 بين ميليشيا جماعة "أنصار الله" الحوثية والقوات الموالية للرئيس السابق علي عبد الله صالح من جهة، والقوات الحكومية الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي من جهة أخرى، حتى احتدمت حرب أخرى موازية محمومة يمكن تسميتها حرب الأهازيج والأناشيد الحربية، أو حرب "الزوامل" على ما تسمى هذه الأهازيج بالمحكية اليمنية.

وفي خضم الحرب تنافست القوى اليمنية المتحاربة وتسابقت على تشجيع هذا اللون من الأناشيد، وصناعتها، مرفقة بأفلام فيديو، وبثها على وسائط التواصل الاجتماعي ومنصاته. وقد استخدم هذا المنتج نفيرا أو صرخة حربية، لشحذ همم الأنصار وتحشيدهم، ولإذكاء حماسة المقاتلين.

ظهر جليا أن المراقب يمكنه اعتماد هذه الأهازيج معيارا لقياس توجهات القوى السياسية اليمنية القائمة والمشارِكة في الحرب، موقعها وحجمها وغاياتها.

تنافست القوى اليمنية المتحاربة على تشجيع هذا اللون من الأناشيد، وبثها على وسائط التواصل الاجتماعي ومنصاته. وقد استخدم هذا المنتج نفيرا أو صرخة حربية، لشحذ همم الأنصار 


أهازيج القوى المتطرفة

تُسخِّر القوتان المتطرفتان (أنصار الله الحوثيون، وجماعة أهل السنة التكفيرية) "الزوامل" أداة أساسية فاعلة لبثّ الحماسة القتالية في مقاتليهما وأنصارهما. وهما تستخدمان الخطاب الحربي في أناشيدهما وأهازيجهما بقوة لافتة، جديدة وفتية، فيتفوق تأثيرها في جمهورهما على تأثير أهازيج سواها من القوى اليمنية الأخرى.

هناك من يقول إن هاتين الجماعتين و"زواملهما" الحربية، تشكلان عدوين متشابهين ومتكافئين. يتجلى ذلك في تشابه عقيدتيهما ومشروعيهما المتطرفين، وفي استعمالهما الدين والأهازيج الحربية لحيازة السلطان السياسي بقوة السلاح.

الحوثيون: نسج "الإعلام الحربي" الحوثي أناشيده على منوال ما عُرف بـ"الصرخة الحوثية" الشهيرة التي تندّد بأميركا وإسرائيل وتتوعدهما على إيقاع أهازيج تبث الحماسة في مقاتلي الجماعة الفتيان: "الموت لأميركا الموت لإسرائيل/غزة بيروت صنعا/ نينوى طهران درعا/ كبرت بالفتح جميعا/ للصلاة القدسُ محور". هذا مقطع تنشده الفرقة الحوثية في واحد من كليباتها الكثيرة. 

في فيديو كليب آخر طفل يخطب وسط حشد من المهللين المصفقين على طريقة عبد الملك الحوثي وحسن نصرالله من قبله: "حاضرون للتضحية، مشتاقون للشهادة".

تدعي الأيديولوجيا الحوثية أنها "مسيرة قرآنية" مقرونة بعقيدة قتالية حربية، وبتطلعات سلطوية لحكم اليمن كله، بل ربما أبعد من ذلك. مطابخ ما يسمى "إعلام الجهاد الحربي" التابع للجماعة، حولت تلك العقيدة إلى "زوامل" بالمحكية اليمنية وإلى أناشيد بالفصحى. يلتقي النوعان في نسبة الجماعة إلى آل البيت النبوي، لإضفاء القداسة على الدعوة الحوثية. وعلى منوال كليبات "حزب الله" الحربية في لبنان، والمتفاخرة بأنواع الأسلحة والصواريخ وطائرات الدرون، صنع الحوثي كليباته. ويتبدى في "الزوامل" بالمحكية اليمنية وفيديوهاتها، خلط السرديات الدينية بإرث المجتمع اليمني القبلي الغارق في محليته وأسلوب حياته المغلق.

أهل السنة التكفيريون: هم فصائل سلفية مقاتلة تنتمي جذورها الأيديولوجية إلى جماعات الأفغان العرب والقاعدة "التائبين"، كما قيل. "زوامل" هذا الفصيل وأناشيده القتالية تعكس مكانته وصوته اثناء الحرب. وهي لا تختلف عن النهج الحوثي في استدعاء سردية الدين والقتال المقدس. نزعة الفرز المذهبي بين السنة والشيعة، في سياق خطاب عنفي تهديدي يسوّغ القتال ويرفعه إلى مرتبة واجب إلهي، يتكئ على القبلية والعشائرية.

لكن الفرق بين هذين العدوين المتكافئين أن القبلية في أهازيج التكفيريين السنّة تجعل مدار النسب "قبيلة سلفية" ممتزجة بخطاب التكفير وقداسة قتال المخالفين.

EPA
يمنيون يؤدون رقصات خلال احتفال الذكرى 33 لتوحيد اليمن، في صنعاء،  22 مايو/ أيار 2023. 

الجنوب والحرك الجنوبي

في بداية الحرب انتشر انتشارا واسعا شريط فيديو ترافق صوره أهزوجة "منصورة يا جنوب". يصور الشريط ضابطا وجنوده من حرس الرئاسة في جنوب اليمن، راقصين قرب مدرعة بكامل زيهم العسكري وأسلحتهم. فآنذاك كان الجنوبيون مزهوين بما يحققونه من انتصارات، ويوشكون على طرد الميليشيا الحوثية من مدينة عدن وتحرير المناطق الجنوبية الأخرى التي اجتاحتها.

وكانت بعض فصائل الحركة الجنوبية قد تحالفت مع "الحكومة الشرعية" في غمار الحرب وبسببها. لكن تلك الفصائل في الواقع أشتات في مشاريعها السياسية وتحالفها مع الشرعية موقت ومرحلي يفرضه مسار الحرب وأجندة أطرافها الداخليين والخارجيين.

وفي سياق هذا التنافس الأناشيدي القتالي المحموم قد تنفرد فصائل ما كان يسمى "الحراك الجنوبي السلمي" الذي ورثه سياسيا فصيل "المجلس الانتقالي الجنوبي". اشتركت هذه الفصائل الحراكية في الحرب وأظهرت بأسا وأنجزت انتصارات على الحوثي بتحريرها مناطق الجنوب من قبضته بدعم من التحالف العربي. وقد تلا ذلك انخراطها في المشهد السياسي والإداري للحكومة الشرعية.

عرف الجنوبيون الأهازيج الثورية في مرحلة مبكرة من الحراك الجنوبي السلمي. ولربما للأغنية الثورية في الجنوب تاريخ أبعد من ذلك يعود إلى حقبة التحرير من الاحتلال البريطاني، ومن ثم مرحلة الاستقلال. وسرعان ما انتشرت أغاني التبشير بالاشتراكية وحكم الرفاق و"الراية الحمراء" للمعسكر السوفياتي وحكم البروليتاريا وموجة مبالغات مناهضة الرأسمالية.

ومثلت الأغاني الثورية للحراك الجنوبي ركيزة أساسية وأداة نضالية لا تخلو منها أي فعالية أو تظاهرة أو مسيرة احتجاجية. وكان الحراك الشعبي الجنوبي يتنفس من قصائد مغناة اعتنى بها مؤلفوها وملحنوها وأشهرهم الفنان المحترف عبود الخواجه الذي أخرج أعمالا فنية متكاملة من حيث الشعر واللحن والأداء.

ولطالما ألهبت تلك الأغاني ساحات الاحتجاج الجنوبي السلمي وغذت عقيدته النضالية، مجسِّدةً مشهد الكوارث التي حلت بالجنوب ورافقت الوحدة، مذكِّرةً بما آلت اليه أوضاع الجنوبيين بعد العام 1994، وصولا إلى غزو الميليشيا الحوثية وقوات علي عبدالله صالح عدن في 2015.

لكن يبدو أن الأغنية الجنوبية الثورية أو النضالية أصابها الترهل بسبب نزوعها إلى تمجيد الزعامات الجنوبية في المشهد الحالي. وذلك بإضفائها هالات تجاوزها الزمن في تمجيدها الزعيم الفرد الملهم واختزال الشعب فيه على الطريقة الحوثية. لذا تبدو هذه الأغاني باهتة لا جمهور لها ولا تُسمع إلا في مناسبات وأوساط فئات ضيقة من المناصرين، لصيقة بمصالحهم ضمن هذا الطرف أو ذاك.

يعود تاريخ الأغنية الثورية في الجنوب إلى حقبة التحرر من الاحتلال البريطاني، ومن ثم مرحلة الاستقلال. وسرعان ما انتشرت أغاني التبشير بالاشتراكية وبحكم الرفاق و"الراية الحمراء"

أحزاب شاخت وخرجت من السباق

تندرج في هذه الفئة أهازيج حزبين شائخين:

  • حزب "المؤتمر الشعبي العام"، وهو حزب سلطة علي عبدالله صالح سابقا.
  • "حزب الإصلاح"، وهو حزب الإخوان المسلمين، وشريك "المؤتمر" اللصيق.

اعتور مواقف الطرفين ومكانتهما ضعف وتذبذب وتبعية وميل إلى القوى السياسية والحربية الفتية التي برزت في الشمال والجنوب.

تراجع في حرب الأهازيج أطراف انهزموا، وصمد أطراف آخرون وازدهروا. وكان أول المتوارين والمهزومين في التنافس وسباقه "حزب المؤتمر الشعبي العام" الذي عرف مجدا سابقا.

فزعيم حزب المؤتمر علي عبدالله صالح كان قد افتتح عهد حكمه واستتاب أمر السلطة بيده بـ"أوبريت" غنائية ضخمة عنوانها "خيلت (رأيت) براقا لمع". وقد نفذت لوحاتها في احتفال مهرجاني استعراضي عشية سيطرة صالح وحزبه وجيشه على اليمن بعد حرب العام 1994 الشمالية على الجنوب. واستلهمت أهازيج الأوبريت القتالية إرث القبائل اليمنية في حروبها، ومقولة صالح الشهيرة: "تعميد الوحدة بالدم". ولم يكن ذاك الدم سوى دم الجنوبيين شركائه في قيام الوحدة.  

لكن مصيرا دراماتيكيا لاحق صالح في تنقيله قدميه على رؤوس "ثعابين اليمن"، حسب توصيفه التعريضي للقوى والأحزاب السياسية إبان حكمه. فهو دسّ قدميه هذه المرة  في عمق جحر ثعابين الحوثي التي أنهت مصيره مقتولا. وهكذا تشرذم حزبه وتفرقت قياداته بين جماعات الاحتراب (قوى الشرعية، وجماعة الحوثي، والمجلس الانتقالي الجنوبي).

AF
مقاتلون يمنيون موالون للحكومة في شاحنة صغيرة بالقرب من حي حارب في 25 يناير/ كانون الثاني 2022 بعد طرد المتمردين الحوثيين.

وكان صالح قد جعل مدّاحيه شعراء في بلاطه. لكن حال العجز والتردي والإرتباك والانكشاف التي أصابت حزب المؤتمر الشعبي وزعيمه، أدت إلى أفول نجم أناشيده وأهازيجه الحماسية وسط تذبذبه.

أما حزب الإصلاح اليمني (الإخوان المسلمون) الطرف الأساسي في مشهد الحرب، ونصيبه هو الأكبر في ما يسمى حكومة الشرعية وقرارها، فكان قبلها نظيرا سياسيا لحزب صالح وشريكه في رسم مشهد النزاع والاقتتال في اليمن. وذلك منذ إعلان الوحدة ومن ثم الحرب على الجنوب، وما تبعهما من تدابير ظالمة ضده وتقاسم أرضه وثرواته بين قيادات حزب الإصلاح والمؤتمر حليفي الحرب آنذاك. وعبر جناحهما العسكري المتمثل بالجنرال علي محسن الأحمر، خاض الشريكان "الحروب الست" ضد الحوثيين. لكنهما افترقا وقفز حزب الإصلاح من سفينة تحالف المصالح إلى ساحات ما سمي "الربيع العربي" في سياق مواقف الإخوان المسلمين الانتهازية المعروفة في سردية "الربيع الثوري" واحتضاره. وقد راحت أهازيجه وأناشيده تحتضر وتتلاشى في سياق الحرب المتناسلة منذ 2014.

وهناك إلى ذلك الجذور العقائدية التي تمنع أو تحرّم على الإسلام السياسي (حزب الإصلاح الإخواني) أن ينحو إلى الفن والغناء والأهازيج، إلا في استخدامات مشوهة ووظيفية تناسب خطابه الموجه: يقوم "المونولوجيست" والمؤدلجون في مطابخ صناعة خطاب الحزب ورسائله بالسطو على ألحان تراثية وأغان معروفة وانتحالها وتحوير كلماتها بما يناسب الرسالة الأيديولوجية والسياسية لحزبهم. وهم يؤدّون هذه الأغاني على نحو أقرب إلى التهريج، ولا علاقة له بالفن ولا بتراث الأهازيج اليمنية.

font change

مقالات ذات صلة